القبيلة في مواجهة سُلطة الجرعات.. جدل القوتين !
بقلم/ اسكندر شاهر
نشر منذ: 16 سنة و أسبوعين و 4 أيام
السبت 08 مارس - آذار 2008 03:38 م

طالعتُ بالأمس القريب بيانين، أحدهما صادر عن الهيئة العليا لملتقى مأرب، والآخر عن مجلس تحالف قبائل مأرب والجوف وشبوة؛ جعلاني أقف وقفة تأمل حيال دور القبيلة في مواجهة الجرعات. وقبل أن أحول وقفة التأمل إلى كلمات، يجدر أن نعود بالذاكرة قليلا إلى الوراء، وتحديداً -إذا ما أسعفتني ذاكرتي التي يُراد لها ولذاكرة كل الشعب اليمني المقهور أن تذهب أدراج الفقدان والنسيان- إلى العام 1998، حيث أعلن آنذاك عن جرعة اقتصادية تحمّل عبد الكريم الإيراني وزرها ومسؤوليتها نيابة عن الرئيس.

وشهدت صنعاء وعدد من المحافظات اليمنية أحداثاً احتجاجية. وأذكر أني كنت في صنعاء، وشهدتُ بعضاً من مظاهر الاحتجاجات الشعبية على جرعات التجويع والتركيع.

وبوصفنا مجتمعاً قبلياً في طابعه العام، والقبيلة مكون أساسي في منظومتنا الاجتماعية، فقد كان لها دور رئيس ومحوري في مواجهة الجرعات، وأثبتت التجارب أن السلطة لا تعي شيئا من أمر هذه البلاد، مثلما تعي دور القبيلة ومركزيتها وأهميتها وقوتها.

في العام 98 كانت مأرب جذوة نار اتقدت ووصل شررها إلى دار الرئاسة وبلاط الحكومة. وفشلت -كعاتها- كل المحاولات القمعية التي أرادت كبح جماح الوسط القبلي في رفضه للجرعات، ودعوته لحياة كريمة. ووصلت الأمور حينها إلى مرحلة القصف العسكري الذي استهدف مناطق قبلية وأدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى. وفعلت القبيلة ما لم يكن بوسع غيرها أن تفعله. وهذا ليس تقليلاً من شأن الأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية ومؤسسات المجتمع المدني، فكل يلعب دوره وعلى طريقته وفي حدود إمكاناته، وهذه هي القبيلة في اليمن عبر التاريخ، وهذه قدرتها، والتي من حسن حظها أن الرئيس يتفهم دورها ويخشاه ويحسب له ألف حساب، فيما لا يعير أكبر حزب وأضخم مؤسسة مدنية وأرفع مثقف وأكاديمي في البلد أدنى اهتمام. وهذا لا يعني أيضا أن القبيلة خالية من الانتماءات الحزبية والمؤسسية والأكاديمية، ولكن الرئيس ينظر إلى القبيلي بما هو "قبيلي"، وإذا حمل ستين شهادة علمية، فهي لا ترفعه عنده، كما لا تخفض من مرتبته القبلية التي تُعد الأس والأساس. وليعذرني في هذا القول الصديق المثقف والأكاديمي والشاعر الشيخ علوي الباشا بن زبع أمين عام المجلس الأعلى لتحالف قبائل مأرب والجوف وشبوة، وهو التحالف الذي كان مولوداً لمخاض أحدثته جرعة العام 1998 التي أسلفت ذكرها.

وكان لهذا التحالف مواقف مشهودة في مواجهة قرارات الحكومة الجائرة بحق أبناء تلك القبائل واليمن بشكل عام، إضافة إلى الكثير من المواقف التي أثبتت التوازن والحكمة التي تحلى بها خطابهم منذ تأسيسه، ولغة التناغم التي أبداها قياديوه فيما بينهم، وفيما بينهم وبين مؤسسات مختلفة مدنية وإعلامية، وحتى في محاولة تسويق التجربة القبلية خارج اليمن، وهي المحاولة التي تثير حفيظة السلطة، الراغبة -إلى درجة العشق- بأن يكون غزلها مع القبيلة غزلاً أحادياً وعذرياً حتى الموت.

مازلنا نتذكر الجدل الذي دار بين القوتين، السلطة والقبيلة، في ما خص الجرعة السابقة، حيث رضخت السلطة -تحت تأثير وعيد القبيلة- إلى الحوار مع عدد من مشائخ القبائل، وتخلت عن قرارتها، في عملية لم يتمكن نواب الشعب وأمناء عموم الأحزاب ورؤساء منظمات المجتمع المدني من أن يحققوه عبر مسيرتهم التليدة.

السلطة تتعامل مع حجم القوة الأخرى في الميدان، فتقرر التعاطي من عدمه. وهذا ما حصل مع الحوثيين، الذين حاورتهم السلطة خارج البلاد وفي أجواء من التكتم والسرية المثيرة للريبة والشكوك، وترفض في الوقت ذاته أن تحاور قادة الحراك الجنوبي، الذين ربما تعتقد أنهم قبائل من الدرجة العاشرة والحوار معهم سيهدر ماء وجه الحاكم.

ولا يهم التهم الجاهزة، كالانفصالية والتمرد، فقد كان الحوثيون إلى وقت قريب شرذمة متمردة وقوى ظلامية وإمامية تستهدف قلب نظام الحكم، ثم تم التحاور معهم، وربما سيصبحون بعد فترة أولياء الله وأحباب ولي الأمر.

وعودة إلى البيانين الحديثين الصادرين عن ملتقى مأرب وعن مجلس تحالف قبائل مأرب والجوف وشبوة، فإن محتواهما النظري يدل على أن الوعي القبلي بقضايا وهموم الناس الأساسية يتجلى بوضوح ويترسخ مع مرور الوقت ومع اشتداد الأزمات الحياتية وتتم ترجمته عملياً. ويمكن التعويل عليه، فبعد قراءتي للبيانين اللذين يبشران شعبنا المقهور بثورة على الجرعة المقبلة، التي بدأ التلويح بها، والتي -بحسب المراقبين- ستشكل كارثة قاتلة للسواد الأعظم من أبناء الشعب؛ أمّلتُ أن تنتشر هذه العدوى الإيجابية بين مختلف قبائل اليمن، وربما لو كان ثمة تحالف كبير يضم كافة القبائل اليمنية بطريقة منظمة لما كنا بحاجة لأن نسوق تجربة مأرب، ولكان الجهد الشعبي مضاعفاً وأكثر تأثيراً. كما أمّلت أن نسمع مواقف مماثلة من تحالفات قبلية أخرى كـ"مجلس التضامن الوطني"، فلا أحد يستحق التضامن مثل المواطن المهدد بالموت جوعاً، وسلطة الأثرياء على شعب جائع ما هي إلا سلطة كرتونية قابلة للتهشيم بسرعة وبضربة واحدة إذا ما أيقن الشعب أن أي موت لن يكون أسوأ من الموت الذي يرسمه الحاكم بسموم الجرعات القاتلة.

وبعد أيام قلائل من صدور البيانين المشار إليهما تناهى إلى علمي أن الحكومة قدّرت مجدداً محتوى البيانين القبليين ووضعتهما بعين الاعتبار (على خلاف فعلها مع الأحزاب والمؤسسات الأخرى)، وأن بلاط الحكومة الموقرة، برئيسها ونائبه وعدد من وزرائها، فتح للحوار مع بعض المشائخ لتهدئة الاحتقان في مأرب ومناطق قبلية أخرى، والتي كانت توعدت بإقفال المحافظة ومواجهة قوة السلطة بقوة القبيلة. وقد علمتُ أن وعيد القبيلة، الذي تتفهمه السلطة جيداً في جدلهما السرمدي الأبدي العذري، قد تم تخفيفه لجهة بعض المطالب الخاصة بمأرب ومناطق قبلية أخرى، مقابل وعود حكومية. إلا أنه بقي على الوتيرة ذاتها فيما خص الجرعة المقبلة، التي تقول السلطة إنها مؤجلة وتعمل في الليل والنهار على أن يصبح الآجل عاجلاً، غير آبهة بشعب يذبحه الغلاء ذبحاً، ولا تظلله بأي نعيم كروش وأوداج الفاسدين، الذين شُكلت لمكافحتهم لجنة كالعطّار: لا تصلح ما أفسد الدهر. فهل تثبت القبيلة أنها القوة الوحيدة التي يمكن الركون إليها في مواجهة الجرعات؟ ومن أين لها أن تثق، وهي القوة المعتبرة لدى السلطة وبينهما فهم مشترك، بأن معالجات أخرى يمكن أن يُلهم بها الله حاكمنا "الملهم" لتشكل بديلاً عن الجرعات التي يؤمن بها كإيمانه بأن بوش رسول السلام والمحبة (والجرعات أيضاً)؟!

 كلمة إلى قيادة ملتقى مأرب:

الوعود الحكومية لا تستحق الشكر، حتى لو كانت الضمانات أبيض من وجه الرئيس ومجور. وحتى لو فعلت فذلك أقل واجباتها. ومن يستحق الشكر حقاً هو المواطن الذي يشكل رأس الحربة في حرب القضايا المصيرية وثورة الجياع المرتقبة.

eskandarsh@yahoo.com

عن صحيفة "النداء" الأسبوعية