نبي في السوق
د. محمد جميح
د. محمد جميح
 في مراكز الأبحاث العالمية يُدرَّس ما جاء به نبي الإسلام محمد، عليه الصلاة والسلام. في البرلمانات الغربية يتردد ذكره، في المحافل الصحافية وعلى شاشات التلفزة له وقع خاص، مستشرق كبير يقول «مشكلته أنه رجل لا يدير خده الأيسر إذا ضرب على خده الأيمن»، وآخر يقول عن أتباعه «ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم منهم». وثالث يراه «مشكلة»، ورابع يراه «الحل».
وأياً كان الموقف منه، فإنه النبي/الرجل الأكثر بحثاً في الجامعات، وهو الأكثر ذكراً بين نظرائه على ألسنة المهتمين بالشؤون السياسية والدينية، ولا يزال اسمه يتصدر أسماء المواليد في أغلب دول الشرق، بما في ذلك إسرائيل.
محمد بالنسبة لكثير من خصومه لغز محير، لا يمكن القضاء عليه، ولا يمكن القـــبول به، لا يمكن إنكار عظمته، ولا يمكن الإيمان بما جاء به، لا يمكن تجاهل «معــــماره المنطقـــي»، ويصعب الخضوع لمنطقه، لا يمكن التخلص منه، ولا التعايش معه. ولكلٍ أسبابه في التعاطي سلباً أو إيجاباً مع تلك الشخصية «التي لا تزال بعد أكثر من ألف وأربعمئة سنة، تستعصي على الذهاب إلى متاحف التاريخ. هناك – بالفعل – ضرب من الرجال لا يمكنه أن يعيش في المتاحف، ولا يمكن لتعاليمه أن تكون حبيسة رفوف المكتبات.
وسبب استعصاء محمد على الانطواء – في رأيي – أنه نبي واقعي. نبي حرر الدين من الخرافة والأسطورة، والفكر اللاهوتي المحلق في تعقيدات غيبية أشبه ما تكون بملاحم الإغريق، وتهويمات الأمم البائدة. جعل محمد الدين واقعياً، قريب المأخذ، سهل الفهم، بسيط الفكرة، كالبادية التي نشأ فيها. قضيته الدينية غير معقدة، تتلخص في وجود الإله الخالق والإنسان المخلوق، وأن الإنسان يصل إلى الله مباشرة بدون وسائط، ولكن بإيمانه وعمله الصالح، وهذا ما ساعد على كون الإسلام أكثر الأديان قبولاً وواقعية.
كان محمد شخصية تاريخية واقعية، رغم بعض المحاولات التي أسبغت عليه «سربالاً» أسطورياً، نفاه هو نفسه. لم يكن محمد أحد الأبطال الأسطوريين الذين نقرأ عنهم في ملاحم الإغريق القديمة، ولا كان أحد الذين صنعتهم الفانتازيا التاريخية، التي يعاد إنتاجها بين الحين والآخر بشكل موغل في الخرافة. كان رجلاً حقيقيا، عاش بين القرنين السادس والسابع للميلاد، حدثنا التاريخ كيف كان مأكله ومشربه وملبسه، وبرنامج عمله اليومي، وإضبارة اهتماماته، والاستراتيجيات والتكتيكات التي وظفها، وعلاقاته الشخصية وحياته الأسرية. حارب وسالم، انتصر وتراجع، ضحك وبكى، غضب ورضي، ومارس طبيعته البشرية، بالإضافة إلى وظيفته الرسالية بدون تناقض يذكر. سيرته واضحة بكل تفاصيلها، بما في ذلك حياته الخاصة التي لم يستح من تسجيلها للتاريخ. هو نبي يمشي في الأسواق، ويمارس أنشطته البشرية اليومية، يبيع ويشتري، ويحتك بالناس في الطرقات والمحلات التجارية، ويمازح أصحابه وأفراد أسرته، وكان يصرح بحبه للنساء، بدون أن يظهر نمطاً «رهبانياً» لحياته الشخصية. وهو معروف بوجوده التاريخي الواقعي في حين أن كثيراً من نظرائه غير معروفين خارج إطار كتبهم الدينية.
كتبت باتريشا كرون المستشرقة المتخصصة في تاريخ صدر الإسلام، التي كانت تميل إلى التحامل على محمد: «نحن نعرف عن محمد أكثر مما نعرف عن عيسى ناهيك عن موسى وبوذا».
تتحدث الدراسات اللاهوتية عن ضرب من الأنبياء السابقين، «أنبياء البراري»، وعلى رأسهم «يوحنا المعمدان»، أو النبي يحيى، الذي كان «صارخاً في البرية»، ولم يقض وقتاً كافياً مع الناس، ولكنه كان يقضي الوقت الأطول في التعبد والاتصال بالإلهي، بعيداً عن حياة الشرور التي كانت على أيامه. ونتذكر في التاريخ الديني الإسلامي الكثير من المتصوفة الذين انقطعوا للزهد والتصوف والعبادة، بدون أن يكون لهم دور حقيقي في حركات الإصلاح السياسي والديني، وقبل متصوفة المسلمين، شهدت المسيحية «حركة الرهبنة» التي كانت بعيداً عن الواقع بشكل جعل ما يروى عنها ضرباً من السرد الخيالي المحض.
وجاء محمد. فأنزل الأديان من قمم «جبال الأولومبس» الإغريقية إلى أرض الواقع، وخلص التراث الديني من «المخيال الروائي الأسطوري»، وعجن السماء بطين الأرض، وخلط المطر بالتراب، فأخرج زرعاً آخر مختلفاً، «يعجب الزراع»، تشكيلة عجيبة ظهرت فيها السماء والأرض في «ضفيرة» واحدة. نجح محمد – إذن – في إنزال الدين من آفاق السماء البعيدة إلى تراب الأرض، نجـــــح في إعادة شخصية «النبي البشر»، مقابل «النبي الإله»، التي تعمقت بعد المسيح عليه السلام، في الفكر الفلسفي الديني. وهذا في تصوري هــو سبب بقاء الإسلام ديناً مؤثراً حتى هذه اللحظة، رغم كل محاولات الإساءة إليه، سواء من خصومه، أو من الحمقى من أتباعه، وهم الأشد وقعاً على صورة الإسلام.
وفوق ذلك وصل محمد إلى أهدافه بوسائل لا يتنبه إليها، أو لا يقدر عليها الكثيرون، على الرغم من أنها، «بسيطة وواقعية وعقلانية». كان «بوذا» يرفض حياة القصر، والإمارة، وذهب يبحث عن الله. وجاءت السلطة إلى محمد فرفضها، «لست عليهم بمسيطر»، وعرضت عليه الثروة فتركها «قل لا أسألكم عليه أجراً». وهذا هو التكتيك الناجح الذي ضمن له القبول بالإضافة إلى واقعية ما كان يدعو إليه.
أدرك محمد أن صاحب الرسالة الذي يطلب السلطة والثروة، سينشغل عن الرسالة في تفاصيل الحفاظ عليهما، ولذا رفضهما ليحرز مقام النبوة، وهو الأعلى قدماً في مراتب الروح.
والمدهش في شخصية هذا النبي/الرجل أنه كلما حاول خصومه ذر بعض الغبار على لحيته لتلطيخها، يخرج من كل معركة منتصراً، حتى بعد موته. وقد ناله من الطعن ما لم يقع على غيره، إلى الدرجة التي يوقع البعض عليه المسؤولية عن أعمال المتطرفين والإرهابيين لمجرد أنهم يرفعون راية كتب عليها اسمه. وقد رأينا الكثير ممن شنوا عليه الحرب، يذهبون إلى المدينة – لاحقاً – للسلام عليه في روضته الشريفة.
واليوم تتعالى أصوات متلفعة بأطر سياسية وفكرية وخلفيات مختلفة تقول إن سبب عدم تقبل المسلمين للحداثة العالمية يرجع إلى الإسلام. والواقع أننا حتى لو سايرنا هؤلاء في طرحهم بأن التخلص من الإسلام سيكون له أثر طيب على تقدم شعوب المنطقة، فإنهم يعجزون حتى هذه اللحظة عن الإتيان بالبديل الحداثي للإسلام، ذلك البديل الذي يمكن أن ينقلنا إلى الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط.
وتبقى بعـــد كل ذلك الحقيقة المتمثلة في أن نبي الإسلام عليه السلام ملأ الدنيا وشغل الناس، وسيظل مالئ الدنيا وشاغل الناس لآماد طويلة بشهادات لا تحصى من خصومه قبل أتباعه.

في الخميس 19 مايو 2016 04:28:46 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=42339