القضية الجنوبية: حقائق وأرقام
احمد طلان الحارثي
احمد طلان الحارثي

مثل القضية الجنوبية حجر الزاوية في نشاط كثير من القوى السياسية والأنظمة المختلفة ، ليس على المستوى الوطني والإقليمي فحسب ، ولكن على المستوى الدولي أيضاً ، إلاّ أن النظر إلى جوهرها ومنطلقاتها الأساسية يختلف من جهة لأخرى ، وهذا الاختلاف مبني على كثرة الجوانب التي تظهر بها هذه القضية بين الحين والآخر من جهة ، ومن حيث تعدد الأشخاص والتيارات الحاملة لها من جهة ثانية ، ومع هذا كله فإن القضية لا تخرج عن كونها قضية حقوق فردية خاصة في حدها الأدنى ، أو أن تكون حقوق جماهيرية عامة في حدها الأعلى ، أو ربما مزيج من هذا وذاك وهو الأغلب والأعم .

وعلى هذا الأساس وجب علينا أن نعيد إلى الأذهان كل ما يتردد من المفردات الكلامية التي تندرج في إطار الحديث عن هذه القضية لكي يتسنّى لنا الغوص في أعماق المشكلة من خلال العودة بها إلى جذورها التاريخية وبالتالي بيان حجم الأضرار التي نجمت عنها ومن ثم الانطلاق إلى آفاق واسعة لوضع المعالجات الصائبة وفق رؤية وطنية شاملة تضمن لكل ذي حقٍ حقه وبما يضمن عدم العودة إلى الوراء بعد أن وصلنا إلى القمة العالية والتي دفعنا في سبيل الوصول إليها تضحيات جسيمة لا يستهان بها ومن هذه المفردات : الإقصاء والتهميش والضم والإلحاق ونهب الأراضي ونهب المساكن والمواطنة غير المتساوية والاحتلال والتقاعد القسري والطرد والإبعاد ... الخ .

وإذا كان لمستخدمي هذه المفردات ما يبرر لهم استخدامها كوسائل وحجج يعتمدون عليها لإثبات حقهم في طلب الانفصال أو فك الارتباط أو التمسك بمبدأ حق تقرير المصير والعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990م كما يقولون ، فإن هناك من مورست ضدهم هذه الوسائل ذاتها خلال العقود الماضية من عهد الثورة والجمهورية ، وبات من حقهم التمسك بما تحقق لهم من إنجازات وحدوية باعتبارهم طرف أساسي يجب أن تؤخذ وجهة نظرهم بعين الاعتبار .

وبالاستناد إلى معايشتنا لفترة طويلة من عمر هذه القضية وعلى ما حفظته ذاكرة الوثائق عن تلك الفترة ، سوف نقدم بعض الشواهد على عمق المشكلة وامتدادها على مدى زمن طويل وعبر سلسلة من الصراعات والأحداث التي شهدها الشطر الجنوبي من الوطن ، وذلك من خلال نصوص منقولة كما جاءت عن مصادرها ومعبرة تعبيراً صحيحاً عن ذاتها وفق منطقها المطابق لواقع حدوثها ، ونعتذر سلفاً لكل الجهات والأفراد على السواء ، فليس غرضنا الإساءة أو التشهير إطلاقاً ، ولكن الغرض هو توضيح الحقائق وسرد الوقائع المتعلقة بموضوعنا هذا ، وسنبتعد عن ذكر الأسماء بقدر المستطاع ـــ وإن كان في ذكرها فوائد كبيرة ــــ ولن نذكرها على الإطلاق إلاّ ما تحتم ضرورة السياق ذكره ، لأن شاهدنا هنا الأحداث بمجملها وليس الأشخاص ، ولكي تسهل عملية الإعداد والمتابعة سوف يكون النشر على شكل حلقات متتالية وهذه هي الحلقة الأولى تحت عنوان :

(صراع التيارات والأجنحة الثورية (

تلعب المنطلقات الفكرية دوراً هاماً في توجيه نشاطات وجهود الأفراد والجماعات والهيئات والأحزاب وكافة التكوينات المختلفة ، وتتحكم في مجمل التصرفات والسلوكيات الدافعة إلى تحقيق الأهداف والغايات التي تطمح للوصول إليها ، وبالتالي تفرض عليها اختيار الطرق والوسائل الملائمة لمثل هذه المنطلقات .

وعلى هذا الأساس كان موقف الأحزاب والتنظيمات السياسية من مسألة الثورة المسلحة لتحرير جنوب اليمن المحتل من ربقة الاستعمار البريطاني الغاشم ، فكان من هذه الأحزاب المؤيد والداعم لفكرة الكفاح المسلح ومنها السلبي المتخاذل ومنها المعادي للثورة ومنها المستهين والمستخف بفكرة النضال المسلح من أساسه ، وإذا كان هذا شأن جهات سياسية متعددة الرؤى والأفكار تجاه قضية وطنية واحدة ، فما بالنا باختلاف وجهات النظر بين أصحاب درب النضال الواحد ، خصوصاً وقد برزت على السطح خلافات التضاد وليس خلافات التنوع حتى أصبح كل طرف يكيد للآخر ويترصد جميع تحركاته ليوقع به وليس هذا فحسب ، ولكن الأمر أكبر من ذلك بكثير حيث تروي مصادر ثوار الجبهة القومية عدد من الروايات المتعلقة بالخلافات داخل إطار الجبهة القومية نفسها نظراً لاختلاف المواقف تجاه قضية الكفاح المسلح والمنطلقات الفكرية للتنظيم وعوامل أخرى ، هذا من جهة الصراع داخل تنظيم الجبهة القومية نفسه ، أما فيما يتعلق بالصراع بين الجبهة القومية وجبهة التحرير فقد وصل الخطر ذروته وبلغ الحقد الثوري أقصى مداه وهذا مصدر ثوار جبهة التحرير يروي لنا أنه في شهر أكتوبر 1967م قامت مجموعة من ثوار الجبهة القومية باعتقال أحد القادة وعدد من مرافقيه المناضلين من ثوار جبهة التحرير وأخذ ما لديهم من السلاح والذخيرة ومدفع وسيارة وتحركوا بها باتجاه الضالع ، إلاّ أن مناضلي جبهة التحرير وضعوا لهم كميناً في الطريق وقاموا باعتقالهم جميعاً وسلموهم لقيادة جبهة التحرير في تعز ، وهذا العمل ليس وليد الصدفة ولكنه من نتائج المنافسات التي دارت بين الجبهتين خلال الأعوام (1965م ـــــ 1966م) من حين تم الدمج بينهما بصورة قسرية كما يقول ثوار الجبهة القومية ، غير أن مصادر أخرى تؤكد حصول الدمج بصورة اختيارية بين الجبهة القومية وبين التنظيمات والشخصيات الوطنية التي كانت قد انضوت في منظمة التحرير عام 1965م حيث أسفر الدمج الوحدوي عن قيام إطار للجميع باسم {جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل} في مطلع يناير 1966م وتم تشكيل مجلس قيادة جبهة التحرير من اثني عشر شخصاً وكان ستة من الأعضاء في مجلس قيادة جبهة التحرير من قادة الجبهة القومية التي انضوت في جبهة التحرير، ولكن هذا الدمج لم يدم طويلاً إذ أن قواعد الجبهة القومية أصرت على الانسحاب من خلال تظاهرات شعبية قامت بها في شهر أكتوبر 1966م وقد انسلخت عنها في شهر نوفمبر من نفس العام .

لقد تطورت الخلافات بين طرفي النضال المسلح (الجبهة القومية وجبهة التحرير) ووصلت ذروتها بالمواجهة المسلحة وذلك ما تؤكده مصادر الجبهة القومية بالقول: ((إن الجبهة القومية وبالرغم من انسحابها كانت تأمل أن يجري تشديد النضال المسلح ضد القوات البريطانية ، وفي سياق هذا النضال سوف تتعزز الوحدة الكفاحية بين المقاتلين سواء كانوا في الجبهة القومية أو جبهة التحرير ، لكن القيادة الانتهازية في جبهة التحرير كانت تدفع بالمقاتلين للقيام بمضايقة واستفزاز مناضلي الجبهة القومية وقيادتها في البداية ثم للترصد ومحاولات الاغتيال ، وقد ضبطت الجبهة القومية كل أعصابها ، وأجرت اتصالاً وحواراً مع بعض المقاتلة في جبهة التحرير بهدف تفويت الفرصة على كل الذين يريدون حرف الثورة الشعبية المسلحة عن مهامها ، وبالفعل وجد نوع من التنسيق والعمل المشترك مع هذه القواعد ، لكن يبدو أن الاتجاه نحو الصدام كان هو المسيطر على عقلية قيادة جبهة التحرير، ففي فترة احتلال الجبهة القومية لمدينة كريتر بعد هزيمة يونيو حزيران 1967م أقدمت عناصر من جبهة التحرير على اغتيال عبد النبي مدرم أحد قادة العمل الفدائي لجبهتنا وحاولت اغتيال قادة آخرين.. وهكذا تفجر القتال الأهلي الأول في يوليو عام 1967م وسقط العشرات من المناضلين والمواطنين الأبرياء .. وفي بداية سبتمبر1967م ألقت مجموعة من عناصر جبهة التحرير من على سيارة صغيرة قنبلة يدوية على بعض قادة الجبهة القومية العسكريين بجانب مقر القيادة في حي الهاشمي بالشيخ عثمان ، وأطلقت الرصاص فسقط بعض القتلى والجرحى ، وعلى ضؤ حادث القنبلة تفجر الاقتتال الثاني وشمل بشكل رئيسي المحافظة الأولى ومنطقة لحج وقد حسم هذا الاقتتال لصالح الجبهة القومية)) ، ومن جهة ثانية تشير مصادر الجبهة القومية إلى وجود مضايقات وملاحقات تعرض لها أعضاء الجبهة القومية وكيف قامت جبهة التحرير بمنع المعونات المالية ونزع سلاح أعضاء الجبهة القومية ، ووصل الأمر إلى حد أن قامت عناصر جبهة التحرير بشكل غير مباشر بكشف خلايا الجبهة القومية داخل الجيش والأمن العام وحاولت اغتيال بعض قيادات الجبهة القومية بالداخل ، ومع أننا ذكرنا أكثر من شاهد نقلاً عن مصادر الجبهة القومية ولم ننقل عن جبهة التحرير سوى مرة واحدة ، فإن هذا لا يعني أن جبهة التحرير كانت الأكثر سوءً وإنما لعدم عثورنا على مصادر موثقة من طرف جبهة التحرير ولأن الأهمية لدينا شواهد وجود الصراع بذاته ولا يهمنا من المتغلب أو الأكثر سوءً في هذا الأمر ، كما أن الاقتتال الأهلي بين الجبهتين القومية والتحرير لم يكن وليد حادث بعينه أو صدام محدد ، بل كانت له جذور عميقة وبعيدة نسبياً تعبر عن صراع أخذ ينمو مع تطور الأحداث في المنطقة ليصل إلى خاتمته قبل الاستقلال في نوفمبر 1967م ، وتبعاً لما ذكر فقد تسلمت الجبهة القومية مقاليد الحكم بعد إعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م وتم تكوين جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية على أنقاض أكثر من واحد وعشرين سلطنة ومشيخة وإمارة وقسمت هذه الجمهورية الوليدة إلى ست محافظات {المحافظة الأولى ـــ عدن والمحافظة الثانية ـــ لحج والمحافظة الثالثة ـــ أبين والمحافظة الرابعة ـــ شبوة والمحافظة الخامسة ـــ حضرموت والمحافظة السادسة ـــ المهرة} هذه المحافظات التي نشأت وفق القرار الجمهوري واصطلح الشعب ـــ بدوره ـــ على إنشاء محافظة جديدة هي "المحافظة السابعة" التي هي عبارة عن سجن المنصورة الذي يحتل مساحة كبيرة من المحافظة الأولى والذي يضم المغضوب عليهم والضالين عن الأفكار التقدمية والمبادئ الثورية ، ومع تسلمها للسلطة عاد من جديد مشوار الصراع الداخلي بين أفراد الجبهة القومية نفسها ، وذلك ما تؤكده إحدى الوثائق بقولها: (اشتد التناقض بين تيارين يميني ويساري وكان المؤتمر الرابع للتنظيم السياسي الجبهة القومية المنعقد في شهر مارس 1968م إحدى المحطات البارزة لتبلور مفاهيم ومواقف هذين التيارين واتساع ساحة الصراع بينهما ، وفي سياق المواجهة بين التيارين لجاءت القيادات اليمينية إلى استعمال العنف وتنظيم حركة 20 مارس 1968م الانقلابية التي هدفت إلى تجميد قرارات المؤتمر الرابع وتصفية اليسار برمته ، وقد نظم تيار اليسار انتفاضة 14 مايو 1968م التي فشلت بسبب عدم نضوج مقوماته الذاتية والموضوعية ، وعلى ضؤ دروس انتفاضة مايو 1968م فقد رسم اليسار تكتيكاً سياسياً آخر أكثر نضجاً قوامه العودة للنضال من جديد في الداخل ، وطوال الفترة الممتدة من أغسطس 1968م وحتى يونيو 1969م تمكن اليسار من تحقيق تماسك أفضل بين صفوفه وزيادة ثقله وتأثيره بين صفوف أعضاء التنظيم قيادة وقواعد ، وبفضل هذه الظروف مجتمعة نجح اليسار في محاصرة اليمين واستغلال تناقضاته والتحالف مع أجزاء منه ، ومن ثم الإطاحة باليمين ديمقراطياً في حركة 22 يونيو التصحيحية 1969م التي ثبتت سيطرة اليسار على التنظيم والسلطة ، وقد مثلت خطوة 22 يونيو 1969م انعطافاً نوعياً بارزاً في مسار تطور التنظيم السياسي الجبهة القومية ، وتحقيق الافتراق الأول في إطاره بين تياريه اليميني واليساري باتجاه تثبيت سيطرة اليسار الديمقراطي الثوري ودحر التيار اليميني مع بقاء بعض عناصره التي فرضت استمرارها تكتيكات وتوازنات عملية الصراع بين التيارين آنذاك ، وإن الإجراءات والتحولات الديمقراطية الثورية المعادية للإقطاع والبرجوازية والكمبرادورية التي حُققت بعد 22 يونيو 1969م قد شكلت قاعدة موضوعية مناسبة لارتقاء الطليعة السياسية للثورة وتعمق مضامينها الفكرية والطبقية ، وجاء المؤتمر العام الخامس للتنظيم السياسي الجبهة القومية في مارس 1972م ليشكل بمجمل نتائجه نقلة نوعية إلى الأمام على طريق ارتقاء وتطور التنظيم وتقوية صلاته بالجماهير ).

وفي إطار إقصائي وبأسلوب الهيمنة والاستحواذ قررت الجبهة القومية في بيانها الصادر يوم 30 نوفمبر 1967م ما نصه (التنظيم السياسي الجبهة القومية هو قائد الثورة والسلطة الفعلية والعلياء وهو التنظيم السياسي الوحيد في الجمهورية وتقوم القيادة العامة للجبهة القومية بوظيفة السلطة التشريعية لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية وتمارس القيادة العامة هذه السلطة حتى يتم إعداد دستور مؤقت للجمهورية) ، ومواصلة لهذا النهج فقد أقدمت الجبهة القومية على قيام مجلس الشعب الأعلى بطريقة التعيين وذلك في 21 يوليو 1970م ليستمر هذا المجلس أكثر من سبع سنوات وهذا يدل على الاستخفاف بحق الشعب في اختيار ممثليهم عن طريق الانتخاب الحر والمباشر وفي عام 1978م تم انتخاب مجلس الشعب الأعلى ولكن على طريقة (جميع المرشحين من أعضاء الحزب الواحد خيار للشعب غيره) والغريب في هذا الأمر أن يكون ممثل بيحان في هذا المجلس من الضالع وهكذا كان مجلس الشعب الأعلى في دستور يحدد في مادته رقم {3} أن الحزب الاشتراكي اليمني المتسلح بنظرية الاشتراكية هو القائد والموجه للمجتمع والدولة وهو الذي يحدد الأفق العام لتطور المجتمع وخط السياسة الداخلية والخارجية للدولة .

 ............. يتبع


في الأحد 01 يوليو-تموز 2012 06:04:23 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=16297