الممارسة الآمنة للسلطة في حصون الشرعية
بقلم/ د.فيصل الحذيفي
نشر منذ: 15 سنة و 9 أشهر و 22 يوماً
الإثنين 23 فبراير-شباط 2009 09:10 ص

ما هي الشرعيات التي تمنح السلطة حق الطاعة والقبول من المحكومين والرضا الاجتماعي، وقدرة السلطة على المضي قدما بموجب هذا الدعم برسم السياسات العامة وتنفيذها وتحقيق التنمية والتطور دون عوائق أو تحديات ؟

كل حديث عن الشرعيات السياسية ترجع فكريا إلى العالم الألماني ماكس فيبر الذي قدم ثلاث أنواع من الشرعية:

أولا: شرعية تقليدية : حيث يولد الناس ويجدون حاكما عليهم، ويسلم الناس بالأمر الواقع للحاكم بموجب العادات والتقاليد التي لا يندفع فيها الناس إلى التغيير والرفض والمساءلة، وهذه الصورة شائعة في المجتمعات التقليدية والبدائية فقط حيث يغيب الاتصال السياسي الفعال في بنيات المجتمع وشرائحه وتغيب عنه التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وتسود العلاقات القرابية والقبلية والقروية وانخفاض نسبة التعليم والوعي السياسي وارتفاع نسبة الفقر والبطالة والأمراض الاجتماعية.

ثانيا: شرعية دستورية عقلانية : وهي شكل من أشكال التعاقد الذي بموجبه تنضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم بعقد اجتماعي متفق عليه، والدستور هو الشكل التعاقدي الحديث بين الحاكم والمحكوم، فإذا ما أخلت السلطة بالشروط الدستورية فإنها تغدو منزوعة الشرعية في الطاعة والاستجابة ويصبح من حق الناس الذين اختاروها للحكم أن ينزعوا عنها صفة التمثيل وتسند السلطة إلى شخوص وممثلين جدد وفقا لتحقيق الأهداف التي يطمحون إلى تحقيقها. ويخل ضمن هذا النوع من الشرعية كل أشكال النظم الديمقراطية.

ثالثا: شرعية القيادة الكاريزمية: في ظل هذه الشرعية القيادية يتربع على السلطة شخص ذو قيادة كاريزمية ملهمة يجد الناس فيه طموحهم وآمالهم والتعبير عن أهدافهم، وتطغى شخصية القيادة لتسحر الجمهور بقراراتها وخطابها، فيجد من لدن الجميع استجابة طوعية للانقياد والطاعة بكل رضا وحب وتضحية إن طلبت منهم، لا تسعى الشخصية القيادية الكاريزما – في علاقاتها بالمحكومين - إلى الإكراه بل إلى الإقناع وقوة التأثير والتمثيل وقوة الاندماج مع الأمة إلى الدرجة التي تشبه العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكومين من حيث القدرة الحاكم النموذج الملهم، ومن ناحية الشعور العاطفي علاقة الأب الحنون بالأبناء البررة الذين ينطبق عليهم قول النبي إسماعيل لأبيه « افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين» وهذه الشرعية غير موجودة في السياسة المعاصرة لغياب هذا النوع من القيادة الساحرة.

وقد أضافت التجربة السياسية المعاصرة شرعية رابعة يطلق عليها الشرعية الواقعية المتمثلة بالانجازات العملاقة لأداء السلطة ( الكفاءة والنجاح) سنعرضها كما يلي:

رابعا: الشرعية الواقعية : شرعية الانجاز : وهذه الشرعية تستند إلى مدى قدرة الحاكم على تحقيق مصالح الناس الفردية وشيوع العدل والحرية والسلم والأمن الاجتماعيين، وهنا يرضخ المواطن للسلطة طوعا مقابل ما تقدمه للمجتمع من انجازات وتنمية ملحوظة بموجب مشروع سياسي وخطة مبرمجة ومستمرة لإشباع حاجات الناس المتجددة الذين أوكلوا للدولة والسلطة والنظام السياسي تلبية مطالبهم المعلنة والمفترضة، بمقابل عدم نزوع السلطة إلى المن والأذى والظلم والاستبداد الفج لتنفير الناس أو استعدائهم وإنما تحاول أن تلبي مطالبهم بفعالية عالية سواء أعلنوا عن ذلك أم لم يعلنوا، وهذه النوع من الشرعية يسود الدول الغنية التي تجد من الكفاءة المخزنية في الاقتصاد الريعي ( النفطي تحديدا) ما يساعدها على البناء والإشباع والتطوير بجدارة تجعلها في صدارة الحكم دون اعتراض أو امتعاض، وينصرف الناس عن الاشتغال بالسياسية إلى تنمية مواردهم وإشباع احتياجاتهم. غير أن الانجاز العربي تحديدا لدول النفط الخليجية يظل مراوحا مرحلة الإشباع المادي بعيدا عن التفوق المعرفي والصناعي والاقتصاد العابر للقارات ونشوء مجتمع المعرفة.

وقد نجد شرعية الانجاز في دول لا تمتلك اقتصادا ريعيا وإنما تعمل على بناء المشروع السياسي المعتمد على التنمية البشرية حيث تهتم بإعداد الإنسان معرفيا وتؤهله إلى بناء ذاته بدءا من التربية والتعليم والتكوين المهني والعلمي المتخصص والبناء النفسي والاجتماعي وبناء الكفاءة الاقتصادية في دخل فردي يحقق الحد المعقول من الإشباع والإنتاج والمساهمة في التنمية الاجتماعية، وينطبق هذا على بلدان مثل اليابان وماليزيا وسنغافورة وتايوان والدول الاسكندينافية. وهذا النوع من الانجاز يفضي حتما إلى التسليم بالديمقراطية كخيار متفق عليه في التداول السلمي للسلطة وتتعز الشرعية الدستورية بشرعية الانجاز ليعبر عن استقرار مجتمع منتج.

ما هو رصيد السلطة في النظام السياسي العربي واليمن تحديدا من هذه الشرعيات؟

سنجيب عن هذا التساؤل فيما يخص اليمن في ظل التنازع الانتخابي وتآكل الشرعية:

من الملاحظ أن السلطة في اليمن لم تستطع بعد ما يقارب نصف قرن بعد الثورة وثمانية عشرة منذ تحقق الوحدة اليمنية أن تبني مجتمعا حداثيا إذ لا يزال يغلب على العلاقات الاجتماع طابع القرابية والتراتبية والمناطقية والأسرية والقروية، ولا تزال الدولة غائبة عن ذهنية القبيلة ومجتمع الريف حيث يكون الشيخ هو البديل لسلطة الدولة.

وبالتالي فإن عدم التحول الاجتماعي من الصبغة التقليدية إلى الصيغة التعاقدية الحديثة يجعل النظام السياسي يكتفي بشرعية الموروث والتقاليد ويتكؤ عليها وهي تحصيل حاصل، وإذا ظلت السلطة تعتمد القبول التقليدي بالرضوخ الاجتماعي والتسليم بالأمر الواقع فإن ذلك يزداد تعارضا مع الإقرار بالتعددية السياسية وتطور الاتصال السياسي في المجتمع وحرية التعبير والصحافة والرأي التي تتجاوز حصون وأقفاص الدولة التقليدية التي لم تعد قادرة على استيعاب مخرجات صُناع الرأي والتنوير في المجتمع – المتوالدون والمتكاثرون وتجدد الأجيال - إلى الحد الذي لم يعد القانون الشكلي أو عسكرة المجتمع حصنا صالحا لحماية السلطة من التآكل بين موائد الصحافة والمواقع الالكترونية والبث الفضائي المفتوح والانترنت، والاحتياجات الاجتماعية اللامتناهية فضلا عن انتفاضة الشوارع وغضب العامة.

كما أن شرعية الانجاز التي تسوقها صحافة الحكومة قد أخفقت السلطة فيها إلى حد كبير، فإذا اعترفنا أن السلطة تسعى جاهدة لتحقيق بعض المنجزات ورسم السياسات والاستراتيجيات الطموحة إلا أن التعثر المستدام بانجازاتها هو السائد، ولذلك فإن مطالب المجتمع تتعاظم يوما بعد يوم مقابل تآكل منجزات السلطة بسبب انتشار الغش في التعليم والرشوة في المعاملات وبيع الوظائف والفساد المالي والإداري المستشري والمتعاظم والاعتراف بحقوق المتزاحمين داخل الحزب الحاكم حصرا وليس بحقوق جميع المواطنين مما يفقد السلطة أهم شرعية ممكنة لدعمها في استمرار الحكم وتجاوز هجوم ونقد خصومها.

الحل السحري الذي يرضي جميع الأطراف هو التحول جديا وبإلحاح إلى الإقرار بالشرعية الدستورية – العقلانية، والتسليم بضرورة التوافق على إقرار مثل هذا التحول والسماح بتدوير السلطة عبر شخوص بمؤهلاتهم وكفاءاتهم واختيارهم من الشعب بدلا من التمترس الحزبي والسلطوي والأمني والعسكري ليتم التحول من دولة القبيلة إلى دولة المؤسسات.

إن السلطة اليوم في ظل هذا الاحتقان بمقدورها أن تسعى إلى إعلان حالة الطوارئ بموجب الدستور في حالة الدخول بمواجهة مع المجتمع والأحزاب كما هذا النص الدستوري:«.... وفـي جميـع الأحـوال لا تـعلن حـالـة الطوارئ إلا بسبب قيام الحرب أو الفتنة الداخلية أو الكوارث الطبيعية .....(م 121)» وتحت مبرر الفتنة سيكون بمقدور الحاكم قمع المعارضة في حال تصاعدها. كما أنه باستطاعة المعارضة أن تعيق وصول 5620 لجنة أصلية و27010 لجنة صندوق إلى مواطن عملها. وبالتالي ماذا يعني فتنة توجب إعلان حالة الطوارئ وفشل في إجراء الانتخابات وفراغ دستوري وسياسي يهدد البلاد ؟ نحن نتمنى أن لا يحصل هذا، لكن وقوعه محتمل في ظل غياب التوافق السياسي والمجتمعي.

السياسة الواقعية والناجحة تقتضي استباق الكوارث قبل وقوعها لنحول دون مزيد من الخسارة في الأموال والأرواح والمكتسبات الوطنية.

إن المسؤولية التاريخية ستقع على كاهل السلطة لأنها هي من بيدها اتخاذ القرار، وأن الانتظار إلى أن يتسع الخرق لن ينفع معه لا حالة طوارئ ولا جيش ولا قوات خاصة ولا هم يحزنون، فخاطف الطفل من بني ضبيان لم تستطع السلطة تحريره من الخاطفين ولا هي اليوم قادرة على إلقاء القبض على قتلة الدكتور القدسي، ومن زاوية تاريخية: لقد ثار الناس في اليمن على الإمام وهم أكثر ضعفا من اليوم وأقل عدة وأقل وعيا، والجهل والأمية تسود اليمن طولا وعرضا بنسبة 98% تقريبا.

إن السند الحقيقي الذي سيدعم الاستقرار في اليمن هو تعزيز الشرعية الدستورية التي تنتجها السلطة بالتوافق السياسي والاجتماعي وليس بما تنتجه وحدها بمعزل عن رجع أي صدى إيجابي، لأن تماسك المجتمع من الداخل - وليس الركون إلى الدعم الخارجي أو الاستقواء بمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والجبائية- هو المثبت لبنيان الدولة والسلطة وأركان النظام السياسي.

إن التحول إلى خيار المواجهة مع الأحزاب والمواطنين ستكون السلطة كالتي نقضت غزلها، لقد أنجزت السلطة بعضا من المنجزات التي لا تنكر وينبغي الاستمرار في البناء عليها والاتساع بها ولكن أي سقوط سيفقد السلطة أي بقاء في الذاكرة الجماعية بالطريقة التي يرسمها رموز المؤتمر الشعبي العام أو الصحافة الحكومية مدفوعة الأجر.

إن أعظم منجزات تحققت لليمن هو استمرار الدولة - ولو بشكلها التقليدي - ككيان سياسي جامع للأمة، واستمرار الوحدة كمعزز لقوة الدولة وحجمها السياسي الإقليمي، وتعزيز الممارسات الديمقراطية كخيار آمن للاستقرار وتعزيز الشرعية السياسية للسلطة، وإن أي تنمية وتطور اجتماعي هو رهن بهذه المقومات التي يتم البناء ضمنها وليس دونها.

إن هذا الوطن هو ملك الجميع، فهو ليس حكرا على السلطة أو الأحزاب السياسية، وإننا نلحظ تدني في الأداء السياسي الوطني من الجميع بمقابل تعاظم الأداء السياسي الفئوي والسلطوي والشخصي، وهي خطورة ستفقد الجميع مكاسبهم الشخصية كما ستفقد المجتمع مكتسباته العامة، ولم يكن ولد الطائع موريتانيا يتوقع سقوطه المميت بالشكل الذي جرى مع شدة الشبه بيننا وبينهم، وإن الأحداث تدور ليقع آخرون بما لم يتعظوا بمصائر غيرهم. لكن عزاءنا الوحيد أن الأشخاص والحكام يموتون موتا سياسيا وموتا حقيقيا لكن الأمة تبقى بأوطانها متجددة خارج سياق التوقعات. فهل من معتبر ؟؟!!.

د.فيصل الحذيفي

hodaifah@yahoo.com