الجيش السوداني يسحق قوات الدعم السريع ويلحق بها خسائر فادحة غرب كردفان
من مجلس الأمن إلى مجلس الحرب: إسرائيل ترفض الدولة وتراهن على القوة
جامعة إقليم سبأ تنظّم ندوة تعريفية حول اختبارات اللغة والمنح الدولية
تعرف على مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة
الذهب لا يُمنح لمن يسجل فقط... كين يبحث عن التتويج ليكتب التاريخ
الفيفا يعلن الحرب على الإساءة الرقمية: آلاف المنشورات تحت المراجعة ومخالفون خلف القضبان
امتناع روسي وصيني ينهي توافق مجلس الأمن حول العقوبات على اليمن والقربي يحذًر من تصعيد قادم
هل يعود زيدان لتدريب ريال مدريد؟
مليشيا الحوثي تعيد إنتاج التعبئة القبلية لتغطية فشلها الداخلي وتكثف من سلاحها الإعلامي نحو السعودية
حرائر اليمن في مأرب يطلقن حملة دعم للمرابطين عبر مهرجان خيري
يشهد المشهد الوطني في هذه المرحلة من تاريخ اليمن تعقيدات غير مسبوقة، تتداخل فيها العوامل السياسية والإعلامية والميدانية بصورة تجعل من ضبط اتجاهات العمل الوطني مهمة شديدة الحساسية، فالتحديات الخارجية تتربص بالجمهورية اليمنية في لحظة انقسام داخلي مؤلم، والمكائد السياسية والتراشق الإعلامي بين شركاء الصف الجمهوري لم تعد مجرد خلافات عابرة، بل مؤشرات على أزمة وعي ومسؤولية تهدد فكرة الدولة نفسها إن لم يُحسن التعامل معها بحكمة وعقلانية وطنية رصينة.
تفسَّر حالات التراشق داخل الصف الجمهوري بوصفها نتاجًا لغياب البوصلة الجامعة التي تضبط الإيقاع العام للقوى السياسية والإعلامية، فحين يغيب الهدف المركزي، يتقدم الصوت الشخصي على المصلحة العامة، ويتحول الخلاف السياسي إلى خصومة شخصية، والإعلام الوطني إلى ساحة لتبادل الاتهامات، لا إلى منبر لتصحيح المسار، وهذه الظاهرة ليست جديدة على البيئات الانتقالية، لكنها في الحالة اليمنية تأخذ طابعًا أكثر خطورة لأنها تتزامن مع حرب وجودية تخوضها الدولة ضد مشروع إمامي مدعوم إيرانيًا يسعى لهدم الجمهورية من أساسها.
الوعي في مثل هذه المراحل يمثل عنصر الضبط والتوازن، فهو الذي يحدد إن كانت الضغوط ستتحول إلى دافع للوحدة أم إلى وقود للتشظي، فحين يدرك الفاعلون حجم الخطر المحدق، تتراجع الحسابات الصغيرة، ويتقدم الشعور بالمسؤولية الجماعية، أما حين يغيب هذا الوعي، تصبح الساحة مفتوحة أمام الانفعالات والمكائد السياسية، ويغدو كل حدث قابلًا للتأويل بما يخدم نزعة فئوية أو حزبية، فيتحول الإعلام إلى أداة لتأجيج الخلاف بدل احتوائه، وتضيع الحقيقة في زحمة المزايدات.
الوعي ليس ترفًا معرفيًا بل هو خط الدفاع الأول عن بقاء الفكرة الوطنية، فبدونه يصبح الولاء الوطني هشًا، والمفاهيم قابلة للاختطاف من قبل الخطاب الشعبوي أو الحملات الممولة خارجيًا، لذلك فإن بناء وعي جمهوري مشترك بات ضرورة وجودية لا خيارًا سياسيًا، خاصة في ظل تصاعد الحرب النفسية والإعلامية التي تستهدف تشويه رموز المشروع الجمهوري وتشتيت الرأي العام، بما يخدم أهداف الحوثي وإيران في ضرب العمق الوطني من الداخل.
ولأن التاريخ هو المدرّس الأول للأمم، لا بد من قراءة سريعة ومركزة لمسار التحولات السياسية التي صنعت واقعنا الحالي، فبدون هذه الخريطة لا يمكن فهم أسباب التشرذم أو رسم سبل المصالحة الحقيقية، وفيما يلي استعراض مختصر ومرتكز على الوقائع:
استهلّ العقد السياسي الحديث بحرب صيف 1994م، حين تحوّل الخلاف الشديد بين مكونات الشمال والجنوب إلى صدام مسلح أسفر عن هزيمة الجناح الجنوبي وفرار قياداته إلى الخارج، وقد تغيّرت بمقتضى الحرب قواعد التمثيل والميزان السياسي في الجمهورية، وتقلّصت فرص التوافق الوطني على قواعد عادلة قسمًا كبيرًا من النخب والموارد لصالح المركز الجديد، وهذه الحقيقة تركت أثرها الممتد على الديناميات السياسية اللاحقة، وهو ما يعني أن كثيرًا من جراحات الماضي استمرت تفتح أبوابها في أوقات الأزمات.
في أعقاب الانتخابات وما تلاها من موازين قوى، شهدت سنة 1997 تحولًا مهمًا في مسارات التمثيل الحزبي، إذ بدت علاقة حزب التجمع اليمني للإصلاح وبقية مكونات المعارضة مع دوائر السلطة مختلفة عن مرحلة الوحدة المبكرة، وقد مثّل هذا التطور مرحلة من التهميش السياسي الجزئي لبعض الفاعلين، وهو ما دفع لاحقًا إلى إعادة ترتيب التحالفات والمواقف داخل المشهد الجمهوري.
وثورة 2011م كانت حدثًا مفصليًا قلب الخريطة السياسية في اليمن، فاحتجاجات الربيع العربي وصلت صنعاء وأسقطت شبكة حكم امتدت لعقود، ورغم أن الثورة حملت مطالب حقيقية بالإصلاح والعدالة، فإنها فتحت أيضًا بابًا لفوضى مؤسساتية أعادت تشكيل الجيش والإدارة المحلية وأتاحت فرصًا لقوى إقليمية للتموضع، فغداة 2011م دخل المشهد فترة انتقالية هشّة انتهت بانتقال سلطة شكلية إلى رئيس انتقالي لم تفلح الاتفاقات في حمايته من التفتت الداخلي.
ومع تدهور الأمن واحتقان الصراع، شهد عام 2014م تحوّلًا خطيرًا حين استغلت جماعة الحوثي الفراغ السياسي وتقدمت إلى السيطرة على العاصمة صنعاء وتحالف جزء من المؤسسة السياسية معها، وتلا ذلك ترتيب جديد للقوى على الأرض، إذ توزعت الولاءات بين ميليشيا منتصبة في الشمال وقوى رسمية ومسلّحة موالية للحكومة الشرعية، وكان لهذا التحالف المؤقت بين جناح من المؤتمر الشعبي والحركة الحوثية أثره في تفكيك النظام الحزبي التقليدي وإطالة أمد الصراع.
في خضم هذا المسار المطوّل جاءت أحداث نهاية 2018م بقراءات متعددة على الساحة الوطنية والإقليمية، فقد شهدت تلك الفترة تحركات ميدانية ودبلوماسية متعددة، تضمنت محادثات السلام في ستوكهولم واتفاقًا جزئيًا حول الحديدة، كما صعدت في الجنوب قوى انقلابية محلية ذات جذور تاريخية وطموحات انفصالية، وما عرفه المشهد في ديسمبر 2018م من تطورات أعاد تذكير الساسة بأن الاستقرار لا يُبنى إلا عبر اتفاقات سياسية فعلية تضمن مشاركة عادلة وكبحًا للتصعيد العسكري. .
أما النهاية الدراماتيكية لحلفٍ أُعلن زمنًا بين صالح والحوثي، فكانت مقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح في ديسمبر 2017م بعد خلافات علنية وتحوّل في الولاءات السياسية، وقد أثبتت واقعة اغتياله أن التحالفات القائمة على المصالح المؤقتة قابلة للانفجار وأن الانحيازات التكتيكية قد تؤدي إلى نتائج ميدانية وسياسية بالغة القسوة، كما أنها تركت فراغًا ومؤثرات على بنية الجناح التقليدي الذي كان يمثله المؤتمر الشعبي، وهو درس يجب أن يعيه أي مشروع تحالف قومي مستقبلي. .
إن قراءة هذه المحطات معًا تبرز أن الأزمة ليست مجرد سلسلة حوادث معزولة، بل هي تراكم تاريخي لصيغ تحالفية هشة، وسياسات إقصائية، وتأويلات إقليمية للعبة المحلية، وكل ذلك يضع على عاتق القوى الجمهورية مهمة إعادة قراءة التاريخ المشترك بصراحة، من أجل بناء آليات مؤسسية تقي البلاد من الوقوع في فخ التحالفات المرحلية التي تنهار حين تتبدل المصالح.
وفي هذا السياق الحديث، تشكل شحنات الأسلحة والمخدرات التي تم ضبطها في البحر الأحمر، وآخرها الشحنة الضخمة التي بلغت نحو 750 طنًا من الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة، نموذجًا صارخًا للتحديات التي تواجه اليمنيين جميعًا، فهذه الوقائع لا تُعد مجرد خروقات أمنية، بل رسائل عدوانية موجهة ضد كيان الدولة ومفهوم السيادة الوطنية، وتدلل على أن المشروع الإيراني لا يزال يضخ أدوات التخريب والتهريب إلى الداخل اليمني عبر أذرعه البحرية والحوثية، ما يستدعي من كل المكونات الجمهورية الارتفاع إلى مستوى التحدي، والوقوف صفًا واحدًا في مواجهة هذا الخطر المشترك، لا الانشغال بخلافات فرعية تستنزف الطاقات وتضعف الجبهة الوطنية.
وتشير الوقائع الميدانية والمعلومات الاستخباراتية الأخيرة إلى أن الميليشيا الحوثية تستعد لمعركة كبرى ضد قوات الجيش اليمني التابعة للحكومة الشرعية، بدليل نوعية وكميات شحنات الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة الموجهة إلى الحوثيين عبر البحر والبر من إيران، وهو ما يعكس أن طهران تعمل على تهيئة أذرعها في اليمن لجولة تصعيد جديدة تتزامن مع إعادة تموضع إيراني في البحر الأحمر وخليج عدن، بهدف الضغط على الولايات المتحدة والتحالف العربي معًا، وتحويل الساحة اليمنية إلى ورقة تفاوضية إقليمية في مواجهة العقوبات والعزلة المفروضة على إيران.
أما المسؤولية فهي الامتحان الحقيقي لكل من يرفع شعار الجمهورية، إذ لا قيمة لأي شعار لا يترجم إلى سلوك عملي يلتزم بالضبط والانضباط، فالمسؤولية هنا ليست واجبًا إداريًا بل مبدأ وطني يقتضي احترام التعددية مع الالتزام بوحدة الهدف، وحين تتحول المسؤولية إلى شعار فضفاض، يختل ميزان الثقة وتنهار القواعد التي يقوم عليها أي عمل وطني مشترك.
الصيغ الحقيقية لحل مشاكل شركاء العمل الوطني تبدأ بالاعتراف بالاختلاف وإدارته لا إنكاره، فاليمنيون بطبيعتهم متعددو الانتماءات السياسية والمناطقية، لكن التنوع لا يعني التناقض، بل يمكن أن يكون مصدر غنى إذا أُحسن تنظيمه، فالتاريخ السياسي الحديث يثبت أن القوى الوطنية حين تنشغل بخلافاتها الداخلية، تفسح المجال لخصومها للتقدم على حسابها، وحين تتوحد ولو تكتيكيًا، تربك خصومها وتعيد توجيه الرأي العام نحو معركة الوجود الكبرى.
إن فعاليات توحيد الصف وخطاباتها المتكررة لن تكون ذات جدوى إن بقيت حبيسة الشعارات أو المناسبات الإعلامية، فالمطلوب هو تحويلها إلى اتفاقات تفصيلية تضع أسس الشراكة الفعلية في إدارة المعركة الوطنية، على قاعدة توزيع المسؤوليات والمهام لا توزيع المكاسب والمناصب، بحيث تضمن العدالة في التمثيل والوضوح في الصلاحيات، وتمنع الازدواجية التي أرهقت القرار الوطني خلال السنوات الماضية وتغليب مصلحة الوطن على مصالح الأفراد و القيادات التي ارهقت الوطن و المواطن ودمرت الجمهورية و الوحدة.
المسؤولية الوطنية في هذا السياق تقتضي من الجميع تغليب المصلحة العامة على المكاسب الحزبية، وتستلزم ضبط الخطاب الإعلامي بما يخدم وحدة الصف الجمهوري، لأن الكلمة في هذه المرحلة قد تكون سلاحًا أكثر فتكًا من الرصاصة، فإما أن تُستخدم لترميم الجبهة الوطنية وإحياء الثقة بين المكونات، أو لتوسيع الشرخ وزرع الشكوك بين الشركاء، وهنا تكمن أهمية الالتزام بميثاق شرف إعلامي يضبط إيقاع الخطاب الجمهوري، ويمنع تسلل الخصوم من خلال الشروخ و المنافذ المفتوحة للنزاع الداخلي.
إن المرحلة تفرض وعيًا ومسؤولية على مستوى استثنائي، فالمكائد السياسية والتراشق الإعلامي لا يمكن مواجهتهما بالردود الانفعالية، بل بالتماسك والوضوح وتحديد الأولويات، إذ لا يمكن بناء دولة في ظل ساحة ممزقة بالإشاعات، ولا يمكن خوض معركة الجمهورية بصف متنازع، فالمستقبل الوطني مرهون بقدرة القوى الجمهورية على تجاوز هذه الهشاشة النفسية والسياسية، وإعادة تعريف العلاقة بين الحرية والانضباط، وبين النقد والمكايدة، وبين التعدد والوحدة، بما يضمن بقاء الفكرة الجمهورية حيّة وفاعلة في وجدان اليمنيين.
وفي ختام هذا السياق، تبرز ضرورة الانتقال من الخطاب النظري إلى الفعل السياسي الواقعي عبر تحالف حقيقي بين الأحزاب الداعمة لعودة الشرعية، وفي مقدمتها المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح، فالتباعد بين هذين المكونين، رغم تقاطعهما في الهدف، يمثل ثغرة استراتيجية كبيرة تستفيد منها الميليشيات الحوثية وإيران معًا، بينما يمكن لتحالف مدروس ومؤسسي و حقيقي و نبذ خلافات الماضي و حساسيته وفتح صفحة بيضاء بينهما أن يشكل قاعدة صلبة لإعادة بناء اليمن الجمهوري، وتوحيد الجهود السياسية والعسكرية والإعلامية، ضمن مشروع وطني متكامل يستعيد الدولة ويعيد الثقة للشعب اليمني بأن الجمهورية لا تزال قادرة على الحياة والانتصار.
أ.د. عبدالوهاب العوج
أكاديمي ومحلل سياسي يمني
---
المراجع/المصادر الموثوقة التي استُندت إليها في الفقرات التاريخية والوقائعية (أهمّها): Britannica (حرب 1994)، Sana'a Center / Arab Center (خلفيات التحالفات الحزبية وانتقال 1997)، تقارير وملخصات عن ثورة 2011 (الصحافة الدولية وملخصات الأحداث)، تقارير عن سيطرة الحوثي 2014 واتفاقات ستوكهولم ديسمبر 2018، وتغطيات Reuters/Al Jazeera عن مقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
.jpg)