فارس غرناطة .. البطل المنسي
بقلم/ احمد الظرافي
نشر منذ: 15 سنة و 8 أشهر و 12 يوماً
الأربعاء 08 إبريل-نيسان 2009 07:35 ص

بعد الانهيار المروع لسلطان الموحدين بالأندلس على أثر هزيمتهم في وقعة العقاب الشهيرة، التي استشهد فيها زهرة شباب المغرب الكبير، بأيادي قوات التحالف النصراني الشمالي، سنة 620هـ، أخذ الكاثوليك في الاستيلاء على مدن الأندلس العريقة الواحدة تلو الأخرى....وفقدت دولة الإسلام بالأندلس معظم قواعدها الكبرى مثل قرطبة وأشبيلية وشاطبة في نحو ثلاثين عاماً فقط.

تبلور مملكة غرناطة

وبعد تلك الضربات الكبرى والمؤلمة والمتلاحقة.. انحازت دولة الإسلام في الأندلس إلى الجزء الجنوبي، منحصرة في مملكة غرناطة، التي أسسها زعيم عربي، أبرزته الأحداث حينذاك، وهو محمد بن يوسف بن محمد بن نصر الخزرجي، المعروف بابن الأحمر. وكانت هذه المملكة الصغيرة ملجأ لكثير من مسلمين الأندلس- وعلى رأسهم الكثير من سادات البطون العربية الذين سقطت مدنهم الأصلية في أيدي الصليبيين. وقد انحاز أكثر هؤلاء لغرناطة وهم موتورون حانقون على الصليبيين. وكان منهم العلماء والأدباء والصناع والزراع وأرباب المهن والحرف فاستفادت غرناطة من خبراتهم ومهاراتهم وعمرت بهم عمراناً حافلاً، وازدهرت فيها حضارة رفيعة تناولت الجوانب المتعددة في العلوم والآداب والصنائع والعمران. بالإضافة إلى استمرار التقاليد الزراعية والتجارية على نشاطها ونموها. وذلك رغم استمرار تيارات الهجمات الصليبية من قبل الدول النصرانية الثلاث القشتالية – الأرغونية - البرتغالية، للقضاء عليها، بدعم وتحريض الباباوات في روما. فقد استمرت هذه المملكة قائمة، في هذا الخضم الهائل من التحديات لأكثر من قرنين ونصف من الزمان، ويرجع صمودها، طوال هذه الفترة، إلى حمية المسلمين الذين أفاقوا متأخرين جداً للدفاع عن آخر معاقل الإسلام في الأندلس، من جهة، وإلى وجود قيادات قوية وعلى مستوى المسئولية نسبيا على رأسها، من جهة ثانية. وإلى النجدات العسكرية التي كانت تصلها من ملوك بني مرين، حكام المغرب، من جهة ثالثة- والعامل الأخير كان أهم العوامل الثلاثة على الأطلاق-. ولكن شيئاً فشيئاً ضعفت سلطة بني مرين في المغرب، وانشغلوا بالحروب الداخلية مع الخارجين عليهم في عدوتهم، عن نصرة مسلمي الأندلس، وأصبح لسان حالهم إزاء مسلمي الأندلس كقول من قال:

أصبحت ترجو الغوث من قبلي*** والُمستَغـاث إليه في شُغُلِ

وفي نفس الفترة بدأ الأسبان الكاثوليك في توحيد رايتهم، واجتمعت مملكة ليون وقشتالة تحت راية واحدة سنة 1469. وذلك بعد أن تزوج فرديناند ملك ليون وأراجون إيزابيلا ملكة قشتالة، وركزوا اهتمامهم على المملكة الإسلامية الوحيدة غرناطة، التي كانت رمزا للمملكة الإسلامية الذاهبة.

وبلغ الضعف غايته مع جلوس الفتى أبو عبد الله محمد الملقب بـ " الصغير " مكان أبيه على عرش غرناطة للمرة الأولى. أواخر عام 887هـ. والتي لم يظل طويلا خلالها في الحكم، فقد وقع أسيرا بيد النصارى في معركة له معهم، هُزم فيها جيشه، الذي كان هو على رأسه، وذلك في ربيع الأول من سنة 888هـ– أبريل 1483. فآل الأمر في غرناطة لعمه الأمير محمد أبي عبد الله ( الزغل ) حاكم مالقة، وكان أكفأ منه، وأقدر على إدارة شئون المملكة وتنظيم الدفاع عن أطرافها.

وفي الوقت الذي جلس فيه الزغل على عرش غرناطة، كانت هناك مفاوضات حثيثة ومشبوهة تجري في السر لإطلاق سراح الملك الأسير، دعت إليها أمه الأميرة عائشة، وتولاها الوزير يوسف بن كماشة، رجل المهمات السرية ( القذرة ). وقد انتهت تلك المفاوضات بعقد اتفاقية سرية بين الطرفين قضت بإطلاق سراح أبي عبد الله الصغير مقابل تعهده بالدخول في طاعة الملك فرديناند وزوجه إيزابيلا.

وما أن عاد أبو عبد الله الصغير إلى وطنه حتى قامت الفتنة بينه وبين عمه الزغل، وكان ذلك في أوائل سنة 891هـ - أوائل سنة 1486. واستمرت الحرب سجالا بين الطرفين عدة أشهر، وأخيرا رجحت كفة أبو عبد الله الصغير على عمه بمساعدة عسكرية من فرناندو ملك النصارى، فتبوأ عرش مملكة غرناطة من جديد في جمادى الأولى 892هـ - أبريل 1487. بيد أن شطرا منها – وادي آش وأعمالها – ظل بيد عمه أبو عبد الله الزغل. وتحقق بذلك ما كان يبتغيه ملك قشتالة من تمزيق البقية الباقية من دولة الإسلام بالأندلس، تمهيدا للقضاء عليها.

وفي غضون ذلك كثف الكاثوليك غاراتهم على معاقل الإسلام الواقعة تحت حكم الزغل، فانتزعوا ثغر مالقة ( أواخر شعبان 892هـ - أغسطس 1484 )، وكانت أهم معاقل المسلمين المتبقية بعد غرناطة. وبسقوطها حُرم الأندلسيون من كثير من ضروب الإمداد والغوث التي كانت تأتيهم من وراء البحر. ولم يكن باقيا بعد ضياع جبل طارق ومالقة من الثغور بيد المسلمين سوى المنكب وألمرية، وإليهما كانت تفد جموع المتطوعة والمجاهدين من المغرب. وكان لا بد من الاستيلاء عليهما لقطع صلة الأندلس نهائيا بعدوة المغرب. فسقط الأول في محرم 895هـ - ديسيمبر1489 ، وسقط الثاني بعد ذلك بشهرين فقط، وعن طريق الخيانة والرشوة آلت إلى قشتالة النصرانية جميع المعاقل والحصون التي كان يحكمها أبو عبد الله الزغل، وبالتالي لم يعد أمامهم سوى الاستيلاء على غرناطة آخر القواعد الباقية بيد المسلمين.

وفي هذه الفترة الحرجة والعصيبة والحالكة من تاريخ الإسلام في الأندلس ظهر فارس غرناطة. فمن هو هذا البطل يا ترى؟

ظهور موسى بن أبي الغسان

إنه موسى بن أبي الغسان، ذلك الفتى المسلم العربي الأبي ، والفارس الشهم الكمي الذي كان آخر من جسد قيم البطولة في الأندلس.. بطولة العرب الكرام الأولين، الذين كانوا أول من حمل أمانة الإسلام إيمانا ونشرا وجهادا. وقد نشأ موسى على حبّ الجهاد والدفاع عن الحمى، ولقن مبادئ الفروسية والحذق بمعانيها منذ صباه. وشغف بها منذ نعومة أظفاره..

عاش موسى حياته كلها- على الأرجح - في غرناطة، مسقط رأسه، في بيتٍ ميسورٍ وجاهٍ موفورٍ، فهو من أبناء وجوه القوم، وصفوتهم في غرناطة. وكان ينتمي إلى أسرة عربية غرناطية عريقة النسب تتصل ببيت الملك، وتضرب بجذورها إلى قبيلة آل غسان العربية اليمانية العريقة التي حكمت بلاد الشام قبل الإسلام. وكانت أسرة موسى واحدة من الأسر العربية القديمة التي عرفت بروائع فروسيتها وغيرتها على دينها ووفائها لمرجعيتها الإسلامية. ولذا يصح أن يُقال فيه:

رسا أصلهُ تحت الثرى وسما به***إلى النجـم فـرعٌ لا يُنال طويلُ

كما تميزت أسرة موسى أيضا بإسهامها في الحياة العامة، وبدورها الكبير في تشييد نهضة غرناطة وصرحها الحضاري. وكان لنشأة موسى في هذه الأسرة العربية الكريمة المتفتحة - والغيورة على دينها وعرضها وأرضها، والواعية بالظروف الخطيرة المحدقة بالإسلام، والمحافظة على تقاليد الفروسية العربية القديمة - تأثيره وبصمته على شخصيته. 

وعلى الرغم من أن موسى قد نشأ في فترة الانهيار العظيم للحضارة العربية والإسلامية، وبينما كانت غرناطة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتؤذن بنهاية الوجود الإسلامي في الأندلس، إلا أنه أدرك شيئا من بقايا قرون الفخار وأمجاد الأمس الغابر، ولا سيما فيما يتعلق بالنشاط العلمي والأدبي، فإن النشاط العلمي والأدبي لم تخب جذوته نهائياً، ووجدنا من العلماء من واصل تزويد المكتبة العربية بما جادت به قريحته، كما أن حركة الإفتاء، والعناية بالنوازل لم تتوقف، وقد احتفظ كتاب ( المعيار) للونشريسي بمجموعة مهمة من فتاوي فقهاء الأندلس في هذه الفترة، وعلى رأسهم ... ابن الأزرق- قاضى الجماعة بغرناطة - كما ظلت مجالس التدريس موئلاً للطلبة الوافدين لأخذ العلم والسماع عن الشيوخ، من أمثال الشيخ التجيبي والشيخ الدقوني المعاصرين لابن الأزرق، وقد يكون فيما ألفه هذا الأخير خير دليل على هذا النشاط العلمي الرفيع المتواصل..

ولم يذكر أحد أن موسى بن أبي الغسان كان عالما أو أديبا، وإنما ذكروا أنه كان فارسا جسورا، وبطلا مغوارا، ومبارزا جيدا.

 بيد أن هذا لا ينفي حفظه للقرآن الكريم، وجلوسه لطلب العلم والقراءة والتهذيب، ونهوله من المعارف والعلوم الشائعة في عصره، كعلوم القرآن والسنة والفقه والتفسير وعلوم اللغة العربية والسيرة النبوية وأخبار السلف. وغير ذلك من العلوم التي كانت لازالت تحفل بها مساجد غرناطة، منارة العلم، وموئل العلماء.

ولكونه كان بطلا، فمن المحتم أن يكون مثقفا.. فكل بطلٍ مثقف، وليس كل مثقفٍ بطلا.- حسب القاعدة العامة المتعارف عليها – " وهذا هو المفهوم العام للثقافة والبطولة على السواء، أي مفهوم التفوق العقلي أو العضلي". 

وقد ساعده شعوره المرهف العميق بالمسئولية الملقاة على عاتقه نحو دينه وأمته وأرضه وعرضه، وشموخ أجداده المختزن في ذاكرته، وتشربه لمبادئ القرآن والسنة، أن يكون قوي الشكيمة، ومتمتعا ببعد الرؤية والمقدرة الكبيرة. وساعدته شجاعته وجرأته وإقدامه، ومؤهلاته القيادية الفذة، وحماسته الدينية المتوقدة، على أن يكون قائدا لإقرانه ومدربا ومرشدا روحيا لهم.

وإنه وإن كان قد نسيه المؤرخون العرب، أو تناسوه، ولم ينوهوا باسمه وبفروسيته وبطولته، فإن سماء غرناطة وأرضها ووديانها تشهد له بذلك.

مكانته السياسية والاجتماعية

وفيما يبدو – من الأخبار القليلة جدا والمستقاة أساسا من المصادر النصرانية - أن موسى بن أبي الغسان لم يكن فارس فرسان غرناطة فقط، وإنما كان أيضا رئيسا لعشيرته. وهذا يفسر لنا، وجوده في بهو الحمراء ضمن أكابر الجماعة وأهل الحل والعقد وأبناء البيوتات، في غرناطة، الذين كانوا يساهمون مع الملك في إدارة شئون البلاد، وينوبون عنه في الاتصال بأهاليها، ويطلعونه على ما يستجد من أخبارهم، والذين كان يستشيرهم أيضا قبل أن يتخذ القرارات المصيرية، ويرجع إلى رأيهم في المهمات والملمات. ولا سيما في ذلك الوقت الأغبر الذي كانت فيه غرناطة على كف عفريت وعلى شفا جرف هارٍ.

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عقله وثبوت فطنته وأصالة رأيه، فضلا عن دلالته على سمو رتبته وارتفاع مكانته الاجتماعية والسياسية.

بيد أن الأهم من كل ذلك هو أن وجوده قريبا، من بلاط الملك أبي عبد الله الصغير، قد أتاح له المشاركة في صنع الأحداث والتأثير فيها إيجابا، ومعرفة ما يدور وراء الكواليس أولا بأول، ومن ثم التصدي بجسارة للدعاوى الاستسلامية ومعارضة الحلول الانهزامية، وتفنيد المبادرات المشبوهة وتعديلها في وقته. إلى جانب أن وجوده كان ضروريا بالنسبة لأصحاب الأمر والخاصة، وعلى رأسهم الملك أبو عبد الله الصغير، ورجال القصر وبعض الخونة والمأجورين من الوزراء والمستشارين، الذين كانوا يحيون في ذلك " الزمن المنقلب حياة المستضعفين، وهم أمس كانوا صانعي أكبر وأرقى الحضارات الإنسانية، لذلك فحاجتهم النفسية ملحة إلى من يحرك فيهم شعورهم الكبريائي النائم في أعماقهم" . وإلى من يثير غيرتهم وحسهم الإسلامي، ويقوي من عزائمهم، ويرفع من معنوياتهم. ويذكرهم باستمرار بأبعاد الصراع بينهم وبين أهل الصليب وفي كون الخطر المحدق بهم هو خطر يتعلق بالوجود وليس بالحدود. وهذا الدور هو ما كان يقوم به موسى بن أبي الغسان. " وكان مذ تبوأ أبو عبد الله محمد عرش غرناطة ينقم منه استكانته وخضوعه لملك النصارى ويعمل بكل وسع لإذكاء روح الحماسة والجهاد وتنظيم الفروسية الغرناطية وتدريبها، وقيادة السرايا إلى أرض العدو، ومفاجأة حصونه في الأنجاد المجاورة". وكان موسى صريحا عنيفا لا يهادن، ولا يلين في الحق، ونموذجا للفتى الندب، المؤمن بالمثل والقيم الإسلامية العليا. وكان ذا شخصية تحمل ذهنا لا ينقصه المنطق، ونفسا تُكبر الأخلاق والفضائل، وذا صوت جهوري مثير لم يكن يعلوه صوت في جرأته وتقحمه وطليعيته.. كان موسى بن أبي الغسان من أولئك الرجال الذين يحملون هموم الأمة، ويشعرون بوقر المسئولية نحوها، ونحو مصيرها.ولم تغره مباهج الدنيا، ومظاهر اللهو والمجون والترف واللين والتنعم المنتشرة في مجتمعه الغرناطي، وأبى إلا أن يكون الوفي لمبادئه النبيلة التي شبّ عليها، ملتزما العمل بها وتجسيدها بصورة عيانية واقعية لا تقبل الشك والجدل، وساعيا إلى إقرارها وتأكيدها وإشاعتها بين أبناء مجتمعه، وباذلا نفسه ودمه فداءً لها.

ولتلك المزايا والخلال، فقد وجد فيه الثائرون والفرسان والراغبون في الجهاد من عامة الشعب الغرناطي وخاصته، خير من يمثلهم، ويتكلم باسمهم في بلاط الملك. وقد حقق موسى بعض النجاحات في هذا المضمار. ومكانته وقوة حجته، وما يستند إليه من شعبية جعلت من قوله القول الفصل في أكثر من خلاف – لاسيما في الأسابيع الأولى من الحصار، عندما كانت المعنويات لا زالت بخير. وعندما لم تكن المجاعة التي نجمت عن الحصار الطويل فيما بعد، قد دهمتهم.. هذا إلى جانب وظيفته الأساسية كمقاتل بارع، وكقائد للفرسان، وكزعيم لحركة المقاومة الإسلامية الشعبية الغرناطية.

الداء العضال في المجتمع

لا تستغربوا.. فنحن نتكلم عن موسى بن أبي الغسان.. فارس غرناطة .. نتكلم عن ذلك الفتى الوفي الأبي التقي النقي الفارس المغوار، الذي لم يكن يشق له غبار.. نتكلم عن ذلك البطل، الذي كانت مأساته أن يلمع نجمه في سماء الفروسية والبطولة:

- في بيئةٍ استشرى فيها الترف واللين والفسق والفساد الوبيل، وتراكمت بها رواسب القرون الماضية، وتفشى الاستبداد والقهر، وتراجعت الهمم والعزائم، وضمرت إبداعات الأمة واجتهاداتها، وندر المصلحون أو القائمون بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانحسرت الخصال الحميدة، التي قامت الحضارة الإسلامية على أساسها، وضُيعت قيم الدِّين الحق كالولاء والبراء، حتى صار طبيعيا ومألوفا أن يستعين الحاكم المسلم بأعداء الدين على خصمه من أهل دينه وملّته، وذوت في نفوس أهلها روح الفتوة والفروسية والبذل والفداء، وحلت محلها روح الجبن والتخاذل والخور والهزيمة، و(جاءهم خوف الروم, وامتلأت قلوبهم رعباً، فكانوا لا يستطيعون قتالهم، فملك الروم أخذ أكثر بلادهم، وقواعدهم، وحصونهم، ومعاقلهم)، وأوشكت – بالتالي- أن يتلاشى منها الفرسان والأبطال وتنعدم القيادات والمؤسسات الحية.

- وفي ظل دولةٍ – مدينةٍ، فرطت في أمر الدفاع عن نفسها، وأفرطت في تقديم التنازلات لأعدائها، وأجهدت نفسها في مداراتهم وموالاتهم، وبددت طاقاتها في مصانعتهم وخطب ودهم، وبذلت كل غالٍ ونفيس لإرضائهم، ففقدت لذلك هيبتها عندهم، واستخفوا بها، وهان أمرها لديهم، فطمعوا فيها، وتجرءوا عليها، وتطلعوا لابتلاعها، ولم يعودوا يقبلون بأقل من استسلامها المهين لجبروت تسلطهم ولقوتهم الضاربة، بل وانسلاخها عن دينها وعقيدتها وعاداتها ولغتها وتراثها، وذوبانها ذوبانا كليا في مجتمعهم الكاثوليكي العنصري الاستعلائي الجديد الذي يطفح أنانية وكراهية للإسلام والعرب ولكل ما يمت لهما بصلة من قريب أو بعيد " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".

وعندما تصل الدولة – المدينة، إلى هذا المستوى من الضعف والاستكانة والخضوع والانحلال والفتن المستعرة ويتحول بها بأس المسلمين إلى التنازع... رغم التحذير الإلهي " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين.." ( الانفال:46) ، وعندما تصبح على كف عفريت وعلى شفا جرفٍ هارٍ. أو تغدو في مرحلة الاحتضار النهائي، وحيث الروح قد بلغت الحلقوم، فما عسى أن تنفع فروسية الفرسان وبطولة الأبطال؟ هل يعد بوسعهم - مهما كانت درجة إيمانهم وإخلاصهم وحسن نواياهم، ومهما بلغت قدراتهم العسكرية والشخصية وتضحياتهم واستماتتهم في الدفاع عنها-.هل يعد بوسعهم استنقاذها ووقايتها من السقوط المدوى والزوال من الوجود؟ بل هل يعد بمقدورهم إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، كي يؤخروا من توقيت زمان ذلك السقوط، أو التخفيف من وطأته على الأقل؟!

الجواب: هيهات هيهات!! فإن الأمراض المزمنة لا تُعالج بالمسكنات والمهدآت. ولا بالفروسية والبطولات الفردية، يقهر العدوان، ولا بمجرد الإخلاص والإيمان وحسن النوايا تعاد الأمور إلى مسارها الصحيح" فما يمكن أن يكرسهُ الإيمان يمكن أن ينزوي تحت تأثير همم فاترة وإيمان ضعيف، أو حماس ديني ضعيف" وكان ذلك هو حال أصحاب الحل والعقد في غرناطة آنذاك، ومن حولهم من البطانات الفاسدة وأصحاب المصالح.. وعلاوة على ذلك فإن ملوك غرناطة في العقود الأخيرة من عمرها لم يكونوا على مستوى المسئولية التي تقتضيها خطورة المرحلة، التي كانت تحتاج إلى رجال أفذاذ تجتمع فيهم السياسة إلى جانب الإقدام، فقد انشغلوا بالصراعات الداخلية على الملك، وشهد العصر الأخير من عمر هذه الدولة الصغيرة، ألوانا من التمزق والخيانة لم يعرف لها العالم الإسلامي مثيلا- طبعا إلا في عصرنا الحاضر - " فالحروب التي دارت بين أهل غرناطة أنفسهم والفتن التي أضعفتها كانت أكبر بكثير من حروبهم مع الأسبان" النصارى" .

هذا في الواقع ما كان يحدث تقريبا في غرناطة وما كان ينطبق على دولة بني الأحمر، آخر ممالك المسلمين في الأندلس، في النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، وغداة ظهور البطل الغيور المقدام، والقائد الجسور الهمام، موسى بن أبي الغسان. فارس غرناطة.

ولن تجد لسنة الله تحويلا

وفي غضون ذلك كانت التحديات التي تواجه غرناطة تتجاوز كثيرا طاقاتها المحدودة، والتي تشح يوما بعد يوم، وتتجاوز أيضا رقعتها الضيقة من الأرض. والتي تقضم شيئا فشيئا، نتيجة للحملات العسكرية المتوالية والمستمرة عليها من قبل النصارى الأسبان.. لقد كانت حملات عدوانية منظمة لا تتوقف ولا يُراد لها أن تتوقف، حتى بعد اقتلاع شجرة الإسلام من هذه الأرض، وسحق المسلمين أو القذف بهم خلف البحر..

فمنذ أن اجتمعت مملكتي ليون وقشتالة تحت راية واحدة عام 1469، بعد أن تزوج فرديناند ملك ليون إيزابيلا ملكة قشتالة، لم يعد تركيزهم واهتمامهم مقتصرا على المملكة الإسلامية الوحيدة ( غرناطة)، التي كانت رمزا للمملكة الإسلامية الذاهبة، فقد كانوا يعتبرون أن سقوطها بأيديهم مسألة وقت فقط، وإنما كانوا يفكرون بما هو أبعد من ذلك بكثير، فقد كانت هناك خطط مطروحة ونوايا مبيتة للالتفاف حول العالم الإسلامي ومواصلة الحروب الصليبية التي شعروا بأنهم لم يخوضوها كما ينبغي في السابق، ومن ثم الزحف من خلالها نحو المشرق وإعادة السيطرة على القدس الشريف، وتحريرها من أيدي المسلمين " الكفار".

وبعبارة أخرى، كانت الدنيا بالنسبة لغرناطة في إدبار، وبالنسبة لأعدائها في إقبال.. فقد كانت أسبانيا الكاثوليكية حينذاك قد تضاعفت قوتها، وعظم شأنها السياسي والعسكري، واستفحل سلطانها في البر والبحر، وسيطرت عليها نشوة التعصب والحماس لسحق الإسلام، ولأعمال الكشوف الكبرى والتوسع الخارجي، وبناء المستعمرات خلف البحار والسيطرة على الموارد الأولية، وتملكها هاجس انتصار المسيحية العالمي، وسيادة الدنيا وقيادتها، ولم يعد يعوزها سوى وثبة واحدة لتصبح في أعلى السلم، أو لتصير إمبراطورية من أقوى الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية الخارجة من ظلمات العصر الوسيط، والداخلة في العصر الحديث، والتي" استطاعت منذ القرن السادس عشر أن تحيط بالعالم الإسلامي وتحرمه من أهم موارده الضخمة في العالم الجديد وأن تجعل الحضارة الإنسانية أوروبية المصدر وأن تغزو العالم الإسلامي والأفريقي والأسيوي"

ولم تصل أسبانيا الكاثوليكية، إلى ما وصلت إليه من القوة بين عشية وضحاها وبقدرةِ قادر، أو نتيجة لمغامرة وحظ، كما لم تصل الدولة الإسلامية إلى ما وصلت إليه من ضعف دفعة، واحدة ودون عوامل ومقدمات، ولكلٍ من هذه وتلك علاقة بسنة الأخذ بالأسباب، وهي من السنن والنواميس الكونية، التي تحكم الناس جميعا.. " إذا اتبعت أثمرت وأنجبت، وإذا خولفت خاب المسعى وتعس الساعي" ، ولم ينفعه ما يرفعه من شارات ورايات، وإن حملت أقدس الأسماء وأرفع الأنساب.. " فإن الحقائق الكونية والتاريخية الكبرى لا تعبأ بأوهام الواهمين ، ولا تتوقف عندها ، ولا يُعفي الله أحدا من نواميسها الثابتة : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " " فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ".

فالنصارى الأسبان اجتهدوا وأخذوا بالأسباب ووضعوا برامج التنفيذ فوصلوا وأدركوا غايتهم وأرتفع شأنهم، والمسلمون تقاعسوا وقعدوا وقصروا، وتمنوا على الله الأماني، وقالوا نحن خير أمة، ثم لم يفعلوا شيئا، فتراجعوا وذوى سلطانهم وهان أمرهم. 

فسبحان مغير الأحوال ومديل الدول " سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً" " سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً".

بطولة موسى بن أبي الغسان

ولكن مع وجود ذلك الداء العضال المزمن، فشتّان بين أن تترك المدينة (غرناطة ) لتسقط عفوا ، ودون مقاومة، بيد الأعداء – مهما تعاظمت قوتهم ومهما كان عددهم وعدتهم وشدة بأسهم وجبروتهم، ومهما كانت كارثة الوقوع حتمية بأيديهم وعدم وجود مخرج من مثل هذا المأزق الحضاري – وبين أن تسقط المدينة بعد بذل أقصى الجهد واستفراغ الوسع في الدفاع عنها، والاستبسال في حمايتها، وافتدائها بالمهج والأرواح، والتصدي لأعدائها حتى تستنفد كل الطاقات المتاحة والوسائل الممكنة.

ومن تبني الخيار الثاني جاءت شهرة وبطولة موسى بن أبي الغسان. بل أكثر من ذلك، فقد كان موسى بن أبي الغسان يرفض تسليم غرناطة للأسبان رفضا قاطعا وحاسما، مقتنعا بأن السبيل الوحيد هو المقاومة والجهاد ومواصلة الكر والفر، وأن هذا – وهذا فقط - هو الحصن، وهو سفينة النجاة، وفيه العزة وفيه النصر، وفيه القوة والذي من دونه ضياع الأرض والحق والمحو من الوجود وخسران كل شيء. ولم يكن يؤمن بسقوطها عنوة أبدا، وإنما كان يؤمن بأن المجتمع الغرناطي الصغير بتضافر جهود أبنائه وتضامنهم، من مختلف القوى والشرائح، يستطيع أن يدحر قوة الأسبان الغاشمة المعتدية، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم، مادام يعمر قلبه الإيمان بالله، والثقة به، ومادام حريصا على إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة. وظل موسى يعالن بهذا الرأي حكام المدينة في غير جمجمة، ولا التواء، ودون محاباة ، أو مجاملة، وذلك حتى آخر لحظة من حياته.

فموسى بن أبي الغسان – وإن كان من أسرة قريبة من بيت الملك – وهي أسرة ميسورة ولا شك- إلا أنه كان يعيش ببصره وسمعه مع كل ما يجري من حوله ... كان يحس بما يحسه به مجتمعه ويعاني معاناته. ولم لا؟ ألم تتفتح عيناه أول ما تفتحت على جنود الصليب المتغطرسين والمغرورين، وهم ينشبون مخالبهم وأنيابهم في بلاد الأندلس المسلمة وينقضون عليها مدينة بعد مدينة، ويجوسون خلالها، وينتهكون حرمات أهلها وكراماتهم، قبل أن يلفظوا بهم خارجها ليستقروا هم فيها ؟

ألم تتعود عيناه وهو يشب عن الطوق على رؤية الحملات الصليبية القشتالية العدوانية، وهي ترواح غرناطة الحبيبة وتغاديها وتعيث في أرجائها فسادا، وتتهيأ لاقتحامها بشكل فج ومفرط في الفجاجة؟ 

وإن إيمانه بالقضية التي يجاهد من أجلها- وهي الدفاع عن عقيدة الإسلام السمحة، التي كان لأجداده الأوائل فضل ترسيخها في هذه البلاد، وعن الوطن والعرض- قد زودته بطاقة معنوية لا حدود لها، تجلّت واضحة في أخلاقه وسلوكه وشجاعته وشغفه بالاستشهاد، وانعكست آثارها على روحه الوثّابة المتحدية والمتدفقة بالحيوية والشباب، والمعلنة الرفض القاطع لكل مبادرة مشبوهة من شأنها تثبيط الهمم، أو صرف الجهود بعيدا عن مجال الجهاد والمقاومة، ولكل دعوة تدعو إلى القبول بالدنية أو التفريط في الحقوق والكرامة. كان لا يفتأ يردد: " ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما"

ومن هنا فقد كان اسم موسى بن أبي الغسان يتصدر قائمة الأبطال المدافعين عن غرناطة. ورفض بعناد تسليم المدينة صلحا إلى النصارى، وكان يعتبر كل مسعى يصب في هذه الاتجاه خيانة عظمى وجريمة لا تغتفر في حق الإسلام والأمة.. فضلا عن كونه كان يعرف أن الصليبيين، لا ذمة لهم ولا عهد ولا ميثاق، وما أكثر ما شرب المسلمون من وعودهم حتى الثمالة، ولكن في أكواب فارغة. وظل موسى ذلك الفارس الذي يمتطي صهوة الجواد، ويصول ويجول في الحلبة، ويقارع الكفار هادرا ومدمدما، ولم يترجل إلا بعد أن سقط جواده الوفي من تحته مضرجا بدمائه، وذلك قبيل دقائق معدودة من استشهاده.لتنتهي حياتهما معا وتصعد روحهما إلى الرفيق الأعلى في وقت واحد، في ثنائية ملحمية فريدة، كتبت سطورها بدماء الفارس وجواده التي اختلطت بعضها ببعض. بصورة جسدت أسمى ضروب الوفاء.

موقعه في سجل الأبطال

إن موسى بن أبي الغسان، لم يكن فاتحا من الفاتحين ولا قائدا عسكريا هزم العدو في معركة أو عدة معارك فاصلة، فدخل التاريخ من أوسع أبوابه، من أمثال موسى بن نصير أو طارق بن زياد أو المنصور بن أبي عامر.. فعندما ظهر موسى بن أبي الغسان، كانت أيام الفتوحات والمعارك الفاصلة في الأندلس بالنسبة للمسلمين، قد ولت وغربت شمسها منذ قرون إلى غير رجعة، كالأمس الدابر، ولم تعد سوى تاريخا مسطورا في بطون الكتب والمجلدات، التي ما أن تقرأها الأجيال، حتى يكاد البعض منهم أن لا يصدق ما تحكيه هذه الكتب عن ماضي المسلمين العظيم في هذه الجزيرة، أو يعتبرونها صورا للأمس لا تخلوا من الأوهام والأساطير الذهبية. لما كانوا يرونه أمامهم من تردي وذلٍ وخنوع يفوق الوصف، في واقعهم الراهن الأسود البائس.

بيد أنه على أي حال، لم يكن أقل فتوة وبطولة وجرأة وشجاعة وحماسة دينية، من أولئك، ولا أدنى منهم أهلية للقيادة، كما أنهم – بدورهم - لم يكونوا أحق منه بالمجد والشهرة والخلود.. فلكلٍ زمنه ولكل إمكاناته وظروفه.. وكلٌ خدم دينه وأمته وبلاده حسب طاقته، وعلى قدر جهده. وجميع هؤلاء – على أي حال - قد رحلوا عن دنيانا تاركين فيها ذكريات حسنة وخلدوا صفحات بيضاء لا يمكن أن تضمر أو تذوب طالما نحن على ظهر هذه الأرض - فجزاهم الله خيرا على ما قدموا. وأنا هاهنا لا أفضل أحدا على أحد، ولا أزكيهم على الله، ولكني أحسبهم وهو حسيبهم. وكل سيلقى الله بعمله، يوم القيامة، فشقي أو سعيد " ولا يظلم ربك أحدا" " يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم."

ولكني مع ذلك، أجزم بالقول، أنه لو – ولو هنا ليست للتمني وإنما للمقاربة – أقول لو أنه قدّر لموسى بن أبي الغسان، أن يظهر في ظروفٍ مواتية كالظروف الذي ظهر فيها أولئك الأبطال وغيرهم، وتوافرت له من الإمكانات مثل تلك التي كانت تحت أيديهم، وتهيأت له الفرص التي تهيأت لهم، لرأى الناس من بطولته وانتصاراته العجب العجاب، ولسمع بذلك أهل الأرض قاطبةً، ولخلد ذكره أبد الدهر في سجل المشاهير من الأبطال والفاتحين. الذين لا زالوا كالنجوم تُهدي المسلمين وتضيء سماءهم كلما أظلمت الدنيا وعظمت الخطوب.

علما بأن البطولة لا تُقاس بكثرة الفتوحات أو الانتصارات أو الانجازات، ولكنها تقاس بالمواقف الشجاعة التي يقفها المرء وقت المحن والشدائد، ويكفي أن يكون لك موقف شجاع واحد في مثل هذه الأوقات لتكون بطلا.

إنما كان قدر موسى بن أبي الغسان أن يظهر في الزمان الذي ظهر فيه، وفي نفس المكان الذي ولد فيه، في غرناطة الجميلة، التي بات ضوءها يذوى ويتلاشى، كالسراج الذي نضب منه الزيت، في ليلٍ شاتٍ قاتم السواد، فيه تعربد الصواعق والعواصف الهوجاء.من كل اتجاه... صواعق وعواصف محور التطرف الأعمى والحقد الديني الأسود، المتمثل في إسبانيا الكاثوليكية، ومن وراءها البابا يحرض ويمنح صكوك الغفران للمتطوعين للقتال، وهناك من خلفهما باقي أنظمة الدول الأوروبية الكاثوليكية، يضغطون ويدعمون، لإطفاء هذا السراج المضيء منذ حوالي ثمانمائة عام، حتى يتسنى لهم تحقيق انتصار يقطع على المسلمين حبلهم الغربي، ويعوضهم عن الخسارة الفادحة التي لحقت بهم جراء سقوط القسطنطينية وقطع حبلهم الشرقي، بأيدي العثمانيين المسلمين عام 1453. وذلك ما كان.

موت مجيد

وإذا كانت قصة موسى بن أبي الغسان قصة مؤثرة في جميع فصولها، فإنها في نهايتها أشد تأثيرا. فعندما لم تفلح كل المحاولات التي بذلها لثني الجماعة عن توقيع صك تسليم غرناطة، واللجوء بدلا عن ذلك لتسليح الشعب وقيادته للقتال لآخر رمق، ورآهم قد أخذوا فعلا في توقيع الصك، نهض مغضبا، وصاح فيهم:

- يا قوم لا تخدعوا أنفسكم، ولا تتسلوا بالمحال، ولا تظنوا أن النصارى وافون بعهدهم ومواعيدهم لكم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم. فوالله إن الموت الأحمر هو أهون مما نتوقع، وإنما نحن مستقبلون أمرا أيسره اكتساح أوطاننا، ونهب مدننا، وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك بناتنا ونسائنا، وأمامنا الجور الفاحش، والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق. هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة التي تخشى الآن الموت الشريف. أما أنا، فوالله لن أراه.

قال ذلك وهو يكاد يختنق من فرط التأثير. بيد أن تقاطيع وجهه كانت تنطق بتصميم وعزم أكيدين.. وكانت نظرات عينيه القوية الجامدة تقول لهم أنه سينفذ ما وعد..ثم ما لبث حتى غادر المجلس فورا.. كان يمشي بخطى ثابتة قوية، مرفوع القامة والهامة، مخترقا ممرات قصر الحمراء الداخلية عابسا حزينا، وجاز منها إلى أبهائه الخارجية، دون أن يلتفت وراءه، ودون أن يرمق أحدا، أو يفوه بكلمة–. ثم ذهب إلى داره وغطى نفسه بسلاحه من رأسه إلى أخمص قدمه، وأغلق خوذته، ثم مضى إلى جواده المحبوب فأغرقه في رداءٍ من الصلب كما فعل مع نفسه، وكان لم يعد له من صاحب سواه، ولا مؤنس إلا هو، ثم أقتعد غاربه وأخترق شوارع غرناطة التي كانت تئن منهكة حزينة تحت وطأة الجوع والحصار الطويل، حتى غادرها من باب ألبيرة. ولم يشاور أحدا أو يحدّث أحدا إلى أين سيذهب؟ وماذا سيفعل؟ ولكن كان هو يعرف إلى أين سيذهب وماذا سيفعل ؟ وهذا هو المهم بالنسبة إليه.

ومما لاشك فيه أن هدفه كان هو معسكر جيش الملك الكاثوليكي الخبيث فرناندو وزوجته الملكة المتعصبة إيزابيلا، هذا الجيش الصليبي المقيم ليلا ونهارا ومنذ زمن طويل على حصار غرناطة. فقد أراد أن يأخذه على حين غفلة فيثأر منهم، لكونهم كانوا سببا في شقاء قومه وإذلالهم ونكبتهم وتشريدهم، ظلما وعدوانا، ولمدينته المنهكة والمحاصرة والمغلوبة على أمرها.

وبينما كان موسى يمتطي صهوة حصانه على ضفة نهر شنيل في مساء تلك الليلة، وقد أوشك على بلوغ المعسكر، قابلته سرية من الفرسان النصارى الأشداء، تبلغ الخمسة عشر فارسا، فلما رآهم موسى تنفس الصعداء، وأيقن أن ساعة بلوغ أمله وشفاء غليله منهم قد حانت، قبل أن يلقى ربه ويداه لم تتلوث بالاشتراك في توقيع وثيقة تسليم غرناطة. أما هم فعندما رأوه على حاله تلك، اشتبهوا به وأنكروه، ، وارتفعت أصواتهم تأمره بالتوقف والتعريف بنفسه، لكنه لم يجب، واستمر يسير في طريقه إلى غايته ومداه كأن لم يسمعهم، وأقدم عليهم أقدام بطل ما عرف التراجع والنكوص قط.

وما أن اقترب منهم حتى وثب إلى وسطهم كالأسد الضاري وسدد لأحدهم طعنة نجلاء برمحه وأنتزعه عن سرجه وأهوى به إلى الأرض، فأصبح مثلها في طرفة عين، ثم أنقضَّ على الباقين يثخن فيهم طعانا، بضربات ثائرة قاتله، ملأت قلوبهم رعبا، وكأنه لم يشعر بما أثخنه من جراح، ولبث يبطش بالفرسان النصارى، وما وهن أو قصر فقد أخذ للأمر أخذه وأعد له عدته، حتى أفنى معظمهم. غير أنه أصيب في النهاية بجرحٍ خطير، ثم سقط جواده من تحته بطعنةٍ أخرى، فهوى إلى الأرض، وعجز عن النهوض بعد أن تكاثرت في جسده الجراح، فحاول من بقي من فرسان الصليب المنهكين ومن هب لنجدتهم، التكالب عليه للإمساك به، فركع على ركبتيه واستل خنجره، وأخذ يناضل عن نفسه. وبقي فرسان النصارى متحلقين حوله في تردد ولم يجرؤوا على الإمساك به.. فلما رأى موسى أن قواه قد نضبت، ولم يرد أن يقع أسيرا في يد خصومه، أرتد إلى ما وراءه بوثبة أخيرة، وألقى بنفسه في مياه النهر، فابتلعته اللجة لفوره، ودفعه سلاحه الثقيل إلى الأعماق. إلى هنا وتنتهي الرواية النصرانية. لكن هناك رواية أخرى تقول أن موسى بن أبي الغسان تمكن من الإفلات واللجوء إلى جبال غرناطة المنيعة، وأنه استمر يقود المقاومة لعدة سنوات أخرى بعد ذلك.

كانت هذه هي آخر معركة يخوضها موسى في إطار معركة الحصار المستمر على غرناطة منذ أشهر عديدة.- وهي ، فيما يبدو، أول عملية استشهادية في تاريخ المسلمين الحديث. وهكذا تكون العمليات الاستشهادية، وإلا فلا . ومثلما عاش موسى بطلا عزيزا كريما سيدا، فقد مات بطلا عزيزا كريما سيدا " في معركة البطولة والفداء مقدما غير محجم، ومقبلا غير مدبر.. تاركا سيفه مخضبا بدماء المشركين، مثلما كان في حياته مخضبا بدمائهم..

وعلى هذا النحو المشرّف انتهت حياة فارس غرناطة، وآخر فرسان الأندلس. ويا لها من نهاية مجيدة لا تليق إلا بموسى بن أبي الغسان، وأمثاله من الفرسان الأباة الكماة !! وفي حياته ومماته أبلغ الدروس والعبر للأجيال.