المشاريع الصغيرة والمشاريع الكبيرة
بقلم/ د. عيدروس نصر ناصر
نشر منذ: 11 سنة و يوم واحد
الثلاثاء 26 مارس - آذار 2013 11:03 ص
هذا ملخص لحوار دار بين اثنين من الناشطين السياسيين اليمنيين، حول ما تشهده الساحة اليمنية من تفاعلات في ضوء سير أعمال بعض الجلسات المعلنة للحوار الوطني، كان أحدهم من المتعصبين لموضوع الوحدة اليمنية بأي شكل كانت لكنه كان يغضب كلما أشار زميله إلى إنهاء المظالم والجرائم التي ارتكبت بعد حرب 1994م كسبيل لإعادة الثقة بأي مشروع وحدوي لليمن، بيد أن الأول ظل طوال الحوار يردد: نحن ضد المشاريع الصغيرة وعلينا أن نفكر بالمشاريع الكبيرة وننكر مصالحنا الشخصية أو الحزبية.
قال له زميله : ولكن ما رأيك بالذين نهبوا مزارع الدولة ومؤسسات وزارة الصناعة وأحواض السفن وموانئ الاصطياد والشركات والمؤسسات التجارية والإنتاجية ومزارع الدولة والتعاونيات الزراعية والاستهلاكية والسمكية ومئات المساكن والمنشآت والمؤسسات الحكومية والجماهيرية، لكن صاحبنا ظل يتهجم على المشاريع الصغيرة ويؤكد على أن تكون مشاريعنا كبيرة.
قال له محاوره: الآن وبعد أن أصررت على الدفاع عن الناهبين وإنكار إمكانية تخليهم عن ما نهبوه من أراضي ومنشآت وما كونوه من مصالح وما حققوه من صفقات على حساب الثروات الوطنية، الآن عرفنا ما هي المشاريع الصغيرة التي ترفضونها وما هي المشاريع الكبيرة التي تفكرون بها، إن المشاريع الصغيرة في نظركم هي أن يستعيد المنهوبون ما نهب منهم وأن يعود المبعدون إلى أعمالهم وإن يسترجع صاحب المنزل المسيطر عليه منزله، تلك حقا هي (مشاريع صغيرة)، أما مشاريعكم الكبيرة فهي تلك المشاريع التي تدر المليارات مثل بيع النفط والغاز والسيطرة على الوكالات التجارية الدولية ونهب المنشآت والمؤسسات ونهب المصانع والسطو على ممتلكات الشعب من التعاونيات ومزارع الدولة، وغيرها من مصادر الثروة التي استولى عليها النافذون من أصحاب (المشاريع الكبيرة) بالمقارنة مع مشاريعنا التي تستهدف إنصاف الضحايا وردع الظالمين.
أعادني هذا الحديث الذي كنت شاهدًا عليه إلى ما تشهده ردهات مؤتمر الحوار الوطني وما يدور من أحاديث على المنابر الإعلامية اليمنية حول القضية الجنوبية، التي يؤكد الجميع أنها القضية المحورية والرئيسية إلى درجة جعلتنا نشعر بالقلق كلما كثر الحديث عن القضية الجنوبية وتأكيد أولويتها وأهليتها ومركزيتها ومشروعيتها وعدالتها.
البارحة كان أحد المتحدثين من بين الذين شاركوا في نهب الأراضي، والسيطرة على الحقوق, كما نشرت بعض المواقع الإلكترونية تصريحًا حول أولوية ومشروعية وعدالة القضية الجنوبية وكان صاحب التصريح هو أحد الذين ظلوا لسنوات من المدافعين عن سياسة القتل والقمع والتنكيل التي قوبل بها الحراك السلمي الجنوبي، وظلوا طوال 18 عامًا يتصدون لكل من ينتقد الممارسات الجائرة للنظام، ويعتبر "الزعيم الرمز" من المقدسات والثوابت التي يعتبر المساس بها أقرب إلى الخيانة الوطنية،، اليوم تحول هذا الشخص وأمثاله المئات من الناهبين والمنتفعين من سياسات السطو على خيرات الجنوب وممتلكات أبنائه تحولوا إلى خطباء مفوهين يتحدثون عن القضية الجنوبية متناسيين أن للناس ذاكرة ليست مثقوبة وأنهم لن ينسوا من استباح دماءهم ونهب حقوقهم وعبث بمقدراتهم.
المزايدة على القضية الجنوبية تحولت إلى شماعة يتسلق عبرها الانتهازيون والناهبون وأثرياء الحروب في محاولة لخداع الضحايا معتقدين أن مجرد منح الجنوب 50% من مندوبي المؤتمر أو تعيين رئيس جنوبي أو رئيس وزراء جنوبي ونصف الوزراء أو أكثر من الجنوب سيحل المشكلة الجنوبية، إنهم يعالجون المرض بدواء غير دوائه ويشخصون الحالة بغير أعراضها ومسبباتها وهنا تكمن المعضلة الجذرية في التعاطي مع قضية كبرى بحجم القضية الجنوبية.
هل كل المتحدثين عن القضية الجنوبية صادقون في ما يقولون؟ وبعبارة أخرى هل كل المتحدثين عن القضية الجنوبية يقفون منها نفس الموقف ويفهمونها نفس الفهم؟
إن الاختبار البسيط لكل الأقاويل التي تتردد هنا وهناك عن القضية الجنوبية هو في غاية البساطة: أن يتخلى كل منتفع من تدمير الجنوب عن المنافع والغنائم التي جناها بفضل السيطرة على الجنوب، لأننا ببساطة لا يمكن أن نفهم معنى أن يتغنى أحدهم بالوحدة اليمنية ويتبجح بقدسيتها ويدعي تبني القضية الجنوبية بينما يتمنع في التنازل عن قطعة أرض أو حتى مئات القطع التي سطا عليها من أملاك الفقراء في الجنوب، هذا ناهيك عن معالجة القضايا الأخرى المتصلة بإعادة الناس إلى أعمالهم وتعويضهم عن الضرر الذي ألحق بهم نتيجة الإقصاء والاستبعاد وتفعيل نظام المؤسسات وإعادة النظام والقانون الذي افتقده مواطنو الجنوب منذ 7/7 /1994م.
قلنا هنا أن هذا اختبار بسيط وهو في جميع الأحوال لا يعني حل القضية الجنوبية، لأن الحل لا بد أن يكون أوسع من ذلك بكثير إذ لا بد أن يعبر عما يرتضيه أبناء الجنوب بما يحقق آمالهم ويستجيب لتطلعاتهم ويشعرهم بالانتماء إلى هذا الكيان الوطني الذي يختارونه، وليس المفروض عليهم بالإكراه، لكن الخطوات المشار إليها أعلاه يمكن أن تكون مدخلاً لمعالجة القضية معالجة جذرية تزيل الأسباب ولا تكتفي بالنظر إلى النتائج.
المشاريع الصغيرة ليست المطالبة بالحقوق والدعوة لإنهاء المظالم وبناء دولة المواطنة المتساوية، إنها تشمل الكثير من السلوك ومنه السطو على أموال وثروات الشعب ونهب أملاك الآخرين وبناء الأرصدة والشركات والمؤسسات الاستثمارية والتجارية والسياحة على حساب أموال الشعب، حتى وأن تدثر أصحابها برداء القضايا الكبرى كالثورة والجمهورية والديمقراطية والوحدة، التي هي براء من كل مشاريعهم الصغيرة.
برقيات:
* في حديثه أمام مؤتمر الحوار الوطني قال صديقي الداعية المعروف المهندس عبد الله صعتر مخاطبًا الذين يطالبون بتقرير مصير الجنوب واستعادة الدولة الجنوبية: إن بيننا وبينكم عشرة شهود يوم القيامة هي الله والأرض والملائكة وذكّر بالآية الكريمة "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (سورة النور آية 24) أحد المستمعين لحديث المهندس قال متسائلا: ترى هل للناهبين والمغتصبين والقتلة الذين استباحوا الجنوب ألسن وأرجل وأيدي تشهد عليهم أم أنها ستأتي خرساء يوم القيامة؟
* لطالما طالب كاتب هذه السطور كل الفرقاء السياسيين اليمنيين بالمجيء إلى مؤتمر الحوار الوطني وطرح كل قضايا الوطن على مؤتمر الحوار: اليوم جاءت الانسحابات من قبل بعض الذين كانوا من أكثر المتحمسين لهذا الحوار وهو ما يبعث الكثير من المخاوف من أن تتحول هذه الانسحابات إلى مبرر للتمرد على ما قد يتمخض عنه مؤتمر الحوار إذا ما كتب له النجاح.
* قال الشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران:
أيا ناشد الحسن في كل فنٍ        رصين المعاني مكين البناء
لقد جئت من آهلات الديار        تحجُّ الجمالَ بهذا الــــــــعراء
فلا يوحشـــــــنَّك فقد أنيسٍ        سوى الكرِّ يعـــمر هذا الخلاء
وإن الرســوم لحالٍ تحولُ        وللــــحسن دون الرسوم البقاء
له صور أبداً تـــــــــــستجدُّ        وجــــــوهره أبدًا في صفاء
بـــــكلّ زمانٍ وكل مكانٍ         يـــــنوِّع في الشكل للأتقياء
فليس القديم وليس الحديث        لدى قدرة الله إلا ســــــــواء