دعوة للغباء
فكري القباطي
فكري القباطي

الحماقةُ صغيرةٌ جداً لدرجة أنها لا تُرى بالعين المجرّده ... هيَ مثل البكتيريا تختبئُ في أحشائنا ولكننا لا نشعرُ بها إلا حين تتوقف حواسنا عن الاستجابةِ البديهيةِ فتطفو على أجسادنا بعد ذلكَ بشكلٍ علني تظهرُ آثارها عبر سلسلةٍ لا متناهيةٍ من التصرفاتِ اللاعقلانيةِ والتي دائماً ما نبررها بالمنطق والعقل فنُسمّى بعد ذلك فلاسفةٌ ومفكرون وكُتّاب ومُبدعون ... ولكنَّنا من داخلنا نعلمُ أنَّ هذه التسميات عبارةٌ عن ثمنٍ طفيفٍ نقبضهُ مقابل \"استمتاع\" الغير بعقولنا وحواسنا بطريقةٍ غير مشروعة ولكنها غير ممنوعةٍ أيضاً لنكتشف فيما بعد أنَّنا مثل السفينةِ التي ظلّت تُلقي ما عليها إلى البحرِ -وهيَ التصرفات اللاعقلانية- حتى يتوقفُ اندفاعُ المياه

-الأفكار الهدامةِ- من ثقوبها -الحماقة - ولكنّ الضفاف صديقة البوصلةِ - المبدأ- ... والسفينة التي لا بوصلة لها تغرق .. وكذلك هو المبدعُ الذي لا مبدأ له .. يغرق.

ولهذا ليس البحار الماهر من يقاوم الأمواج والعواصف .. البحار الماهر هو من يستغل هذه العناصر المخيفة لصالحه ويروضها بزورقهِ حتى يرسو على بر الأمان .. فيما قد ينجرفُ من هم أقل حظاً مع التيار إلى الأبد ..

وكذلك هو الإنسان الفاضل .. ليس الإنسان الفاضل من يخوض بداخلهِ حرباً شعواءً بين جانبهِ المضيء وجانبه

المظلم فيُنهك قواه في إطفاء جوانبه الملتهبة سعياً منهُ إلى الوصول إلى الكمال .. الفضيلة هي القدرة على الاحتفاظ بالجانب المظلمِ بعيداً عن أشعةِ الشمسِ ... فالشمسُ تهوى إحراقِ الحفاةِ والعراة ..

الفضيلة هيَ القدرةُ على اللمعانِ في خِضمِّ عدةِ عواملٍ تكفي لتصدئةِ الذهب .. لنأخذ إبريق الشاي كـ مادةٍ تشغلُ حيزاً لا غِنى عنهُ لدى البشر صغيرهم وكبيرهم طيبهم وخبيثهم ..

قدرة الإبريق على الغليان لا حدود لها ... ولكن هذه السخونة والغليانِ لا تمسُّ مقبضهُ أبداً ...

لأن هذا المقبض هو الجزء الذي يتصل من خلاله مع العالم الخارجي .. وهذا المقبض هو خلاصة العطاء والتضحيةِ في الإبريقِ وهو الجزء الذي يُجسدُ الجانب الروحي في مادةٍ تعجُّ بالتناقضاتِ ولكنها لا تحترقُ ولا تُحرِقْ ..

وكذلك هو الإنسان الفاضل ... مهما تمكّنت منه عوامل التعريةِ الخُلُقيةِ وعواصف الهوى وتناقضاتِ الفكر فهوَ يحتفظُ بجانبٍ في شخصيتهِ نظيفاً نقياً من كُلَّ الشوائب ولربما كان هذا الجانب هو نقطة الثبات ( وهي النقطة التي يتفقُ فيها العقل مع العاطفة ) كما وصفها المفكر الغربي إيميل إيماني ..

وهذه النقطة إن تزعزعت ... تزعزعَ معها الضميرُ وأصبح الإنسان عارياً مكشوفاً أمام كل عوامل القلقِ والحيره والتي يُجسُّدها من خلالِ أفكارٍ غير مقبولةٍ ولكنها معقولة ..

وربما انتهى بهِ الأمر إلى الإلحاد الفكري والديني أعاذنا الله وإياكم من العقلِ وساديّته ..

لطالما تساءلتُ عن السببِ الذي جعلَ من الصقرِ رمزاً لعددٍ غير قليلٍ من الشعوبِ على الرغم من أن الأسد والنمر يتصفان بصفاتٍ تليق بالقوةِ والسيطرة والتمكن بما يؤهلهما للريادةِ في عالمِ الرموز و الألقاب والأمثال ..

ولكنَّ الأسد اتكالي يميلُ إلى الدعةِ والراحةِ وتصطادُ لهُ أنثاه بِما يؤهله لأن يكون رمزاً يليقُ بالملوك وأهل العروش والكروش ..

والنمرُ سادي عدواني لا يفترس ليأكلَ فقط وهذا ما يؤهلهُ لأن يكون رمزاً لأبطال القتال والمصارعة ..

ولو أننا تمعنّا في الصقرِ لرأينا أنَّ الله حباهُ بأربعِ ميزات .. عينانِ ثاقبتان ، جناحانِ قويتان ، منقارٌ حاد ، مخالبُ مسنونة...

وليست هذه الميزاتُ فقط ما جعلت من الصقرِ سيداً للسماءِ بل قدرة الصقر على توظيف هذه المميزاتِ بشكلٍ منظمٍ وحيوي هيَ ما جعلتْ منهُ الطائرُ الذي لا يُقهرْ ..

فالصقر مخلوقٌ عقلانيٌّ بحت لا يتركُ مجالاً للشكوك والظنون كي تحدد هدفه .. فهو يعتمدُ اعتماداً مباشراً على عينيهِ الثاقبتين في تحديدِ الهدفِ ثم يترك المجال لجناحيهِ كيْ تأخذانهِ إلى الأفقِ البعيدِ عن متناول مخالبهِ والقريبُ في ميزانِ قدراتهِ ثم تتحدُ المخالب والمنقار في تقشير هدفهِ فيعودُ إلى عشهِ الذي عادةً ما يكونُ في ( قمة ) الجبلِ .. لذا هو يمرُّ بثلاثِ مراحلٍ للحصول على هدفهِ تبدأ من عينيه وتمر على جناحيه وتنتهي بمنقارهِ وجناحيه ..

أي .. تحديق ====> تحليق ====> تمزيق

وعلى الرغم من قدراتهِ المذهلة فهوَ يتميز ببساطةٍ تتلاءمُ مع حاجياتهِ المتواضعةِ فالفئران والسناجبُ والدجاج قد تُشكلُ فرائس لائمة للصقرِ ولذلكَ هوَ لا يتسرعُ وفقاً لإمكانياتهِ فقط ولأنهُ دائماً ما يكونُ في الأعلى فهوَ يكتفي بالنظر للأسفل كلما شعر بالجوعِ وانقضاضهُ غالباً ما يبدأ من الأعلى وينتهي في الأسفلِ وبهذا يحافظ على حيوية جناحيهِ أطول زمن ممكنٍ لأنهُ لم يستهلك الكثير للحصول على القليل ولم نسمع يوماً عن صقرٍ يحدق في الأعلى بحثاً عن فريسةٍ لم يرها من قبلِ -من باب التغيير- على الرغم من أنهُ صاحب أحدِّ بصرٍ على وجهِ

الأرضِ ولكن هذا البصر لم يُخلقْ ليخترقَ قوانين الطبيعةِ بل خُلِقَ ليُساعد في توازنها ..

ولهذا السبب .. لا يخسرُ الصقرُ أبداً ..وربما لهذا السببِ أيضاً أصبح الصقر رمزاً للعظمةِ والنصر والسيطرة ..

وتحضرني هنا حكاية العم صالح والذي قضى العمر يتباهى بذكائهِ وحنكتهِ وخصوبة أفكاره حتى عرفهُ الناس بالحكيم ..

لم يتركِ العمُّ صالحِ مجالاً لحواسهِ البدائيةِ كي تقومَ بدورها كما يجبُ بل ظلَّ يستخدمُ عقلهُ ويسرحُ بخيالهِ ويحلل ويحقق ويشقُّ بطونَ الصخورِ بتحليلاتهِ حتّى نال إعجاب الجميعِ من حولهِ ليس لأنهُ بنى هرماً مِن رُخام بل

لأنه استطاعَ أن يُترجمَ أفكارهُ إلى نظرياتٍ وفرضياتٍ تُفسرُ مكنوناتٍ -ليست بحاجةٍ إلى تفسيرٍ أصلاً- وهكذا حتى وصلَ عقلهُ إلى سنِّ التقاعدِ مبكراً فاكتشفَ في الرمقِ الأخيرِ .. أنهُ فكّرَ في كلِّ شيءٍ إلا في تحريك يديه !

أدركَ العمُّ صالح أن تلك الأفكار العبقرية والنظريات والفرضيات والافتراضات الهندسية والفلسفية لم تكن ثمرةً لسيادة العقل .. بل كانتْ انصياعاً لـ( ساديةِ العقل ) ..

تلك السادية التي جعلتْ من الإنسان يسأل عن الروح في زمنٍ كان يجهلُ فيهِ أسباب الصداع ..

تلكَ السادية التي جعلتْ من الإنسانِ يحتكر كل الصفات الحميدةِ بميزانِ العقل والذكاء متناسياً أنهُ تعلّم دفن الميت من أكثر المخلوقات غباءً وهو الغراب ..

تلك السادية التي جعلتنا ننسى أنَّ العقل هو مصدرُ الجنون والإلحادِ والجحود والاضطراباتِ النفسيةِ بل حتى طبقة الأوزون ثقبها العقل وها هي تحتضرُ منتظرةً رُقعة القَدَرْ ...

تلك السادية التي جعلتْ من الشخص الذكي أسهلُ الناسِ وقوعاً في المحضور وأسهلهم فريسةً لـ بكتيريا الحماقة

وقد فطنَ عمرو بن العاص رضي الله عنهُ وأرضاهُ لهذا المرضِ منذ أربع عشر قرناً حينما رفضَ أن يقتل أرطبون الروم بعد أن وقعَ الأخير في الأسرِ بل زاد على ذلك بأن أكرمه وفك أسرَ أذكى قادة الروم وأشدُّ عقبةٍ تعيقهُ عن فتحِ مصر ..وحينما عاتبهُ كبار الصحابة وقادة جيشه على ذلك رد عليهم قائلاً :

(( الأرطبون قائدٌ ذكي ذو فراسةٍ ودهاء وهو يخطط بدقةٍ قبل أن يهجم مما يُسهِّلُ عليَّ أن أتنبأ بردة فعلهِ دائماً فأباغتهُ قبل أن يُباغتني .. وأخشى إن قتلتهُ أن يتولى مكانهُ قائدٌ غبيٌّ حديثُ العهدِ بالحروبِ فيغزو من حيثُ لا أعلم ويُدركُ مالم يخطر على بالٍ ويفكر بما لم أفكر به فيكون التنبؤ بـكرّهِ وفرّهِ صعبٌ فأخسر )) ...

ولطالما كان الغبيُّ الأسرع في اتخاذ القرار والأبرعَ في إصابةِ الأهدافِ لأنه يتحرك وفقاً لبديهتهِ وليس علينا أن نحترسَ من ذكاء الذكي بل علينا أن نحترس من بداهةِ الغبي فهوَ لا يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ للردِّ علينا كما يحتاجُ عقل الذكي

والبداهة والحدس والارتجال هيَ أسمى أشكالِ العبقريةِ التي تليقُ بالأذكياءِ الذين أدركوا أن الحياة أبسط من أن نحصرها بالقوانين والنظريات والمعادلات والتجارب والخبرات والخطط ..

والعاقلُ من ألْجمَ عقلهُ لا من ألجمهُ عقله ...والمفكرُ من سكبَ التفكير بالتقطير ...والذكيُّ منَ سترَ عورةَ ذكاءهِ لا منْ تباهى بها في العلَن ..والمؤمن منِ انشغلَ بما لا يُريبهُ لا ما يُريبه كما وردَ في السنة النبوية ...

وقد كان إبراهام لينكولن عبقرياً حينما قال : ( الحياة هي كل ما يدور حولنا بينما نحن منشغلون في وضع الخطط ) ..

ولعلهُ استهلكَ الكثير من العقاقير والمسكنات والمهدئات قبل أن يصلَ إلى هذه الحقيقة التي أدخلتهُ المصحة النفسية لمرتين في حياتهِ الحافلةِ بالخطط والتصورات حينما كان تاجراً ولكنهُ وصل أخيراً إلى عرش الحكم بعدَ أن أدركَ أن البركةَ ليست في التخطيط بقدرِ ما هي في الاتكال ...

علينا أن نُقرَّ ونعترف بأنَّ قلة حيلة البشر هي من جعلتهم يتغنّونَ بالصقر كـرمزٍ وطني يتربعُ في رايات الشعوب الكبيرة ...

وعلينا نحنُ المسلمون أن نعترفَ بأن ضعفنا وقلة حيلتنا واتكالنا في المأكل والمشرب على الغير ليس لأننا أغبياء ... بل لأنّنا لم ندرك قيمة نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول من أدركَ سر تفوق الطيور على البشر حينما قال (( لو اتكلتم على الله حق اتكاله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا ... وتروح بطاناً ))
في الثلاثاء 06 مارس - آذار 2012 08:36:02 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=14320