اليمن باعتباره قبيلة كبيرة
بقلم/ عبد الباسط القاعدي
نشر منذ: 16 سنة و 10 أشهر و 23 يوماً
الأربعاء 16 يناير-كانون الثاني 2008 11:21 م

مع قيام الدولة اليمنية الحديثة حاولت المجتمعات المحلية في مناطق اليمن الأسفل الانتقال إلى الحياة المدنية إلا أنها لم تتح لها فرصة إكمال الخطوة التي بدأت بها، وانقطع بها الطريق في وسط مرحلة الانتقال من نظام القبيلة إلى نظام المدينة الحديثة..

هذه المناطق عرفت بامتثالها الشديد ومطاوعتها لمؤسسات الدولة المختلفة، لكن ما حدث بعد مقتل الشيخ القيسي أحد مشائخ شرعب غير المفاهيم لصالح التمترس وراء مصطلحات كادت تندثر من قواميس الناس، لأن النظام يكيل بمكاييل متعددة، ويتعامل بطرق مختلفة مع قضايا متشابهة الفارق الوحيد فيها أن أحداثها تدور في مناطق متباينة من هذا الوطن، فالمعلومات التي يتداولها الناس عن تماسك القبيلة في وجه النظام في قضية ما، تغري بقية مناطق اليمن أن تجرب ذات الأسلوب بغض النظر عن شرعيته من عدمها.

كما أن قصر عمر الدولة اليمنية ورداءة النظام وتدني مستوى استجابته وضعف تفاعله مع محيطه، عزز من دور القبيلة السلبي فظلت محتفظة بحضورها القوي على حساب قيم ومكونات الدولة، وأصبح الشعور بالانتماء للقبيلة نوعاً من العقيدة التي يشعر معها الفرد -وإن حصل على شهادات عليا استحق بها موقعا رسميا رفيعا- أن الفضل للقبيلة التي لولاها ما وصل إلى هذا الموقع، والسبب أن سياسة النظام تقوم على توزيع المناصب الحكومية على أسس مناطقية وقبلية يحكمها ثقل الشخص الذي يشغلها والمنطقة التي ينتمي لها.

بالمقابل فإن الحماية التي وفرتها القبيلة للمنتمين لها وخصوصا في المناطق التي تنتعش فيها أهلتها لتحل محل الدولة باعتبارها عقدا اجتماعيا بين أبنائها الذين يعرفون أنظمتها وأعرافها وإن كانت غير مكتوبة، والذي يعيش بالقرب من هذا الواقع يعرف مصطلحات (الغرام) و(داعي القبيلة) عند الأزمات.

النظام يقضي على الدولة

وهنا لست ضد القبيلة التي يمكن أن تتحول في وجود النظام الفاعل إلى ما يشبه منظمات المجتمع المدني، وأن تقوم بدور فعال وإيجابي يسهل ممارسة الدولة لدورها في يسر وانسياب، وتساعد في ضبط إيقاعات المجتمعات المنضوية تحت لوائها لصالح الأنظمة التي ترتب حياة الناس وتحفظ حقوقهم. لكننا عندما نتذكر حوادث اختطاف السياح كأحد الأدوار السلبية التي مارستها القبيلة لا نستطيع أن نحملها وزر هذه الأحداث المؤسفة والمرفوضة، وبغض النظر عن الدوافع التي تقف وراء هذه الأحداث، وحتى إن كانت المبررات هي انتزاع حقوق قد تكون مشروعة أو غير ذلك، إلا أن الاستجابة التي سجلها النظام في هذه المواقف فتحت الباب على مصراعيه لمزيد من هذه الأفعال التي شهدت انتعاشا كبيرا وأغرت القبائل التي تدور في ذات الفلك بأن هذه الوسيلة هي الأنسب لتحقيق مكاسب وإن كانت على حساب اضمحلال مفهوم الدولة وغيابه من حياة هؤلاء. وهذا إثبات واضح أن النظام في كل مرحلة يقضي على جزء من هيبة الدولة لتتحول اليمن في نهاية المطاف إلى قرية كبيرة يحكمها مشائخ متعددون.

إن تجاهل السلطة الرسمية لمطالب الناس وما يرافقها من استجابات خاطئة ومعالجات غير دقيقة، يغري المحيط المجاور الذي يراقب الحدث عن كثب باختراع وسائل مبتكرة قد تكون لغرض الابتزاز ليس إلا، كما أن المظالم التي تمارس باسم النظام حين تتحول أجهزته ومؤسساته إلى كنتونات تسوم المواطن سوء العذاب تدفعه قسرا إلى البحث عن خيارات توفر له الحماية، وهو ما يفسر عزوف الكثير عند حل مشاكلهم عن الجهات الرسمية ولسان حالهم يقول (يوم الدولة سنة). لقد قضى النظام بغير وعي على قابلية المواطن للعيش في ظل الدولة بحدودها المعروفة والاحتكام لها، ذلك أن أول عمل يقوم به من يمثله -وإن كان على مستوى قسم الشرطة- هو تجنيب القانون وممارسة العنجهية في أبشع صورها ليثبت لمن حوله أنه «أحمر عين».

بين يدي قصة دارت أحداثها في مديرية بلاد الطعام بريمة، تفيد أن مجموعة من الشباب الذين عملوا مع أحد مقاولي الطرق وهو شيخ ونائب بالبرلمان رفض تسليمهم مستحقاتهم، ولأنهم مسكونون بثقافة الدولة طرقوا كل أبوابها بدءً من المحافظ مرورا بالقضاء وانتهاء بمدير المديرية وحين وجدوهم غرماء احتجزوا بعض المعدات والآليات التابعة للمقاول حتى يحصلوا على حقوقهم، وبإمكان القضية أن تتطور إلى ما هو أبعد من ذلك لأنهم يرفضون التسليم حتى إشعار آخر يكون للقانون فيه نصيب.

مراكز القوى.

تُفاجأ اليوم حين تعرف أن نظام الحكم يعمل منذ أمد بعيد على إعادة إفراز مراكز قوى وزعامات قبلية لتصفية حسابات مع أطراف أخرى، وهو إذ يمارس هذه السياسة لا يدري أنه أول من يكتوي بنيرانها كونه المعني بإدارة حياة الناس وتصريف شئونهم، ونستغرب عودة العصبيات والنعرات في مناطق لم يعد للألقاب فيها حضور، وبفعل الزمن تداخلت وذابت مع بعضها البعض ليصبح معها الأقرباء يعدون على الأصابع، وبفعل فاعل تبرز النتوءات في هذه التشكيلة الرائعة لتمارس السوء تحت حماية النظام، ومدينة تعز العاصمة الثقافية ورمز التمدن تعيش اليوم مرحلة احتضار تنصهر معها تلك القيم عل حساب البحث عن ظهر يحمي المجتمعات المحلية، وما يحدث في شرعب من أحداث عنف يحتشد له مؤيدون كثر في مديريات تلك المحافظة النائمة على سفح جبل صبر والتي استيقظت على روائح نتنة دفعت العديد من أبنائها إلى التعاطف مع شرعب لأنهم يدافعون عن كرامة المحافظة بكاملها.

وبغض النظر عن صحة المعلومات التي تكشف أن السيارات المسلحة التي خرجت من الحدأ في ذات القضية وتجاوزت 50 سيارة تحمل أسلحة خفيفة وثقيلة كانت بإيعاز وتسهيلات رسمية، فإن تجاوز هؤلاء المسلحين النقاط الأمنية المبعثرة بين محافظات ذمار وإب وتعز لهو أمر محير، إذ كيف تم السماح بمرور هذه الأسلحة مع معرفة عواقب مثل هذا الإجراء؟ ثم أين كان قانون منع حمل السلاح في هذه الحادثة التي مرت تحت رأى وسمع الدولة!؟

لا جديد...

إن الحديث عن استقلال القضاء بعد استقالة رئيس الجمهورية من منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى لم يصمد طويلا أمام الحضور القوي للقبيلة، ويظهر ذلك في قضية مقتل مدير مديرية خيران المحرق بمحافظة حجة في الانتخابات الرئاسية السابقة إذ أن الأصل محاكمة المتهمين في محكمة حجة، لكن تحت ضغط قبائل خولان تم نقلها إلى محكمة جنوب غرب الأمانة، ولأن قبائل حجة وعمران احتجتا فقد صدر توجيه بتحويلها إلى الحديدة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد أثار ذلك التوجيه قبائل خولان التي خرجت بأسلحتها إلى حدود أمانة العاصمة قبيل عيد الأضحى وقد تمكنت من انتزاع توجيه بالتراجع عن تحويل القضية إلى الحديدة وهو ما استفز قبائل حجة وعمران لتهدد بطرد ممثلي الدولة إن استمرت المحاكمة بهذه الطريقة.

تسقط استقلالية السلطة القضائية أمام القبيلة، وتغيب كل قيم ومعاني الدولة، وهاهي القبيلة تتحول إلى مراكز قوى اليوم على حساب منظمات المجتمع المدني، بل نستغرب حين نجد الأحزاب تحتشد تحت راية القبيلة لتنتزع حقوقاً هنا أو هناك، وإلا فكيف نفسر الدعوات المتعددة لعقد تكتلات قبلية في صعدة ونهم وخولان وحجة وعمران وغيرها من محافظات اليمن.

إن ما تشهده محافظات اليمن بطولها وعرضها من احتقانات بدءً من صعدة ومروراً بقبائل الجوف وما جاورها، والغليان في المحافظات الجنوبية لدليل أن الأمر قد أفلت من يد النظام الحاكم الذي يعيش أسوأ مراحله ولم يعد بمقدوره تقديم أي جديد.

* نقلاُ عن الاهالي