الحق العصي على الإندثار
بقلم/ عبدالرحمن السقاف الطهيفي
نشر منذ: 3 سنوات و 8 أشهر و 17 يوماً
الثلاثاء 06 إبريل-نيسان 2021 07:11 م
 

ان مسيرة موكب جثامين ملوك وفراعين مصر وما رافقها من تجهيزات وتغطية إعلامية شدت انتباه العالم، تعطي لنا أروع الامثلة عن تمسك الشعوب بهويتها وعن كيفية ترسيخ هذه الهوية في أذهان اجيالها الصاعدة.

هذا يذكرنا بما جرى ويجري للهوية اليمنية التي تعرضت لما لم تتعرض له هوية شعب من الشعوب او أمة من الأمم.

يمكننا القول انه جرت عمليات اغتيال وتصفية منظمة لعناصر الهوية اليمنية مع سبق الإصرار والتخطيط، وكان من بين المشاركين في الجريمة بعض أبناء الشعب انفسهم.. على الأقل بقبولهم وسكوتهم.
كان اول العناصر المستهدفة ضمن هذه الجريمة المنظمة هي اللغة اليمنية القديمة (العربية الجنوبية)، ولأن اللغة هي الشرط الاول لاي ثقافة وهي حوضها الحافظ، فقد لزم ان تكون اول المستهدفين.

ولكي ندرك حجم الاستهداف الذي تعرضت له اللغة اليمنية القديمة ومدى الضرر الذي لحق بها، يكفينا ان نتذكر أن الشعب الذي ظلت حضارته مزدهر لآلاف السنين ولغته حية حتى القرن السابع وربما الثامن الميلادي تمتنع ذاكرته القومية عن تذكر أشعار أو نصوص أدبية بلغته الأولى.


كل هذا حدث مع ان اليمن لديه رصيد تاريخي وتراث قومي قل أن يملكه شعب، فتاريخ اليمن موجود منذ بواكير التاريخ الإنساني المسجل، ولم يقتصر الأمر على التواجد فقط، فقد كشفت لنا النقوش اليمنية القديمة المكتشفة حتى الآن أن هذا الشعب صاحب حضارة منذ اربعة آلاف سنة على الأقل، بينما التقديرات أن عمر الحضارة اليمنية أكبر من ذلك بكثير.

صحيح أن شعوب المنطقة كلها تقريبا لديها تاريخ لحضارات قديمة، لكن الأمر مع اليمن مختلف، ففي اليمن بقيت سلسلة الحضارة متصلة وبحضور قوي ومتفرد في الجزيرة العربية وما وراءها لآلاف السنين دون انقطاع، وبانتاج ثقافي وحضاري غزير ومبهر.. ولكي ندرك تفرد الحضارة اليمنية وتفوقها يمكننا العودة لبعض الامثلة.
- فعلى سبيل المثال اذا اخذنا النقوش كمعيار - باعتبار النقوش أحد ابرز مظاهر الثقافة والتقدم والازدهار لحضارات العالم القديم- نجد ان الحضارة اليمنية على هذا المضمار في الصدارة وبعيدا عن الجميع، فحين جاء المستكشف الفرنسي جوزيف هاليفي الى اليمن عام 1872م وبرغم ان رحلته كانت على عجل في الجوف ومارب ودون وجود فريق محترف ومجهز لمساعدته ،من كثرة النقوش التي دونها بعد احصائها عند عودته، تبين ان عدد ما دونه من نقوش في رحلته السريعة هذه فقط، يفوق عدد نقوش كل الحضارات السامية مجتمعة!!.

وعلى سبيل المثال كذلك، لو نظرنا إلى اين وصل اثر الدول اليمنية القديمة ومدى اتساع نفوذها، فسنجد ان الكتابات المعينية وجدت في مناطق كثيرة موزعة من الجوف جنوبا الى اقاصي الشام شمالا .. ولما هو ابعد، فهل عرفت المنطقة حضارة بهذا الغنى وهذا العمق من التاثير وهذا الاتصال الزمني الطويل؟
وهذا التأثير الكبير للحضارات اليمنية هو ما يفسر انبهار الاخباريين في العصر العباسي بأخبار اليمن ودولها، رغم أنهم لم يعودوا لتقصي التاريخ اليمني من أهله ونصوصهم التي كانت لاتزال تُقرأ في ذلك العهد، واكتفوا من ذلك بما وصل الى اسماعهم.

هذه الأمثلة نتناولها فقط من زاوية استحضار عظمة الهوية اليمنية التي يجرى طمسها على مدى اكثر من الف سنة، حتى اصبح بعض أبناء اليمن اليوم هو من يقوم بتصفية ما تبقى منها دون وعي، فتجد من يقوم بتحطيم الآثار بحجة أنها من المحرمات، وهذه كانت دائماً إحدى الحيل لتوجيه البسطاء ضد آثار حضارتهم التي لا يكره أعداء الهوية اليمنية شيئا كما يكرهونها.

وكان من النتائج المترتبة على عملية التصفية هذه اننا نجد اجيال اليوم لا يعرفون شيئا عن مآثر اقيال وملوك اليمن وحِكَمهم بل وتاريخهم.
لدى كل شعب وباستمرار ذاكرة شعبية وروايات شفهية عن قصص وابطال ومُثل عُليا يرويها الكبار للأجيال الجديدة، ومع ذلك قل أن تجد في ماتحفظه الذاكرة الشعبية شيئا له علاقة باليمن القديم وتراثه وحكمائه وأبطاله، لذلك لا غرابة أن تكون الخلفية الثقافية الشعبية للكثيرين من شباب اليوم ومُثلهم التاريخية تدور حول شخصيات من أمثال الزير وعنترة ومن لف لفهم من قطاع الطرق والمجرمين.

ولكي تكون عملية فصل الشعب عن ماضيه وهويته نهائية ولا يبقى مايذكرهم بها، فقد تضمنت عملية التصفية إعطاء بعض العشائر اليمنية سلسلة نسب مزعوم غير يمني، فتجد اليوم من العشائر من يقول بان جدهم فلان او علان من أمثال الشخصيات التي ذكرنا سابقاُ، ولو كان هذا صحيح فلا يمثل الامر مشكلة لان الكل سواسية بصرف النظر عن الأنساب والأحساب، لكن حين يكون الامر مقصوداً ضمن عملية تصفية مستمرة لهوية شعب باكملة فيجب التنويه والتنبيه... وهناك امثلة على هذه المحاولات تناولها باحثون بالتفصيل وبجهود مشكورة.

مايبعث على التفاؤل هو وجود صحوة في اوساط الشباب على ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية الجامعة، ولا شك انها صحوة تاخرت كثيراً ولطالما انتظرها المدركون لأهميتها من قبل، ولكن تأخرها لن يثني إصرار شعب على استعادة هويته وانتمائه، وليس في استطاعة أحد أن يمنعه من الوصول لهذا الحق العصي على الإندثار.