بين يدي النبي محمد
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 11 شهراً و 8 أيام
الخميس 20 إبريل-نيسان 2023 11:54 م
 

بين بعثة نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ووفاته قرابة 23 سنة بحساب السنين، ولكنها بحسابات أخرى كثيرة تعد قروناً من الزمن، ذلك أن تلك السنوات أعادت تشكيل العالم الوسيط، ولا تزال تعمل أثرها في مسارات الأحداث إلى اليوم، حيث ظلت شخصية النبي حاضرة تحفز وتتحدى وتتواصل وتتقاطع وتثير الكثير من الإعجاب والخصام، ولا يزال الجدل محتدماً في الدوائر الإعلامية والسياسية والأكاديمية حول ما دعت إليه من عقائد وتشريعات وشعائر. وفي مقابل أولئك الخصوم الذين صوروا عمامة محمد عليه الصلاة والسلام على هيئة قنبلة، وزنروه بحزام ناسف يعرف رحمة النبي شخصٌ مثل بلال بن رباح الذي كان عبداً مضطهداً ينوء جسمه بصنوف العذاب، قبل أن يحرره الإسلام، ليصبح أحد سادة المسلمين، ولتصبح تلك الرحمة سمة أتباعه الذين قال عنهم غوستاف لوبون قولته الشهيرة: «ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب» الذين تشربوا قيم نبي «كان مهتما بشكل

خاص بالفقراء والمحتاجين والأرملة واليتيم والعبد والمضطهد» حسب جيمس ميشينر. وعدا عن القاموس القيمي لدى محمد عليه الصلاة والسلام يبدو أن أهم ما يميزه عقيدته السهلة التي ليس فيها فلسفة معقدة ولا لاهوتية ملتبسة، والتي دعا فيها إلى «لا إله إلا الله» في تمييز واضح بين الإله والإنسان، فلا هو إله ولا نصف إله ولا سليل آلهة، ولا أسرته مميزة عن غيرها، بل كانت تجوع مع الناس، وتطعم إذا شبعوا، وتعيش فترات طويلة على التمر والماء، ولأن عقيدته التي دعا إليها كانت في غاية البساطة قبلتها النفوس

بسهولة لمواءمتها للفطرة الإنسانية التي تفر من تعقيدات العقائد والأفكار والدعوات. لاحظ كتبة سيرته ميله إلى العزلة والتأمل، في بعض مراحله العمرية، ما يؤكد مروره بأطوار الأنبياء المعتزلين فترة من حياته، إذ نطالعه بعيداً في الشعاب والطرقات والكهوف القصية، يقضي الوقت متأملاً، ويمشي منفرداً يكاد يحدث نفسه، ويدخل في حوار عميق معها عن الله والكون والإنسان، متأملاً في صمت طويل، وقد ساعده العمل في رعي الغنم على الخلو إلى نفسه، والتجول في البراري، كما كان يوحنا المعمدان يفعل في البراري والقفار، وكما كان إبراهيم في بحثه الشاق عن الحقيقة. وعندما انفتق النور في قلبه لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام يعرف ماذا أصابه، حتى أنه قال: «لقد خشيت على نفسي» ما يشير إلى أنه فيما يبدو مرّ بفترة صراع داخلي عصيبة، قبل أن تطمئن نفسه ويهدأ فؤاده، وفي هذا القلق الذي أفصح عنه دليل قوي على صدق نبوته، لأنه لو كان كاذباً لما بدا حائراً لأمر يُفترض

أنه افتراه عن قصد لغرض في نفسه. ومع ذلك فإن مرحلة القلق لم تستمر طويلاً في حياة نبي الإسلام الذي بلغ نضجه مع النبوة، ودخل مرحلة أخرى من «الإيمان العملي» الذي نتجت عنه فيما بعد حضارة شاهقة بنت دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة وسمرقند ومرو وتبريز وغزنة وغيرها من عواصم الحضارة العربية الإسلامية. ومما يُلفت في شخصيته العميقة شعوره الرهيف وطبيعته الروحانية التي كانت تجعله يقوم الليل باكياً، حتى ليخيل لمن يراه أنه لا يصلح لقيادة الجيوش، حتى إذا ما أطل النهار خرج يجوب الفيافي والقفار متتبعاً الخصوم ومرهباً الأعداء ومتحدياً فارس والروم، وإذا «حمي الوطيس» لجأ أشجع فرسانه للحماية تحت ظل سيفه. شخصية مدهشة، تلين حتى يكاد أن يطمع في لينها اليائسون، ثم تشتد حتى ليوشك أن ييأس من رحمتها الطامعون. يرعى الغنم، يجمع الحطب، يلاعب الأطفال، يداعب الكبار، يترقق مع زوجاته، يتعاهد أصحابه، يمشي في حوائج أهله، يحلب الشاة، يخصف النعل، يرقع الثوب، يمسح دمعة اليتيم، يواسي الأرملة، يعالج حزن الحزانى، ويكتم حزنه ولا يبثه إلا لله. دلالة السيف في ميدان المعركة تعادل عند محمد معنى الركعة في محراب المسجد، لأن السيف والركعة في منهجه إنما هما وسيلتان لتحقيق هدفه في عبادة الله وهو يتقلب في أقدار الله بين القبض والبسط، فيلبس البرود اليمانية الثمينة والخُلقان الزهيدة، ينام على الحصير والتراب، يركب الخيل والجمال والبغال والحمير، يأكل أطيب المأكولات من لحوم وغيرها في وقت ثم يربط على بطنه من الجوع وقتاً آخر، وقد تجلى اكتماله البشري في أنه أطعم الجياع وهو جائع، وعندما شبعوا أخذ لقيمات ليقيم بها صلبه. كان يجمع كل تلك «التضادات الإيجابية» في سياق روحاني عجيب، فدلالة السيف في ميدان المعركة تعادل عنده معنى الركعة في محراب المسجد، لأن السيف والركعة في منهجه إنما هما وسيلتان لتحقيق هدفه الذي حددته الآية: «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين». وقد عبر القس بوسورث سميث بلغة مجازية عن هذا التضاد الإيجابي في شخصية النبي محمد بقوله إنه «كان القيصر والبابا في شخص واحد، لكنه كان البابا دون ادعاءات البابوية، والقيصر دون جحافل القيصرية، دون جيش دائم، دون حارس شخصي، دون قصر…كان لديه كل القوة دون أدواتها» وهذه إحدى معجزات نبي حكم بسلطة أخلاقية خضعت لها مراكز القوى في جزيرة العرب. وقد عاش وفياً لقيمه التي أخلص لها حتى قبل

بعثته، وظل مستعداً للتضحية بحياته في سبيلها، حيث عرّض نفسه وأتباعه لكل أنواع المخاطر، دون أن يساوم على رسالته، ويُعَدّ ذلك الثبات على رسالته من أقوى الأدلة على صدقه، لأن الكاذبين لا يمكن أن يصمدوا في امتحان التضحية من أجل القيم كما فعل، وقد رفض مونتموري وات فرضية أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام دجالاً، حسب توصيف الكنيسة الغربية، وذكر أن ذلك يتعارض مع «استعداده الدائم للتعرض للاضطهاد بسبب معتقداته». ولأنه كان صادقاً فيما دعا إليه ومنسجماً مع نفسه لم يسجل عليه المؤرخون هفوة واحدة، وعلى الرغم من أنه لا توجد شخصية عرضت تفاصيل حياتها على صفحات التاريخ كما هو شأن شخصية النبي محمد الذي نعرف عنه كل شيء، حتى وهو في أوضاع بالغة الخصوصية، إلا أنه لم يسجل عليه موقف واحد يمكن أن يخجل منه أو أن يخجل منه أتباعه، فلم يهتك عرضاً، ولم ينشغل بلهو، ولم يسرق أو ينهب أو يرابي أو يقامر أو يستغل أو يفتن أو يدخل في مهاترات الشباب أو منافرات القبائل أو خصومات المتنافسين، ولم يتلون ولم يخادع ولم يدَّعِ ما ليس فيه، وعندما بولغ في إطرائه، قال «إنما أنا عبدالله» وعندما أراد بعض أصحابه أن ينقطعوا للعبادات بعيداً عن الحياة الغرائزية نهاهم عن ذلك، وصرح بحبه للنساء، وهذا ما يأخذه عليه «النسويون» المتنطعون الذي يرفعون شعارات بالنهار، ويمارسون خلافها في الليل، أما هو فكان ليله كنهاره، وباطنه كظاهره، وسره كعلنه، ليس لديه ما يخاف منه، ولا في سيرته أو معتقداته ما يخجل منه. واليوم، ومع كل الدعاية المضادة إلا أن محمداً لا يزال يتحدى ويتوسع متخطياً الحدود ساخراً من المرجفين، وكلما ظن خصومه أنه مات خرج لهم من بين الصفائح، وكلما ظنوا أنه هزم أطل عليهم مبتسماً من غبار المعركة، وقبل حوالي أربع سنوات تفرغ فان كلافرين القيادي في حزب الحرية الهولندي اليميني المتطرف والمعادي للإسلام لتأليف كتاب يهاجم فيه النبي والقرآن والإسلام، وكانت المفارقة العجيبة أنه أعلن إسلامه، بعد بحثه الذي تفرغ له ليكون وثيقة إدانة ضد النبي محمد، فإذا بالباحث ينتهي مسلماً، يشهد «أن محمداً رسول الله». إنها الشخصية الكبيرة التي كبرت عن محاولات الحصار، وقد حوصرت قديماً في المدينة حصاراً خانقاً زلزلت منه الأقدام، ولكنها خلال الحصار، وفي تلك اللحظات العصيبة كانت تبتسم في وجوه أصحابها، وتحدثهم أنهم سيمتلكون مفاتيح الشام وفارس واليمن، ذلك لأن تلك الشخصية كانت ممتلئة بطاقة تفاؤل لا حدود لها، مبعثها إيمانها العميق برسالتها، وكان هذا سبباً كافياً للنجاح العظيم الذي حققته مع ثلة من الرجال الذين امتلأوا بحبه، الحب العظيم الذي عبر عنه أحد أصحابه وهو يساق للموت صلباً، عندما سئل: «أتحب أن محمداً مكانك»؟ فأجاب: «والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه». هذه لمحة من حياة رجل عظيم ونبي كريم، حكم بسلطان الحب أكثر مما حكم بقوة الجيش، وملك الدنيا ولكنه لحظة وفاته لم يترك «ديناراً ولا درهماً ولا بعيراً ولا شاة» وهذا خلق لا يتسنى إلا لأولي العزم من الرجال والأنبياء. كاتب يمني