مرة أخرى حول القضية الجنوبية
د. عيدروس نصر ناصر
د. عيدروس نصر ناصر

لا أستطيع أن أخفي سعادتي بما قرأته هنا وهناك مما يتعلق بتناولاتي العديدة للقضايا اليمنية المختلفة، وكان آخرها ما كتب من تعليقات وتعقيبات على رسالتي إلى السيد جمال بن عمر حول القضية الجنوبية والمعنونة بـ"القضية الجنوبية ليست قضية مصطنعة"، لكن المؤسف أن أحدا ممن عقب على تلك الكتابات لم يأت بما يقنع الآخرين بأن الصادر عن كاتب هذه السطور كان خاطئا إلا من منطلق ادعاء ما لم يتم التعرض له وتقويل الكاتب ما لم يقله أو ابتزاز الكاتب من خلال نقد أخطاء المرحلة التاريخية ما قبل 1990م، وقد انتقد البعض حكاية الوصاية في حين لم يقل كاتب هذه السطور قط أنه وصيا لكنه يتحدث كمواطن يمني من الجنوب ويعبر عن رأي ورؤية شخصيين لا يشترط على من يقرأهما أن يؤمن بهما، وهنا أود الإشارة إلى الحقائق التالية:

لم يقل كاتب هذه السطور أنه وصي على الجنوب بل بالعكس أن من تطوع للرد كان يتحدث بطريقة، إننا نحن الجنوبيين نريد أو قررنا كذا وكذا، وهنا تماما يتجسد ادعاء الوصاية، أما كاتب هذه السطور فقد قال أنني أرى هذه الرؤية، وللآخرين آراؤهم وهم أولى بشرحها وتبريرها.

لم يقل كاتب هذه السطور أن الشمال هو السبب في ما يعانيه الجنوب من إقصاء وتهميش واستباحة واستبعاد وتحقير منذ 7/7 /1994م بل إنني أكدت دائما أن القضية الجنوبية ليست صراعا بين الشمال والجنوب ولكنها صراعا بين الجلادين والضحايا فحين يكون الجلاد فيه من الشمال وفيه من الجنوب فإن أبناء الجنوب لم يكونوا ضحايا إلا بعد أن استنفد الجلادون جلد الضحايا في كل الشمال.

ومن هنا فقد أكد كاتب هذه السطور مرارا أنه ليس كل الشمال ظالما كما ليس كل الجنوب مظلوما، فما أكثر ضحايا الظلم في الشمال منذ أكثر من ثلث قرن بسبب سياسات هذا النظام الهرم وما أكثر الذين شاركوا في استباحة الجنوب من المحسوبين على محافظات الجنوب، ولكن عندما يتعلق الأمر بنتائج حرب 1994م فإن الجنوب كله كان ضحية وهذا لا يعني أن الشمال هو من أنتج هذه الحرب وعواقبها الكارثية، بل إنه نظام 7/7 الذي استنفد استباحة الشمال فانتقل إلى هناك ليواصل الاستباحة في الأرض البكر التي تصور أنها أرض بلا شعب ينبغي أن تستباح حتى ولو تحت الشعار النبيل الوحدة اليمنية التي أفرغها هذا النظام من كل مضمون نبيل.

كنت مرارا أقول أنه لا يمكن وضع كل الجنوب في مواجهة كل الشمال لأن هذا العمل فضلا عن عدم منطقيته فإنه لا يخدم لا أبناء الشمال ولا أبناء الجنوب بقدر ما يخدم السلطة التي تسببت في معاناة اليمنيين كلهم في الشمال والجنوب على السواء، وإذا كان الشمال ليس مذنبا في مواجهة الجنوب وفي ما يعانيه الجنوب فإن الشمال والجنوب شركاء في مواجهة الطغيان والاستبداد والاستباحة وبالتالي فإن المنطقي هو أن يقف كل أبناء اليمن ضد الظالمين من الشمال كانوا أو من الجنوب وهو ما يستدعي الإقرار من قبل مواطني الشمال ونشطائه المدنيين بمظلومية الجنوب وحقه في استعادة ما سلب منه، واعتراف الجنوب بإن الثورة الشعبية في الشمال هي ثورة ضد الظلم والإقصاء والفساد والاستبداد والتوريث وليست مؤامرة ضد الحراك كما يروج البعض.

كثيرا ما اعتبر البعض أن الحديث عن الجنوب يحمل النزعة الانفصالية وكأنه على من يريد أن يثبت أنه وحدوي أن يقبل بسياسة الظلم والاستباحة وكل الممارسات الاحتلالية التي مارسها نظام 7/7 وإذا ما أشار أحد ما إلى ما يتعرض له الضحايا من معاناة فهو إنما يكرس الانفصال وكأن الوحدة والوحدوية لا تتجسد إلا بظلم الجنوب ونهبه وتدمير كل ما لديه وتسليمه مكافأة للوافدين بعد 7/7/ حتى بعد اعتراف الكثير من هؤلاء بما تعرض له الجنوب من ظلم وإقصاء واحتلال.

يقول البعض أن الظلم موجود في كل المحافظات الشمالية والجنوبية على السواء، ونقول نعم هذا الظلم سوقه هذا النظام وفرضه على الشعب، على مدى ثلث قرن، ونحن ندين هذا الظلم لكن ليس المنطقي أن نعمم الظلم بين كل الناس حتى يتساووا فيه بل المنطقي أن نزيل المظالم أينما وجدت، وقد كان حري بدولة ما بعد 22 مايو 1990م أن تزيل كل سلبيات النظامين الشطريين وتعمم ما هو إيجابي وعادل فيهما، لكن ما جرى هو إزالة ما كان من مزايا للنظام الجنوبي والإبقاء على مساوئه مضافا إليها كل مساوئ الجمهورية العربية اليمنية التي غدت ثابتا من ثوابت الوحدة المدعاة، . . إن الإصرار على ربط الوحدة بالظلم هو ما يجعل الكل يكفر بالوحدة وليس العكس، ومع ذلك ينسى هذا البعض حقيقتين:

1.   لقد كان الجنوب دولة ودخل في اتحاد طوعي مع شقيقه الشمال بالتساوي وبالتكافؤ في الاستفادة من السلطة والثروة لصالح التنمية والاستقرار وتحقيق العدل، لكن جرى الغدر بهذا الاتحاد الطوعي وطرد أحد الشريكين واستولى الشريك الآخر (وهو هنا النظام وليس الشعب) على كل المشروع المشترك، أما المناطق الشمالية المظلومة والتي نتضامن مع أبنائها في النضال ضد الظلم والتهميش فإنها لم تكن قط دولة ولم تدخل في اتحاد طوعي مع من ألحق بها هذه المظالم.

2. إن استباحة الجنوب وإقصائه وتحويله إلى ملحق من ملحقات النظام في صنعا حصل بواسطة حرب غزو شطرية الهدف والمنشأ وما نتج عنها من مخرجات سياسية واقتصادية وثقافية ونفسية وقد كانت الحرب وسيلته الوحيدة، ولئن كان قد حصل ما يشابهه في بعض محافظات الشمال إلا إنه لم يحصل مع أي محافظة شمالية إن استبيحت عن طريق حرب نظامية مباشرة، بل إن عملية الاستباحة والنهب قد تمت عن طريق الألاعيب والخدع والمكائد أو ما يسمى بالترهيب والترغيب، وهو ما جعل التصدي لها في محافظات الشمال أقل حدة ووضوحا، وعندما قامت الثورة الشبابية كانت موجهة ضد رأس النظام بشكل عام ولم تتحدث عن نهب الحديدة وتدمير صعدة وابتزاز تعز واستغلال مأرب وإهمال الجوف، وغيرها بينما يدور الحديث في الجنوب عن دولة دمرت وبالحرب والفرق في كل الأحوال لا يلغي جوهر النظام الاستبدادي القمعي الذي ظلم وأقصى ونهب وقمع الجميع.

لقد ربط البعض تعليقه أو تعقيبه على ما تناولته بالحديث عن سلبيات فترة حكم الحزب الاشتراكي للجنوب مركزين على الإجراءات التي تضرر منها الكثير من المواطنين الجنوبيين وهو منهج ابتزازي فيه الكثير من الإرهاب الفكري الذي لا تخطئه عين بحيث يحمل الكثير من المعاني أهمها أنه: كيف تتكلم عن الأخطاء التي تعرض لها الجنوب في حرب 1994م وما بعدها وأنت تنتمي إلى حزب ارتكب أخطاء أثناء حكمه، وكأن المطلوب من كل من ينتمون إلى الحزب الاشتراكي أن يخرسوا فقط وفقط لأن الحزب الذي ينتمون إليه قد أخطأ أثنا فترة حكمه حتى وإن كان جزء كبير من قياداته التي ارتكبت تلك الأخطاء هي اليوم من صانعي نتائج حرب 1994م وأفرادها اليوم من يقود سياسة الاستباحة التي امتدت لتشمل كل الوطن شماله وجنوبه، وهو أمر لا يستقيم لأن معالجة الأخطاء ينبغي أن يتم بما هو أفصل منها لا بما هو أسوأ منها، أما البعد الثاني لهذه التعليقات فهو أنها تتحمل المعنى التالي: طالما كان الجنوب قد تعرض للظلم أثنا فترة حكم الحزب له فلماذا تمنعوننا نحن من ارتكاب أخطاء مماثلة، وفي هذا الصدد لا بد من إيضاح النقاط التالية:

1. أن كاتب هذه السطور يقر بوجود الكثير من السياسات الخاطئة حصلت إبان فترة حكم الحزب الاشتراكي وأنا لست بصدد إنكارها، وهي إن كانت قد حصلت فإن ما هو أسوأ منها قد حصل في الشطر الآخر من البلد، وإن لم يعترف به مرتكبوه، لكن هذا كله لا يبرر بقاء الجنوب ضحية لمن هب ودب وكأن قدره أن يظل دائما ضحية السياسات الخاطئة.

2. إن كل الأخطاء التي ارتكبت أثناء فترة الحكم الحزب الاشتراكي لم تنجم عن الرغبة في الاستيلاء الشخصي من قبل مرتكبي هذه الأخطاء فلم يذهب قائد واحد من قادة فترة حكم الحزب الاشتراكي وفي رقبته ريالا واحدا من أملاك الآخرين ولم يثر أو يغتني أحد من كبار المسئولين أو صغارهم ومات معظم القادة وهم ساكنين في مساكن إيجار ملك للدولة، وحتى التأميمات التي تمت وهي سياسات خاطئة، لم تهدف استيلاء فرد على حق أخر بل ذهبت كل الأملاك المؤممة لتغدو ملكا للدولة، وليس كما جرى في حرب 1994م عندما استولى المنتصرون على كل شيء ليصبح ملكا شخصيا لهم، وراحوا ينهبون الأرض والمال والثروة والمنشآت بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وهنا لا بد من الإشارة إلى إنه حتى الناهبين الجنوبيين لم يتعلموا النهب والسلب ولم يدخلو خانة الأثرياء إلآ بعد أن التحقوا بنظام صنعا وصاروا جزءا منه.

تعرض الكثير لسياسة الحزب الاشتراكي أثناء السبعينات والثمانينات، ومع إنني لست بصدد الدفاع عن سياسة الحزب وهي ليست موضوع البحث عن الحديث عن القضية الجنوبية، لكن ما لم يتعرض له هؤلاء أو لا يرغبون في التعرض له أن الحزب لم يدمر دولة الجنوب، بل هو من وحد الجنوب من المهرة إلى باب المندب في دولة واحة لأول مرة منذ مئات السنين، كما إن نظام الحزب الاشتراكي لم يستولي على حق أحد، وإذا ما قال قائل أن الحزب أمم أملاك الأثرياء فهذا صحيح وهي سياسات جرت مراجعتها بعد مايو 1990 لكن النظام فضل الإبقاء على آثارها بعد 1994م رغبة في استخدامها لإثارة العداوات ليس إلا، ولقد مضى على هذا النظام 21 سنة في إدارة الجنوب وهي تساوي تقريبا نفس الفترة التي حكم فيها الحزب الاشتراكي الجنوب فلماذا لم يعالج مخلفات تلك السياسات، لا بل لقد شرع في سياسة النهب والسلب وتوزيع الغنائم على الأنصار وليس على الشعب كما حصل في فترة حكم الحزب.

أما تهمة الانفصال والانفصالية، وثنائية الوحدة والانفصال فلقد سبق لكاتب هذه السطور أن قال مرارا وفي مناسبات مختلفة: إن الانفصال لا يعني بالضرورة إعادة تقسيم الأرض إلى شطرين أو أكثر بل إنه الانفصال النفسي والوجداني والمادي وهو ما يتجسد تماما في السياسات التي اتبعتها السلطة بعد 7/7 /1994م عندما حولت الجنوب إلى غنيمة حرب للمنتصرين بينما تحول المواطن الجنوبي إلى مجرد رقم كمي ينظر إليه باستعلاء وأحيانا بتقزز باعتباره زائدا عن الحاجة، وبالمثل فالوحدة لا تعني بالضرورة ضم الأرض إلى الأرض بل هي وحدة المشاعر والمصالح والوجدان والمستقبل وهو ما غاب تماما بعد حرب 7/7 عندما أصبح المواطن الجنوبي غريبا في أرضه وداره وبين أهله مجردا إلا من البطاقة الشخصية التي لا تعني له شيئا.

إن حديثنا عن القضية الجنوبية لا يثنينا عن الانحياز إلى القضايا العادلة لشعبنا اليمني وسنظل كما تعودنا دوما أنصارا للحق أينما كان وخصوما ألداء للظلم والباطل مهما كانت هوية مرتكبيه وضحاياه، ومن هنا يأتي انتصارنا لثورة الشباب السلمية الرائعة واستعدادنا للامتثال لمتطلباتها ومساهمتنا فيها وتمسكنا بأهدافها ورفضنا الاستنقاص من تلك الأهداف مؤملين أن تمثل الثورة مدخلا لحل القضايا المتراكمة التي خلفها حكم أسرة صالح ومنها وفي مقدمتها القضية الجنوبية، لأننا أيقننا أن الثورة قد أعادت الاعتبار لشعبنا اليمني الأبي وأطاحت بحكم العائلة الذي تحكم في مصير شعبنا لما يقارب ثلث قرن من الزمن الأغبر.

وأخيرا إن القضية الجنوبية هي أعقد وأوسع وأكبر من أن يتم تناولها في عجالة سريعة وفي بضعة أسطر أو صفحات وكم أتمنى على من يرغب في مناقشتها أن يبتعد عن أخذها بمعيار المصلحة التي حققها بفضل حرب 1994م، وأن يعلم الجميع أن أي وحدة قائمة على الإكراه وعدم التراضي والتوافق بين طرفيها ستظل وحدة قابلة للانهيار وهنا تأتي أهمية أن تعبر الوحدة المرجوة عن تطلعات وآمال طرفيها وليس تطلعات وآمال طرف واحد فقط هو المنتصر في حرب 1994م والذي لا يعبر بأي حال كمن الأحوال عن الشعب في الشمال البريء كل البراءة من ممارسات وسياسات علي عبد الله صالح وأزلامه.

والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل

برقيات:

*  ما نشرته بعض المواقع الإلكترونية من ما سمي بمشروع قانون الحصانة جاء مخيبا للآمال باقتصاره على حصانة صالح ومن عمل معه وهو يمثل إهانة ما بعدها إهانة لكل ضحايا نظام على عبد الله منذ الشهيد ابراهيم الحمدي حتى الطفل أنس السعيدي وجميع الضحايا في الشمال والجنوب

*  قال الشاعر العربي العباسي أبو تمام

أأحمدَ إنَّ الحاسدينَ حـــــــشودُ  وإنَّ مصابَ المزن حيثُ تريدُ

فلا تبـــــعدنَ مني قريباً فطالما      طـــــــلبتَ فلمْ تبعدْ وأنتَ بعيدُ

أصخْ تستمعْ حرَّ القوافي فإنها       كواكبُ إلاِّ أنــــــــــــهنَّ سعودُ

ولا تُمْكِن الإِخْـلاَقَ منها فإنَّما        يَلَذُّ لبَاسُ الــــــــبُرْد وهو جَديدُ

    
في الخميس 05 يناير-كانون الثاني 2012 07:24:00 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=13200