الذين يرمون المحصنات..
زعفران علي المهناء
زعفران علي المهناء

مأرب برس – خاص

لا أُريد بهذه الأسطر اليوم أن أكتب رواية طويلة ..... ولا أروي هنا بعض ذكرياتي ..للإستحواذ على مشاعركم واستدر عطفكم ولكنها.. أسطر للتاريخ أحببت أن أضعها بين أيديكم.

 لا أدري كيف كانت البداية أو النهاية يوم دخل علي ولدي "جميل" وهو باكورة إنتاجي وأكبر أولادي وقرة عيني ذات مساء مٌكمد اللون، أشباح الحزن تنبعث من عينيه تصحبها نظرات موجعة تتكلم بسكينة عن انسحاق قلبه، وظلمة صدره، أخذتُ أبحث في محيط البيت والعمل عن أسباب ماهو فيه ، فلم أجد تفسيراً لما هو فيه فبادرته سائلاَ:

(ما أصابك يارجل.. من أستعار اليوم بشاشة وجهك..؟ وأين ذهب اليوم كل ذلك السرور الذي كان ملاصقاَ لبشاشتك بني الحبيب..!!

 هل هو الموت الذي أفقدك عزيز..!؟

 أم هو الخداع الذي يتحلى به هذه الأيام جميع البشر قد سلبك مالاً ادخرته ..!؟ بالله عليك لا تشغل بالي يا بني.

فنظر لي نظرة أحسست أني عدتُ إلى الوراء بضع وعشرون عام .. أرعبتني.. أربكتني .. وكان رده بصوت يحمل من معاني اليأس الكثير وقال لي :إن فقدنا صديق فالكثير سيعزي ويصبر هذا الفقد !!

وإن خسرنا المال فبإتحاد عقلي ونشاطي عوضت تلك الخسارة!!

 ولكن لو ضاع على الإنسان شئ يمثل له النصف الآخر من نفسه، وروحه.... لفظها ولدي تلك الكلمات الأخيرة بصوت مخنوق ومتوجع..!!

 فوقف على قدميه مرتجفاَ، ومد يديه الباردتين، وحوّط رأسي وقبلني قبلة لا طعم لها، مستأذناَ بالرحيل واستدار وما أن وصل إلى باب غرفتي إلا ووجدت الكلمات تتسابق على أطراف لساني وتقول: أهو الحب "ياجميل" أهو الحب يا قرة عيني..؟

إلتفتَ إليّ وقد كبرت عيناه.. وجمدت أجفانه.. ثم نظر إليّ وقد تمكن منه الوجع كل التمكن.. فما كان منه إلا أن أمسك بمقبض الباب وأخذه خلفه ، تاركاً لي كل تلك الهواجس أحدّث بها نفسي .

مضى أسبوعان على تلك الليلة والفضاء بيننا ملبّداً بالغيوم، بذلت أقصى ما بجهدي .. لأقشع تلك الغيوم عن سماء ولدي .. وأعرف سر الألم الذي يسكن أعماق فؤاده، وباءت كل محاولاتي بالفشل.

 ولكني الليلة سأستجمع كل قواي وأقتحم عليه غرفته وأنتزع منه الألم إنتزاعاً ..!.

طرقت الباب طرقاً خفيفاً ودخلت ووجدت ولدي على عادته ساهماً وواجماًَ وأعدتُ الطرق على الباب وحادثته حديثاً أقرب إلى الهمس..

بني :- لا يوجد في داخل الإنسان ، عاطفة أنقى وأعذب من تلك العاطفة الخفيّة.. التي تستيقظ على حين غفلة .. في قلب الرجل .. فتملأ قلبه بالأنغام ، وتجعل أيامه، ولياليه، كأيام وليالي الشعراء، فهي من أقوى أسرار الطبيعة وأجملها.

 لفنا الصمت لبضع دقائق.. فمشيت نحوه ببطء كأن في كيانه جاذباً يستمليني.. ولما صرت على بُعد خطوات منه وقفت.. شاخصاً كأن في المكان سحراً أجمدَ ما بي من عزم، وهبط مايختلج روحي من خيال وفي تلك الدقيقة، تكلم بصوت أتى من أعماق ألمه: ألست من قال قبل نيف وعشرون عاما (( الحب كشجرة يبدأ زهراً وينتج أثماراً )) وقلت أيضا: (( أن الحب يعد واجباَ حين خص ورده)).

انتصبتُ مكاني كأن مسامير الأرض تثبت فوقي ولفني .. أنا وأبني .. سكوت مفعم، على إثرها أغمضت عيني مصغياً إلى صدى الأقوال التي سمعتها.

هب ولدي أناء ذلك رافعاً يمناه، نحو العالي كأنه يشير إلى عالم غير هذا العالم .. وأنا أفكر كيف وصل إلى "ورده".. كيف علم بخبايا هذه الأمور.. يا للفجيعه. 

الآن عرفت سر ألم إبني، وآمنت بأنه ألم يستحق أن يشغله، كل هذا الوقت ويأخذ منه كل هذا الإهتمام وأخذ يمشي.. ذهاباً ،وإياباً ..في وسط تلك الغرفة وأنا أتأمله وأفكر بكلامه..!!.

 وبدأت الحديث بصوت مسموع لأذكر متى أنصت لي ولكني بدأت الحديث... 

نعم" ورده" .... لقد أحببتها يابني حباً يفوق حب قيس لليلاه، أعجز عن تحديد متى بدأت أحبها ،ربما رضعت حبها مع حليب أمي يا بني . 

جلس قبالي وقطب ما بين عينيه وبصوت تعانقه الكآبه:- تحبها هل تجمد الزمن عند هذه الكلمة يا والدي الغالي ..؟

 سأخبرك بكل شئ ولكن عليك أن تضعني بالصورة كيف وصلت إلى ورده..؟

 تذكر يا والدي يوم حدثتك عن تلك الفتاة، التي تأتي للتدريب في مدرستنا في سنتها الأخيرة من الجامعة.

نعم بني، وأذكر كم كنت مسروراً، وأنت ترسم لي ملامح وجهاً كأنها البدر في ليلة تمامه.

إنها هي ياوالدي لقد أخذت مني كل مأخذ وبحثتُ وسألت، فوجدتها نبتة طيبة، لبذره في أرض طاهرة ومرت الأيام، ياوالدي وحبها يجالسني في المساء مترنماً بأجمل الألحان .. وينتهي عند الفجر ليريني بهجت الحياة .. فأجد نفسي ، أسير عند الشروق باتجاه جامعتها بدل أن الحق طابور الصباح لأقود طلابي إلى مقاعدهم، وكلما أمسكت بالقلم لأشرح الدروس أجد الحروف والكلمات تتراقص أمامي طربا لان الحياة (( هي )) .

وفي نهاية المطاف صممت أن أعلن أمامها بأني اخترتها دوناً عن نساء الأرض.. شريكة لحاضري وصانعة لمستقبلي ..وأمعنت النظر إلى وجهها لأرسم مشاعرها عندما أتلو عليها قراري..!!

ولكني فوجئت بأن عينيها غارت، وجمدت، وأكتحلت بالألم، ورأيت تلك البشرة التي مثل ثنايا الزنبق، إصفرت وذبلت .. رأيت كل ذلك.. يا والدي.. ولم يكن في نظري إلا كسحابة رقيقة تغازل قمري فتزيده حسناً وبهاءً .

فبقيت محدقاً ومصغياً وصامتاً لكلماتها.. التي كانت تخرج كأنها سياط إنتقى فيها الجلاد أجودها وأثمنها .. أتعرف ماذا قالت يا والدي: هل تستطيع أن تستشعر تلك الكلمات ..!!؟

 أشحت بوجهي ، وأستدرت بجسدي ، وأستندت على الكرسي محدثاً إياه.. أعرف بني ماذا قالت لك : كان ذلك منذ أكثر من خمسة وعشرون عاما، عندما غادرتُ البلاد بحثاً عن الرزق، حيث كانت الغربة هي الحل الوحيد للسعي والبحث عن الرزق ..رحلت بعد أن وعدتُ "ورده" بأني سأعود حتماً، وأتوّج غربتي بزواجي منها .. ولكن شاءت الأقدار .. أن تمتد سنوات غربتي لسنوات طوال، كبرت على إثرها "ورده" فلم تعد تلك الصبية التي تمرغ جسدها بالطين لتصبح كشكل العفريت "صياد " لتُخيف الفتيات الراعيات معها فلا يذهبن إلى الرعي إلا برفقتها فتقودهن كأجمل قائد، وكانت وحدها تستطيع أن تتسلق وتهز شجر "الدوم " وتلتقط لنا بذوره وتصنع العقود من حباته الصغيرة، كانت وحدها التي تستطيع أن تصنع هذا كله، كبرت تلك الصبية .. وأخذتُ منها العهود والمواثيق، بأن تنتظرني فإني عائد لا محاله .. وقد إبتاعت إحدى خرافها كي تتمكن من إرسال مكتوب تستعجلني بالعودة.. قبل أن يزفوها إلى من سبقني ودق الباب، ولكن حالت صعوبة الغربة عن عودتي، وعندما عدتُ بعد ذلك بسنوات وجدتها قد تزوجت فأخذني الغيض كل مأخذ..!! وبالمقابل تزوجتُ ورزقني الله بك.. ولكن ذلك لم ينسيني" ورده" وتجاهلتُ كل الألم والوجع الذي وقفته "ورده" بين أن تقف وتنتظر رجل تحبه بإرادة السماء.. ورجل تلتصق به بشريعة الأرض مأساة أليمة مضت بدموع ودماء "ورده".. لم أفهمها بل سخرت منها، فأنقلبت تلك السخرية قساوة وفُجر ما بعده فُجر ...!!.

أخذتُ أنتقم منها .. وأبثُ الإشاعات المغرضة ضدها.. معللاً لنفسي بأني بذلك أستردها لنفسي.. رميتها بأبشع الإتهامات.. ونلتُ من لحمها وعِرضها ما يندي له الجبين.. وحاربتها حربا كانت بالأصل شرائع الناس الفاسدة وعواطف القلب المكلوم.. على أثر ذلك طلقها زوجها تاركاً لها طفلتين... وهاجر خارج البلدة وأنقطعت أخباره، بعدها حاولت التقرب منها والتكفير عن ذنبي، ولكنها رحلت هي وطفلتيها وأخيها إلى المدينة.. وإلى اليوم وأنا حبيس تلك الهاوية التي أسقطتُ نفسي بها.

 قطع حوارنا رنين جرس الهاتف تجاهل ولدي ذلك الرنين، عدنا للجلوس صامتين للإنشغال كلاً منا بمعرفته برأي الأخر ..حتى إذا مرت دقائق نظر إلىّ وقال: صارحتني بكل هذا عن والدتها فقد عرفتني من إسمي، وكان إسمي مرتبط بإسمك وهو يمثل لها ووالدتها الشئ الكثير فلم يمر عليها مرور الكرام وسكت دقيقة يسترجع بها أنفاسه الحرقى.

أتعرف ماذا قالت لي في الختام قالت لي ياوالدي:

 (( قلب أمي مجروح فهو لم يتغير مع الزمن ولم يتحول مع الفصول ...!!! قلبها نازع طويلا ...!! ))

قلبها إستخدمه والدك ساحة لحروبه، مذابحه، مقتلعاَ أشجارها، وأعشابها، بعد أن لطخ صخورها بالدماء..!! 

وبقيت أمي ساكنه، هادئة، مطمئنه، حتى بعد أن هجرها أبي والآن قُضي الأمر .

 وتوارت عن ناظري عازمة أن يكون اللقاء الأخير...!! 

 فقل لي بالله عليك ماذا تفعل الآن وقد افترقنا قبل أن نلتقي ..!!.

 أبي إرفع رأسك لأرى عينيك، إفتح شفتيك لأسمع صوتك ..تكلم، خبرني ، حدثني ......

 هل جنيت ما زرعته يا أبي ...؟

 هل إنتقمت لنفسك أم ذبحتني ...؟

 هل لطخت شرفها أم ألبستني العار ...؟

قل لي يا أبي يا حبيبي .. يا مثلي الأعلى.. قل لي ماذا تكون لي بعد أن كنت نوراً لعيني، وسنداً لظهري وجناحاَ لروحي قل لي ماذا تكون ...؟

كان ولدي يتكلم والألفاظ تتصاعد بسرعة من أعماقه، وكأنها ناراً ِلظّى .. تنمو .. وتتطاير في زوايا نفسي فتحرقني .. لا أدري كيف وصلت إلى غرفتي.. وأرتميت على فراشي .. كطائر رماه صياد فسقط من كبد السماء والسهم في قلبه.. وظلت روحي تذهب وتأتي بين يقظةً مخيفه ونوم مزعج، وحال لساني يردد لأول مرة منذ أن تطلقت ورده من زوجها......

قال الله تعالى ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعِنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيم ) سورة النور(22)

  


في الأحد 03 فبراير-شباط 2008 09:11:09 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=3281