مصر في الذاكرة اليمنية
بقلم/ د . عبد الوهاب الروحاني
نشر منذ: 3 سنوات و 5 أشهر و 5 أيام
الأحد 18 يوليو-تموز 2021 08:08 م
 

   مصر في الذاكرة اليمنية لها مبتدأ وخبر، ولكن ليس لها نهاية.. تفتحت مداركي على الدور المعرفي والثقافي المصري في اليمن منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، في ابتدائية الايتام، واعدادية الشعب، ثم ثانوية عبد الناصر بصنعاء، كانت اول معرفتي بنخبة من اساتذة التعليم الاساسي والثانوي المصريين..

 اسماء كثيرة لا تزال عالقة في الذاكرة، عبد الفتاح، استاذ الرياضيات المبهر، لهجته الصعيدية الصرفة، بساطته وحدة ذكائه، صرامته ودماثة اخلاقه، صفات جعلته الاكثر حضورا وجاذبية في مدرستنا.. 

   محمود مدرس الرياضة، كان الأكثر حيوية ونشاطا، أول من تعلمت على يده الارسال في كرة الطائرة، والتسديد في السلة ولكن لغبائي لم اتعلم.. كان اهتمامه بطابور الصباح واداء تحية العلم الجمهوري يفوق اهتمامه بنفسه وبكل شيء، كان يقول ان طابور الصباح هو افطار المدرسة الصحي، وتحية العلم هي بوابة الدرس والمستقبل.

 مستر إلهامي، مدرس اللغة الانجليزية، مهنيا بارعا حد الخيال، يتمتع بروح ممتلئة بالمرح والابوة والعطاء، يرغمك على حبه وتعلم مادته.. لم يكن يسعد تلامذته فقط بل اولياء امورهم ايضا..

   ذات صباح كان فلاح بلون البن والتربة يقف على الجانب الخارحي من نافذة الفصل الواسعة، يأتزر "مقطبا" وجنبية، ويعتمر براسه شالا اسودا، تكسو وجهه تضاريس القرية اليمنية الاصيلة .. لمحه مستر الهامي، فسأله ان كان ابنه في الفصل، فكان ابا لاحد زملائنا، وكان لتوه وصل من ارحب ، فأدخله الفصل واسمعه كيف ان ابنه صار يتحدث بالانجليزية.. وكان احمد الزنداني من بين اذكى تلامذة المدرسة، إذ أصبح فيما بعد من كبار مهندسي الطيران في اليمن..

   كنا نرى مستقبلا مشرقا في مدرسة الشعب الصناعية ومديرها المثالي علي صالح الرازقي، ومدرسيها المصريين، وقسم النجارة والحدادة تحت اشراف المبدعة الروسية (اللا) وزميلها الاكسندر.

مكتبة وموسيقى:

  ثانوية عبد الناصر، كانت الاكثر القا وتوهجا، حيث مدير المدرسة الملفت اناقة ودقة ومهنية، التربوي اليمني القدير (المرحوم) الاستاذ زيد الاسدي، كان له معي موقفا مشجعا، فقد اعجب بكلمة قلتها ذات يوم، فالزمني بتقديم كلمة "الصباح" كل سبت في برنامج طابور الصباح.

 مدرس الموسيقى ( البيومي - على ما اذكر)..كان قليل الكلام وإذا تكلم لا يتكلم الا عزفا وموسيقى، شكل فريقا من اكثر طلاب المدرسة انفتاحا وتطلعا غاندي السماوي، واسامة، وحامد، وفلان الوادعي، وآخرين اصبح لبعضهم دورا في الفن والثقافة، ثم مكتبة المدرسة التي تمتملىء بإصدارات الاهرام، وكتابات محمود السعدني، وانيس منصور، ومصطفي امين.. ومجلات اخر ساعة، وروز اليوسف، والصباح، التي ظلت ترافقني حتى غيبها عني عصر الانترنت..

 ‏ نخبة من التربويين اليمنيين الاكفأ، الذين تناوبوا على إدارة ثانوية جمال عبد الناصر، من أمثال الاستاذ القدير عبدالوهاب جولة، الذي اديت تحت ادارته بعد تخرجي من الجامعة خدمة التدريس الالزامي، ووجدته محافظا على دور وطابع المدرسة وتميزها، وكان مثالا للتربوي اليمني الناجح جدا.

‏كنا في المدارس النموذجية، في الشعب الصناعية، وجمال عبدالناصر، وسيف بن ذي يزن، والفنية الصينية، في الشارع والمؤسسة نرى مستقبلا مشرقا حيث الحركة التعليمية والثقافية حية وواعية.

 في احدى ليالي سبتمبر العظيم وجدت نفسي وانا في الخامسة ابتدائي معلقا على فرع شجرة في ميدان التحرير اتابع احتفالية غنائية للفنانة المصرية القديرة عفاف راضي مع الفنان الكبير علي الانسي.. كانت اياما لا تنسي ..

بفلوس وببلاش:

  مصر، هي المحطة الاولى لكل عربي يغادر بلده راغبا ام شاردا، وانا من الراغبين في مصر، زرتها مذ كنت طالبا في روسيا البيضاء، وفي اول زيارة جعت فيها بفلوس وشبعت فيها ببلاش، كيف؟!

في عطلة صيف 1982 حطيت مع زميلي الجميل يحيى سعد جحزر في القاهرة، فزرنا في اليوم التالي الاهرامات، ودفعنا بالعافية عشان نركب الجمل، ثم دخلنا مطعما طلبنا افطارا، فكان مكلفا دفعنا فاتورته 27 جنيها اي حوالي 43 دولارا حينها ولم نشبع !!!

   صعقت وصاحبي، فالمبلغ كبير، سألنا الجرسون: ويش اكلنا يا عم؟!

رد بلطف وهو مبتسما فقال، انتوا دخلتوا هنا ليه يا اولاد، ده مطعم سياحي بيدخلوه الخواجات فقط.

  قلت ليحيى سادفع، وجمعت كلما في الجيب، وسلمنا المبلغ وامرنا لله، وتحركنا بالباص إلى روكسي، ومن هناك إلى حي السيدة زينب (أحد أهم وأجمل احياء القاهرة القديمة).

   كانت بطوننا تعتصر جوعا، ولم يعد معنا اكثر من ايجار الشقة واجرة الباص إلى المطار، فموعدنا للمغادرة الى صنعاء هو صباح اليوم التالي ..واتجهنا لاقرب مطعم فول وطعمية في احدى زوايا الحي المليئة بالحركة والحياة واصوات الناس الطيبة..

طلبنا طبقي الفول والطعمية ، وكان من الذ واطعم ما اكلت في حياتي ولحظات لهفي وجوعي، فاكلنا وزدنا حتى شعبنا، وجاء وقت الحساب، واندهشنا ان كان ستين قرشا فقط، كان يحيى لا يزال محتفظا بعشرة جنيهات، فقال العم رضا (صاحب المطعم) مافيش "فكه" يابني..

  ذهبنا للبحث عن "فكة" في الجوار ولم نجد.. ثم رجعنا للعم رضا، الذي قال: ما كنت انا عارف ماحتلاقوش فكه، لكن لما تيجو مرة ثانية حتدفعوها.. وما ان اخبرناه بسفرنا الى صنعاء، حتى بادر وقال، خلاص توصلوا لأهليكم بالسلامة، ومسامحين.. وكانت لحظات طريفة.

  هذه هي مصر التي نحب، تُرافقنا صغارا وكبارا، ونتماهى في عشق نيلها وهوائها، ونُكبر طِيب وكرم أهلها .. نحبها لاننا ببساطة لا نشعر بغربة فيها، ولا ننسى صنيعها الجميل فينا.