في ذكرى استشهاد مبارك بن ناصر طعيمان
بقلم/ د.عسكر بن عبد الله طعيمان
نشر منذ: 11 سنة و 4 أشهر و 13 يوماً
الإثنين 12 نوفمبر-تشرين الثاني 2012 01:10 م

الحمد لله الذي كتب على عباده الفناء وتفرد وحده بالبقاء, والصلاة والسلام على خاتم الرسل والأنبياء، وعلى آله وصحبه الأتقياء, وبعد:

فماذا تكتب عندما تختلط عليك المشاعر والأحاسيس؟ ففقد الأحباب والأخلاء هو أصعب مصائب الحياة, ولذلك ترتب على الصبر عليه أجر عظيم, ففي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ), وأي جزاء بعد الجنة؟ نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.

بعد اندلاع الثورات العربية المباركة؛ لإسقاط أصنام الحكم الجبري, وانطلاق ثورة اليمن العظيمة, أدركت حينها أن علينا أن نوطن أنفسنا على فقد الأعزاء, فلا بد لكل ثورة من تضحيات, وهذا ميلاد جديد للأمة, ولا بد للميلاد من مخاض, ولا بد للمخاض من آلام, كما عبر مفكر الإسلام سيد قطب رحمه الله.

وفي هذه السطور أكتب عن واحد من الذين فقدناهم, وهو ضمن كوكبة من الشهداء الأبرار الذين نحسبهم- والله حسيبهم- لم يضحوا بأنفسهم إلا من أجل مبادئ آمنوا بها, وعاشوا وماتوا لأجلها, وهؤلاء العظماء لا يمكن أن توفيهم الكلمات ما يستحقونه من تبجيل, ولا يمكن للكلمات أن ترسم صورة عن عظمة التضحية التي قاموا بها.

إنه الشهيد أخي الحبيب: مبارك بن ناصر بن حسين طعيمان, ولد في شهر صفر عام 1404هـ, الموافق لشهر نوفمبر 11/ 1983م, وأكمل دراسته الثانوية، والتحق مؤخرا بالجامعة، وتوفي ولم يكملها, وله من الأولاد أربعة وهم: المعالي والعلاء ومحمد وندى, وأجاب ربه يوم الاثنين 25/من ذي الحجة 1432هـ, الموافق 21/11/2011م, وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره, عاش عمراً قصيراً واكتسب فيه مجداً رفيعاً

قد تطولُ الأعمارُ لا مجدَ فيها .................... ويضمُّ الأمجادَ عمرٌ قصيرُ

 ماذا أقول في وصفه وماذا أقول في رثائه؟؟ لو كنت أشهد له في أمر دنيوي لكانت شهادتي فيه مجروحة؛ لأنه من أقاربي ومن صفوة أحبابي, ولكنني أسجل بعض الخواطر عسى أن أعزي بها نفسي، وأحفظ بها شيئاً من حقه عليّ وتأديةً لبعض الواجب تجاهه.

ولد الشهيد مبارك من أسرة كريمة, فأبوه هو الوالد: ناصر بن حسين طعيمان، المعروف بحكمته وحنكته وتجربته وحسن تربيته, وأمه هي المرأة الصالحة فاطمة بنت مبارك الدولة تغمدها الله وولدها بواسع رحمته، وجمع بينهما في دار كرامته, وقد توفيت الأم بعد ولادته بقليل, وأخذته جدته لأمه -أمدها الله بالصحة والعافية وأحسن لها العاقبة والخاتمة- وأحسنت العناية به، وعوضته عن حنان الأم وعطفها, مما جعله طوال حياته القصيرة يعيش مقدِّراً لمعروفها وفيّاً لحقها, يُكنُّ لها أعظم الحب وهي تبادله بمثله, وأحزنني كثيراً أن من حولها لم يستطيعوا أن يخبروها بموته؛ رفقاً بها وشفقةً عليها, وفي هذا دلالة عظيمة على مقدار تعلقها به, وما كان لهذا الحب أن يكون لولا ما لمست منه من وفاءٍ ومعاملة حسنة، يستحق معها كل هذا الحب وكل هذا التعلق!!!

 عاش الشهيد رحمه الله بداية حياته كما أسلفت عند جدته وعند أخواله آل الدولة أهل الأصالة والشهامة والمروءة, وكانوا نعم الأخوال، وقد أحبهم كثيراً وأحبوه, ثم عاد ليعيش عند والده المربي القدير, فاستفاد من القيم الدينية والأخلاقية التي يحملها والده الكريم، ويحرص أن يربيه هو وإخوانه عليها, فنشأ محباً للصلاة وللمساجد, محباً للخير وأهله، مبغضاً للشر وزمرته, فأرجو من الله أن يجعله ممن ينطبق عليهم صفة الشاب الذي نشأ في طاعة الله تعالى, وهي من صفات السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما جاء في الحديث.

وكنت أراه حريصاً على دينه, كثيرا ما يسأل ويستفتي عن كل ما يشكل عليه, وقد عشت معه في مكة المكرمة فترة من الزمن, وكان حين يزورني لا يتكلم معي إلا فيما يفيد, وكان يسألني كثيراً عن قصص الصحابة رضي الله عنهم، وقصص العلماء والصالحين، ويستمع لها بشغف عظيم, وكان يحب سماع الحديث عن الجنة ونعيمها، أسأل الله الكريم أن يجمعنا به فيها بفضله ورحمته.

شاء الله أن نجتمع في رحاب المشاعر المقدسة في أول حجة يحجها، حيث كان على موعد صدق مع حجة الإسلام, وفي هذه تخنقني العبرات، وتلجمني الآهات، وأنا أتذكر بروق السعادة والغبطة في محياه, وفرحه الغامر بالحج!!!.

كتب الله أن يحج مبارك حجة الإسلام ولم يكن يعلم أن سنين عمره قد أزفت، وأيامه تقترب به من الوعد المحتوم, حجَّ مباركُ في حجٍّ مباركٍ ولم يكن يعلم أن نسيج كفنه على حوافه الأخيرة, وأن صفحة عمره قد اقتربت من الدورة النهائية لتطوى, حج وهو في ريعان الشباب, لم ينتظر كعادة أقرانه أن يمتد به العمر ليحج بعد منجزات الحياة الفانية.

أكثر ما لفت عناية فكري صحةُ فطرته وسلامة قصده وخلوص نيته, وحرصه على الالتزام بالأحكام فرضا ونفلا, وعزز تلك النظرة في خاطري ولعه بالسؤال عن تفصيلات الحج والعمرة, دفعتُ إليه كتيباً في المناسك, فقرأه في ليال معدودة, ثم عاد يسأل في الخلافيات في حرص وشغف بمعرفة الراجح من الأقوال, حتى يؤدي حجه كاملاً لا نقص فيه, لم يكن يسأل عن مسألة إلا وهو يحمل نفسه على حفظها والتأهب لتطبيقها كما حفظها, أعظمت فيه ذلك المعنى الذي نفتقده في جيلنا.

كان مبارك رحمه الله يدرك بفطرته ما يجهله الكثير من حملة الأقلام وأصدقاء الكتاب, كان يدرك أن الحق لا يوهب, بل يُنتزع انتزاعاً, وأن الفضيلة إذا لم يدافع عنها الرجال تداس بأقدام البغاة ودعاة الضلال.

عاش رحمه الله بزادٍ من فطرة الله التي فطر الناس عليها, كان يقوده إيمانه وتسموا به نيته, فلسفة الحياة عنده تنطلق من قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴾ [الأنعام : 162 ، 163].

فاضت روح مبارك إلى باريها وهو يردد: في سبيل حكم الشريعة تهون التضحيات. بهذا اليقين سيلقى ربه, والله ينظر إلى القلوب وهو مطلعٌ على النوايا, وفي ميزان الغفلة أن من مات خسر حياته, وفي ميزان العقلاء وفي ميزان الحق أن المرء يُبعث على ما مات عليه, وهكذا سيبعث مبارك، ومن أصدق من الله وعداً. ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران : 145].

كل الناس سيموتون, لا ريب في ذلك, ومهما تعددت الأسباب فلن يكون الموت واحدا هنا؛ ففرق بين الموت لأجل الحق والموت لأنه الموت.

رحل مبارك وهو مبارك العمل مبارك السريرة, لم تُدنس يده بمأثمة ولا سعى لمظلمة, اكتسب من كده وعمل يده, وبقي حلمه الأكبر أن يرى الكلمة الأولى للإسلام.

يقال: إن الثورات يصنعها الأبطال ويجني ثمارها القاعدون, هذا عندي لا يصدق على كل ثورة, قد يكون أغلبيا نعم, غير أني أثق أن ثمار التضحية التي وهبها مبارك وإخوانه من الشهداء لدينهم وأمتهم ستؤتي أكلها لجيلهم الإسلامي، بعز عزيز أو بذل ذليل.

شهادة مبارك ومن معه من إخوانه نقيةٌ لا ريب فيها بإذن الله, تماما كشهادة الأستاذ أبي الأحرار محمد محمود الزبيري رحمه الله.

سقوط مبارك مضرجاً بدمه المسكي العنبري يذكرني بسقوط الزبيري..!!

بحثتُ عن هبةٍ أحبوكَ يا وطني ..................فلم أجد لك إلا قلبي الدامي 

لا فرق غير الفاصل الزمني الذي لا يعني في تقييم المكرمات شيئاً ذا بال, جاء مبارك وإخوانه بعد عقود؛ ليستردوا ثورة الزبيري المسلوبة من براثن اللصوصية المدعمة بخَوَر من أقعدتهم المصالح, وأسرتهم الشهوات, فانقلبوا يصمون البطولة بالتهور, وهم لا يدركون بحذقهم المصفد بأغلال الشهوات أن الشهداء أحياءٌ عند ربهم, وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

وأيُّ عملٍ حسنٍ أرفع من مقارعة الباطل والتمكين للحق, ودفع صولة الباغي الغاشم الظالم، وتمهيد المسالك للسائرين في دروب الحرية والعدل, تلك مقاصد الإسلام العظمى التي شارفها مبارك بن ناصر وإخوانه بأرواحهم الطاهرة وفطرتهم النقية وألق نفوسهم الزكية.

وأعود إلى الحديث عن مناقب الشهيد رحمه الله, فقد كان يتمتع بصفات حميدة وأخلاق كريمة, وهبه الله عقلاً راجحاً, كنت أرى فيه الشاب الصغير صاحب العقل الكبير, والفتى الهادئ الوقور ذا الأخلاق الحسنة, ومن أهم أخلاقه التي تميز بها خلق الحياء, وهو خلق عظيم قرنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان؛ لأهميته ولعظيم أثره على المسلم, فمن فقد الحياء فلا خير فيه, جاء في الحديث الصحيح: (( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) والشهيد رحمه الله كان من الذين يستحيون، ولا يصنعون ما يشاؤون, فكان يحمله هذا الخلق الكريم على مكارم الأخلاق، كاحترام الكبير والإحسان إلى الناس وكف الأذى عنهم, كما يبعده عن الوقوع في رذائل الأعمال، وعن كل ما يشينه في المجتمع, والناسُ شهداء الله في أرضه، فمن شهدوا له بخير قبل الله فيه شهادتهم، كما جاء في الحديث الصحيح: ( ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة أهلِ أبياتٍ من جيرته الأدنَيْنَ، أنهم لا يعلمون إلا خيراً إلا قال الله ـ جل وعلا ـ :قد قَبِلْتُ علمكم فيه، وغَفَرْتُ له ما لا تعلمون ).

ومن أجمل الصفات التي كان يتحلى بها الشهيد رحمه الله: خلق الصدق والصراحة, فكان صادقا يحملك على الثقة في كل ما يقول, بينما تجد في الناس اليوم من قد يحلف بالله كاذباً، وحسبنا الله ونعم الوكيل, وكان صريحا لا يجامل ولا يجيد المجاملة، ولا يتملق ولا يتزلف, وهذه منقبة عظيمة, لكنها للأسف أصبحت عند بعض الناس منقصة ومثلبة, فلا يعجبهم إلا المتملق صاحب اللسان المعسول، ولو كان ينطوي على أسوأ الأخلاق, وهذا من انتكاس الموازين والعياذ بالله.

ومن أخلاقه رحمه الله كذلك: عزة النفس, فكان صموتا صبورا، لا يشتكي ولو كان في ظروف قاسية, وكنت أعجب من جميل صبره ورضاه، رغم ما كان يعانيه أحياناً من أتعاب الحياة ونكدها, ولسان حاله كما قال الشاعر:

فإِنْ تَسْأَلونِي كَيْف أَنتَ فإِنَّنِي ........ صَبُورٌ على رَيْبِ الزَّمانِ صَلِيبُ

يَـعِزُّ عليَّ أَنْ تُـرَى بِي كـآبَةٌ ... ........ فيَشْمَتُ عادٍ أَو يُساءُ حَبِيبُ

وبعد هذه اللمحة السريعة عن حياة الشهيد المبارك, والنبذة المختصرة عن أخلاقه وصفاته، أرجو أن نستخلص منها العظة والعبرة, وآمل أن يستفيد منها الشباب وأن يقتدوا به فيما تميز به, وأن يدركوا أنه لا قيمة لأحدهم إلا بالتزامه بدينه وعبادة ربه سبحانه وتعالى, وبما يتحلى به من قيم وأخلاق, وما يحمله من فضائل.

ما الذي ستزيده الأيام فينا إذا فقدنا ما أدركه مبارك وإخوانه من المعالي؟ وينبغي بل يجب أن لا ننسى أبدا ما ضحّى من أجله أولئك الأبطال في سبيل السعي للتمكين للدين، ورفع رايته في الطريق الطويل؛ لاستعادة أمجاد هذه الأمة؛ ليعم الخير والحق والعدل والنور أرجاء المعمورة بعد أن طغى عليها الظلم والظلام, وتاهت البشرية في دروب الظلمات, وما ذلك على الله بعزيز, وهو عندنا ليس ضربا من الخيال، ولا ضغثا من الأحلام, بل هو وعدُ حقٍّ نؤمن به ونوقن بوقوعه؛ لأنه جاءنا به من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فقد قال كما في صحيح مسلم: « إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها, وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها..».

فما على المسلمين إلا أن ينفضوا عنهم غبار الجهل والذلة والتبعية, وأن يوحدوا صفهم، ويعرفوا خلف من يجب أن يسيروا, ولا يكون أحدهم كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها, وعلى رواد الصحوة والنهضة -كما قال الدكتور بديع- أن يبنوا السفينة، ويحافظوا عليها، والله سبحانه هو من يجريها ويحفظها في الطوفان، ويوصلها إلى مستقرها ومرساها بلطفه وقدرته وحكمته, ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم : 6].

وما الموت إلاَّ رحلةٌ غير أنَّها ............... من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي