في ذكرى رحيل صدام –
عبد الباري عطوان
عبد الباري عطوان

اعترف، وربما يكون اعترافي هذا مفاجأة للكثيرين، بأنني لم اقابل الرئيس الراحل صدام حسين مطلقا، رغم انه وجه الي العديد من الدعوات الشخصية، حملها الي مبعوثون وسفراء، كانت آخرها قبل الغزو الامريكي الاخير للعراق ببضعة اشهر.  

لم اقبل الدعوات هذه لعدة اسباب ابرزها ان هذه الصحيفة التي اتشرف برئاسة تحريرها، والعمل مع نخبة من الشرفاء العاملين فيها، كانت متهمة بتلقي الدعم المالي من الرئيس العراقي، لانها كانت الي جانب بضعة صحف اخري تعد علي اصابع اليد الواحدة، التي تنبهت الي المؤامرة الامريكية ضد العراق والامة العربية مبكرا، اي منذ ان جري استخدام الكويت كمصيدة او طعم لاستفزاز العراق، حتي ان الدكتور احمد الربعي، الذي نتمني له الشفاء العاجل، تنبأ بان لا تستمر هذه الصحيفة يوما واحدا بعد الاطاحة بالنظام العراقي.  

فالذهاب الي بغداد والظهور في التلفزيون الرسمي مصافحا او معانقا للرئيس العراقي كان سيصب في مصلحة الحملات الاعلامية الضخمة والشرسة التي شيطنت النظام العراقي ورئيسه، ورصدت لها الولايات المتحدة اكثر من ملياري دولار، وكانت هذه الصحيفة، ومعظم العاملين فيها، هدفا مباشرا لها.  

السبب الآخر الذي جعلني اتردد في الذهاب الي بغداد، هو تدفق جيش من الانتهازيين، والباحثين عن دور، اليها في ذلك الوقت، وهذا لا يعني ان هناك عروبيين حقيقيين هرعوا للتضامن مع ا لشعب العراقي وادانة الحصار المفروض عليه، ولم يظهر اسم اي من هؤلاء ضمن قوائم المنتفعين من كوبونات النفط، وان كنا لا نري ضيرا من اخذ هذه الكوبونات، فمن العار ان يدان هؤلاء الذين وقفوا مع نظام محاصر رفض التطبيع مع اسرائيل وانحاز الي قضايا الأمة، وحافظ علي عروبة العراق وهويته الوطنية، بينما يحظي من كانوا علي قوائم المخابرات المركزية الامريكية، ويرتزقون من اموالها، ويتآمرون ضد وطنهم بالتكريم والاشادة.  

رفضت الذهاب الي بغداد حتي نكتب هذا الكلام وغيره بحرية مطلقة، وبراحة ضمير، وحتي يكون موقفنا مع شعب عربي عزيز محاصر غير نابع من مصلحة، او بناء علي علاقة شخصية او حزبية، منزها من اي شبهة، وخالصا لوجه الله وهذه الامة العريقة.  

اربعة مواقف رئيسية تحتم هذه المناسبة، مناسبة ذكري رحيل الرئيس صدام ان اسردها هنا للتاريخ وإبراء للذمة، ولإطلاع القاريء الذي هو دائما بوصلتنا التي لا تخطيء مطلقا:  

% اولا: لم اقف مع النظام العراقي اثناء حربه الاولي ضد ايران وثورتها الاسلامية، لانني كنت علي قناعة راسخة بانها كانت فتنة اوقعنا فيها الامريكان من اجل اضعاف الجانبين العربي والايراني، وكنت من بين القلة القليلة التي لم تتدفق علي المركز الثقافي العراقي في لندن الذي كان يديره الزميل سعد البزاز في حينها، للمشاركة في برامج تلفزيونية تشيد بقادسية صدام، وتحظي بـ المباركة في اشكال متعددة من بينها رحلات علي الدرجة الاولي الي بغداد.  

% ثانيا: بعد الاعلان عن المحاولة المزعومة لاغتيال الرئيس جورج بوش الاب اثناء زيارته الي الكويت، والقصف الامريكي العنيف الذي تبعها بساعات قليلة للعاصمة العراقية وراح ضحيته المئات من الابرياء من بينهم الفنانة العراقية البارزة ليلي العطار، اتصل بي الشيخ ناصر المنقور السفير السعودي الاسبق في لندن، وهو من الشخصيات الوطنية العربية المعروفة، وكان قد ابعد من منصبه لانه لم يؤيد سياسة بلاده الداعمة للحرب الاولي علي العراق تحت عنوان تحرير الكويت ، اتصل بي من ماربيا حيث كان يقيم متقاعدا، وقال لي ان المحطات التلفزيونية الامريكية والبريطانية ستتصل بك للتعليق علي الهجوم، فقل لهم كيف تصدرون الحكم، وتنفذونه، وتقتلون مئات الابرياء، دون ان تبدأ التحقيقات، ودون ان تعلن الكويت نفسها التي من المفترض ان تكون الجريمة قد وقعت علي ارضها، القاء القبض علي اي منهم، ودون ان توجه اي اتهام للعراق او غيره. قل لهم، والكلام للمنقور، كيف يفعلون ذلك وهم الذين يتحدثون عن الديمقراطية والقضاء المستقل واحترام حقوق الانسان.  

فعلا.. بعد برهة من هذه المكالمة اتصلت بي محطة سي. ان. ان للمشاركة في برنامج مباشر عن القصف، وكان ندي فيه شخصية سياسية امريكية كبيرة نسيت اسمها، وقلت ما قاله لي الشيخ المنقور حرفيا، وزدت عليه الكثير من آرائي المعروفة بعاطفية وانفعال طالما سببت لي الكثير من المتاعب.  

بعد اعوام نقل لي صديق رواية ذكرها السيد عزام الاحمد الذي كان سفيرا لفلسطين في العراق في حينها (رئيس كتلة فتح في المجلس التشريعي حاليا ووزير سابق)، تقول الرواية ان الرئيس صدام كان يتابع محطة سي. ان. ان والي جانبه السيد طارق عزيز (فك الله أسره) وشاهد البرنامج، والتفت الي السيد عزيز وقال له: هل هذا الشاب عراقي؟ فرد عليه بالنفي. وقال له انه فلسطيني مغترب يعيش في لندن، فقال صدام: هل هو من جماعتنا؟ ويقصد المنظمات الفلسطينية الموالية للعراق في حينها مثل جبهة التحرير العربية، فنفي السيد عزيز ان اكون كذلك، فقال صدام: هل نمول صحيفته هذه؟ فنفي ايضا وقال ان صحيفته لم تدخل العراق في تاريخها (دخلت بعد الاحتلال ويا للمفارقة). فخبط صدام علي الطاولة، وقال: طالما انه ليس منا ولا نمول صحيفته ويتخذ هذا الموقف، اذن نحن علي حق. وطلب من السيد عزيز ان ينقل للرئيس عرفات تقديره لهذا الموقف.  

% ثالثا: بعد ايام من غزو العراق واحتلاله، واختفاء الرئيس صدام حسين، تشرفت بتلقي خمس رسائل بخط يده يخاطب فيها الشعب العراقي والأمة العربية، ويعلن انطلاق المقاومة للاحتلال التي خطط لها جيدا قبل عامين من الغزو، ودرب معظم كوادرها، وترك اكثر من خمسين مليون قطعة سلاح وملايين الاطنان من الذخائر.  

نشرنا الرسائل تباعا في القدس العربي وانهالت علينا الاتهامات وحملات التشكيك من الجهات الاعلامية المعروفة، ولم تؤكد صدقية هذه الرسائل الا صحيفة الصنداي تايمز التي عرضتها علي خبير خطوط بريطاني، وقال انها فعلا كتبت بخط الرئيس صدام شخصيا، وما زلنا نحتفظ بنسخ منها مثلما وردت علي جهاز الفاكس الخاص بالصحيفة، وهو شرف كبير لنا.  

% رابعا: بعد تنفيذ حكم الاعدام بالرئيس الراحل ببضعة ايام، وصلتني رسالة الكترونية من السيد ودود فوزي شمس الدين محامي الدفاع عن الرئيس صدام، يقول فيها ان الرئيس الشهيد الذي التقاه قبل ساعات من استشهاده لأخذ متعلقاته بعد استدعائه من قبل سلطات الاحتلال الامريكية، حمّله رسالة يريد ايصالها لي شخصيا، ويطلب مني ان اتصل به هاتفيا علي رقم معين في العاصمة الاردنية عمان حتي اتسلمها.  

اتصلت بالسيد ودود فأبلغني انه التقي الرئيس الشهيد لاكثر من ثلاث ساعات وطلب منه ان يتصل بي هاتفيا ويبلغني انه ممتن جدا لكل مواقفي الداعمة للعراق وشعبه في مواجهة العدوان الامريكي، ويري ان امة فيها شرفاء مثلي لن تهزم ابدا .  

اعترف بانني تأثرت كثيرا بهذه الرسالة، وانهمرت دموعي بشكل عفوي، وانا الذي لم ابك عندما توفي والدي، وازددت تأثرا عندما ابلغني السيد ودود، وهو حي يرزق، ان الرئيس الشهيد شدد عليه وهو يصافحه مودعا علي ايصال هذه الرسالة في اسرع وقت ممكن.  

بعد عام علي رحيله، وخمسة اعوام تقريبا علي احتلال العراق، نري عراقا ممزقا محتلا، تحول كله الي مقبرة جماعية تحكمه الميليشيات الطائفية وفرق الموت، ويجثم علي ترابه اكثر من مئة وسبعين الف جندي امريكي.  

الدكتور احمد الجلبي أحد ابرز المحرضين علي غزو العراق، واحد ابرز المحتفلين بلحظة التحرير، اعترف امس في حديث مع الزميلة الشرق الاوسط بان القوات الامريكية تحولت من قوات تحرير الي قوات احتلال.  

بالمناسبة ارسل اليّ الدكتور الجلبي قبل ثلاثة اعوام مساعده السيد انتفاض قنبر الذي زارنا في مقر الصحيفة يحمل رسالة تقول انهم وظفوا اكثر من عشرة اشخاص، وبحثوا في كل وثائق المخابرات العراقية لعلهم يجدون ورقة او قصاصة تؤكد صلتنا بنظام صدام ولكنهم لم يعثروا علي شيء، ولذا وجب الاعتذار. هكذا قال السيد قنبر وعرض التعاون معنا، وترك ارقام هاتفه في المنطقة الخضراء ولم نتصل به ولم يتصل بنا من حينها.  

مليون ونصل المليون عراقي استشهدوا منذ تحرير العراق، وخمسة ملايين تشردوا، ثلاثة ملايين منهم في الداخل، بسبب مجازر فرق الموت، وعمليات التطهير العرقي التي ما زالت مستمرة حتي يومنا هذا، ولا يتحدث عنها احد للأسف، خاصة اولئك الذين ساهموا في عمليات شيطنة النظام السابق تنفيذا لمهمات امريكية.  

خمسون امرأة تعرضن للاعدام في البصرة مدينة النور، بعضهن مع اطفالهن، لانهن لم يرتدين غطاء الرأس، او من طائفة او دين مختلف، وقصص التفريق بين ازواج بسبب اختلاف المذهب في (العراق الجديد) تستعصي علي الاحصاء.  

العراقي بات يحتاج الي فيزا لزيارة اربيل والسليمانية، واذا حصل عليها بعد رشاوي ووساطات، فانه مضطر للبحث عن كفيل كردي حتي يسمح له بالاقامة لبضعة اشهر. ولن يكون مفاجئا اذا ما قرأنا او سمعنا ان ابن بغداد يحتاج الي تصريح عمل في البصرة، وتأشيرة دخول الي الموصل في المستقبل القريب.  

صدام حسين بني قصورا، ولكنها بقيت للعراق مثل قصور الملك فاروق واهرام الفراعنة في مصر، وارتكب تجاوزات، وربما استخدم اسلحة كيماوية في حلبجة، ومارست اجهزته التعذيب ضد معارضي نظامه، وانتهك حقوق الانسان وهي كلها افعال مدانة، ولكن هل قدم لنا حكام العراق الجديد البديل الافضل؟ الم ترتكب حكومة المالكي مجزرة ضد جند السماء في النجف؟ الم تمارس وزارة داخلية بيان جبر التعذيب في أقبيتها ومعتقلاتها؟ ألم ترتكب القوات الامريكية (المتحضرة) ابشع انواع التعذيب في سجن ابو غريب، والفسفور الابيض في القائم والفلوجة؟  

عراق صدام حسين لم يكن ديمقراطيا دون ادني شك، ولكن هل عراق اليوم ديمقراطي؟ اليس العراق هو اكثر بلدان العالم فسادا حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية؟ وهي ليست بعثية علي اي حال، ومن لا يصدق تقارير سرقة خمسين مليار دولار من العراق الجديد، فعليه ان يحضر الي لندن ليري اين ذهبت هذه الاموال وكيف ينفقها فرسان التحرير.  

المعارضون العراقيون، والاسلاميون منهم علي وجه الخصوص، كانوا يقولون في ادبياتهم ان صدام حسين عميل للامريكان، وانه وصل الي الحكم عبر انقلاب دعمته المخابرات الامريكية. تري كيف وصل السيد عبد العزيز الحكيم والجعفري والجلبي والمالكي وعادل عبد المهدي وغيرهم الي الحكم؟ هل وصلوا علي ظهر دبابة اسلامية؟  

الرئيس صدام حسين لم يترك ارصدة سرية في سويسرا، ولا قصورا في اوروبا، ولا يخوتا فخمة في جنوب فرنسا، ويكفي ان اسرته تعيش علي الصدقات في اليمن وقطر والاردن وليبيا، صدقات وعطف الانظمة الحاكمة فيها، بينما يلعب ابناء حكام العراق الجديد بالمليارات من عوائد الفساد والنفط المهرب والصفقات المشبوهة، واموال المخابرات الامريكية.  

الرئيس صدام حسين، وفي مثل هذا اليوم، لم يذهب الي حبل المشنقة شامخا مرفوع الرأس بكل شجاعة واباء فقط، وانما ذهب الي صفحات التاريخ كزعيم عربي رفض ان ينحني لأعداء الامة، وانحاز الي الشعوب وكرامتها، وكانت آخر كلماته بعد الشهادتين تتغني بمجد الأمة وعروبة فلسطين.  

اخيرا.. احد الذين كانوا في المعسكر الآخر، واعترف بخطأ موقفه عندما زار بغداد واقام في المنطقة الخضراء لانه نُصح بعدم زيارة اهله وأسرته خارجها، لأسباب امنية، سألني: كيف حسبتموها صح؟ فكل ما قلتموه ثبتت صدقيته. قلت له لاننا لم نكن طائفيين ابدا، ولأننا انحزنا الي الامة وقيمها واخلاقها وتعلمنا من تاريخها، ووقفنا في خندقها  

 القدس العربي *


في الخميس 20 ديسمبر-كانون الأول 2007 09:06:27 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=3012