العبيد الجدد
عبد الرحمن تقيان
عبد الرحمن تقيان

حديثاً، وصف أحدُهم عبيدَ ما بعد عهد الرق "العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد اَخر, لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية لأن لهم حاسة سادسة أو سابعة.. حاسة الذل.. لابد لهم من إروائها, فإن لم يستعبدهم أحد أحست نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد وتراموا على الأعتاب يتمسحون بها ولا ينتظرون حتى الإشارة من إصبع السيد ليخروا له ساجدين." أما السيد الجديد فقد تدثر عباءة المال والتعصب الضيق لوجه غير الله. وفي وصف فلسفي عميق، يصف الشيخ محمد متولي الشعراوي حقيقة ذلك المال "بالعبد" لكنه أيضاً "سيد رديء" وتافه، فالمال عبدك حين تنفقه٬ ولكن يصبح سيدك يقلب حياتك إلى شقاء ومرض حين تتكالب عليه لأنك أصبحت له خادم". والتعصب الضيق هو أيضاً عبد تافه تكون فكرته الأساسية سوداء وعرفها منتن يدركه معتنقها ويصل أثره كل الناس، لكنه سيد لئيم يطأ ثقافة وعقلية وضمير عبدها أياً كان مستواه تحت قدميه الملوثتين بوحل الجهالة.

العبيد في وطني كثر، ومنهم من اعتنق الكذب ديناً يبشر بتأليه فرد عن بعد وصورته عن قرب، يهب نفسه له أداةً تسبح بحمده ورسمه اناء الليل وأطراف النهار، فيسم أتباعه بالوطنية والإيمان ويصم نقاده بالخيانة والكفران، ويحوله الى ملاك ويحيل نجاساته الإبليسية إنجازات، يسمي أفعال الزبانية بالربانية، ويصلي على آله عدد ما أنزل الغيث من قطرات. حتى إذا ما سقط اللات حمل البخور ونعق أن هبل ما مات، وهو بالألوهية من قبره آت. فلما خاب ظنه، سعى إلى إله جديد يبيعه نفسه وسلعته كتلاً من وساخات.. وخبرات.. واشتياقات من أجل تجديد تلك العبادات. 

ومن العبيد أيضاً من غرهم ما يعاني الناس من اضطرابات، حتى غدو كثراً يلونون الماضي الأليم ابتسامات، ويصطفون نفوسهم طهراً ودماً خالصاً وكل الناس آفات. وهم من استنوا منحرفاً هجاه رؤوس الدين وباقي أهل الديانات. مرماه غربٌ وشق الصف حيلته، وقتل المؤمنين يده وصوته رحب يصل مدى إيلات.

ينمو هؤلاء العبيد حيث يسود الظلم والظلام ويأكلون مع اللئام من عفن الحرام، هم ينظرون إلى أسفل أقدامهم وما يمكن أن تعطيه لهم انتكاسة الرأس وينسون أن فوق رؤوسهم آفاقاً رحبة يسمو فوقها سيد الأسياد، يغير حينما يقف السيد الأرضي حائلاً بينه وبين عبده ويغضب عندما تكون كل كلمة أو فعل خالصة لذلك السيد الحقير.

لكنه سبحانه وتعالى قد فعلها بيهود قالت لنبيها موسى "يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" فذهبت قصتهم قرآناً يتلى وجعلهم الله عبرة لكل العبيد بأنهم في أي زمن يدفعون ثمن نكوصهم، وعن إيثارهم الذل بأن شتتهم أربعين سنة يتيهون في الصحراء، لتأكلهم الرمال، وتذلهم الغربة، وتشردهم المخاوف. وما كانت تكلفة اتباعهم نبيهم إلا لتزيدهم عزاً ورجولة وانتصاراً للحق. فحيث تسود الطمأنينة، ويختفي الرعب، ينصرف العامة إلى ما يمكنه وزيادة أموالهم، وتحسين أحوالهم؛ لأنهم واثقون أن حصاد ما يغرسون هو لهم ولذراريهم، فهم لا يدخرون وسعاً إلا للعمل والإنتاج.

أما ذلك الرق الجديد، فكم من تجربة قصت عن نبذ الأذلاء نبذ النفايات بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله، وكم من رجل باع رجولته، ومرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، وخنع، وخضع، وضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية، وبكل الأمانات التي أناطها الله به.. ثم إذا هو في النهاية رخيص تعيس هَيِّن، حتى عامله بذلك سادته الذين استخدموه كالكلب الذليل، السادة الذين لهث في إثرهم، وحرك بذنبه لهم، ومرغ نفسه وقيمه في الوحل ليحوز منهم على الرضى!

كثيرٌ أولئك الساقطون من القمة إلى السَّفْح، من قلوب وعقول الناس إلى ما تحت الأقدام، وعند دفعهم ثمن عبوديتهم لا يعد يحترمهم أحد، ولا يذكرهم أحد حتى انهم يختارون قبوراً مجهولة لهم ليعيشوا برزخهم مع ملائكة العذاب أهون من أن ينالهم أيضاً نبش وتنكيل البشر، حتى أنهم هووا من نظر السادة الذين في سبيلهم سقطوا من قمة الاحترام إلى سفوح المهانة. فكم لهثت في إثر السادة وراء المطمع والمطمح والوعود والرخص. ثم إذا بها تهوي في السفح مهانةً ينظر إليها الناس في شماتة وفر عنهم السادة دون أي نظرة للخلف.

إلى كل هؤلاء، تاريخ اليوم يكمل تاريخ الأمس، ويعيد نسخ أحداثه بتفاصيله. فانظروا مصائرهم الأكيدة كان أفضلها سقر، تجري من تحتها النيران ومن فوقها القطران. وليعلموا أن هناك دائماً سيد آخر أكثر كرماً ورحمة وأشد غضباً وشدة. وليعلموا أن فتنتهم ماهي إلا تجربة صريحة لهم. وليعلموا أن قيمة الذل الذي يدفعونه أكثر فداحة من قيمة الكرامة بكثير، وأن كرام الناس لا يخافون الحكام بل يخافهم الحكام ويضعهم في منازل رفيعة من حساباتهم، وإلا فسيذهبون أدراج الرياح سريعاً بقيمهم وأخلاقهم وتاريخهم...


في الإثنين 05 مارس - آذار 2012 05:40:09 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=14284