البلد الموبوء بالمخاوف
بقلم/ موسى عبدالله قاسم
نشر منذ: 4 سنوات و 8 أشهر و 18 يوماً
السبت 04 إبريل-نيسان 2020 04:35 م

 لم يخفِ الراحل غازي القصيبي التوجّه العام للدولة السعودية حيال ثورة الـ 26 من سبتمبر الخالدة والنظام الجمهوري المنبثق عنها ، إذ نجده في أطروحته لنيل درجة الدكتوراة -1970- التي عنونها بـ " ثورة 1962م اليمنية وتأثيرها على السياسة الخارجية للجمهورية العربية المتحدة - مصر-

والسعودية" يتحدث عن أن السعودية اتخذت موقفها من ثورة 26 سبتمبر بناءً على مخاوف وتوجسات من آثار قد تطالها نظير وقوف مصر إلى جانب الثورة اليمنية ونظامها الجمهوري. يقول القصيبي في أطروحته "عندما اندلعت ثورة اليمن عام 1962م كانت علاقة السعودية ومصر في أسوأ مراحلها ، ولأن مصر وقفت مع ثورة اليمن ودعمتها سياسيا وعسكريا رأت السعودية في ذلك تهديدا لها وأن وجود - موطئ قدم - لمصر في اليمن قد يساهم في زعزعة أمن شبه الجزيرة العربية ، وهو ما دفع بالسعودية لدعم - الملكيين - بالسلاح وتحويل مناطق السعودية الحدودية إلى معسكرات تدريبية لهم والبدء بمعركة الاستنزاف ضد القوات الجمهورية".

هذا الموقف السعودي من ثورة الألف عام عمّق الجراح بين الشعبين ، اليمني والسعودي، رغم ما يجمعهما من رابطة الدم وواحدية المصير، وعلى مدى خمسة عقود من عمر الجمهورية الخالدة ظلت العلاقات اليمنية السعودية محكومة بالريبة ومشوبة بالحذر، فاتسمت في غالب الأحيان بالبرودة تارة والتوتر تارة أخرى سواء في عهد التشطير أو عهد ما بعد الوحدة ، وخلال تلك الفترة شهدت الحدود اليمنية السعودية حالات من الشد والجذب على الصعيد العسكري تخللتها مواجهات دامية بين الطرفين.

تلك التموجات في العلاقات الثنائية بين البلدين لها جذورها التاريخية الممتدة ، إلا أنّ ما يُشاع عن "وصية الملك عبدالعزيز" لأبنائه وأحفاده قبل موته حول اليمن قد يكون لها الدور الأبرز في رسم مسار هذه العلاقات ، والتي في مجملها تستند إلى الهواجس والتخوفات من استقرار اليمن ونهضويته بما قد يحوله إلى مصدرٍ لإقلاق النظام الحاكم فيها!!

هذه المتلازمة لحالة العلاقات اليمنية السعودية بمراحل تحوّلها الرئيسية (ثورة 26 سبتمبر، النظام الجمهوري ، الوحدة اليمنية ، حرب الخليج ، حرب 94م ، ثورة 11 فبراير) لم يضعها الرئيس هادي بعين الاعتبار عندما استدعى "عاصفة الحزم" لاستعادة الشرعية وهزيمة المليشيات الهاشمية العنصرية ، وهو ما ترتب عليه وصول اليمن إلى هذا الإنسداد العسكري والسياسي المرعب، والمأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب اليمني كأسوأ أزمة إنسانية على كوكب الأرض. اليمن الموبوء بالمخاوف لم يكن ضحية للسعودية فحسب ، هناك دول أخرى ساهمت مخاوفها وتوجساتها من اليمن في تعميق جراحها وتقسيم جغرافيتها و تفتيت نسيجها المجتمعي ؛ دولة الإمارات على سبيل المثال لها مخاوفها من اليمن بقدر أطماعها فيها ، تلك المخاوف تمثّلت بشمّاعة جماعة الإخوان المسلمين التي يحاربها محمد بن زايد ورهْطه ، وقد برزت تلك المخاوف بالتآمر على الدولة اليمنية والمساهمة في انقلاب سبتمبر 2014م بذريعة ضرب حزب "الإصلاح"، مروراً بالتأثير على مسار الحرب وحرف بوصلته منذ العام 2015 وحتى اليوم ، وما رافق ذلك من تقويض للدولة اليمنية وشرعيتها ، وإضعافٍ لجيشها الوطني ومقاومتها الباسلة. دولة قطر لم تكن بعيدة عن إنهاك الجسد اليمني بمخاوفها وتوجساتها ، إذ اتخذت مساراً مماثلاً للكيان الصهيوني "إسرائيل" في تعامله مع مصر إبان مناصرتها لثورة سبتمبر في الستينات ،

فقد تعمّد الكيان الصهيوني دعم المليشيات الهاشمية العنصرية بالسلاح إمعاناً منه في إغراق جيش مصر وإنهاكه في اليمن خوفاً من أن يكون الهدف القادم ، وبالمثل تفعل قطر مع السعودية بعد حصارها في يونيو 2017م ، من خلال سياستها التي تقوم على إغراق السعودية في اليمن مستخدمة قدراتها المالية والاعلامية وعلاقاتها مع مناهضي السعودية عربيا وإقليميا ، وتجيير كل ذلك لخدمة المليشيات الحوثية الهاشمية العنصرية. وليس بعيداً عن المخاوف الإقليمية ، فإن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا لها مخاوفها من اليمن أيضاً ، إذ تعتبر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب - الذي سِيقَ إلى اليمن ليكون مستقره ومنطلق عملياته من قِبل مخابرات إقليمية معروفة - هو المهدد الأول لأمن هذه الدول ومصالحها الاقتصادية في الممرات المائية على البحرين العربي والأحمر لا سيما مضيق باب المندب وخليج عدن ، و على ذلك فإنها تنظر إلى اليمن بعين أمنية محضة لا ترى من خلالها سوى مصالحها الأمنية والتجارية. إن تبديد كل هذه المخاوف يعتمد بالدرجة الأولى على الشعب اليمني من خلال استعادة جمهوريته وهزيمة المشروع السلالي العنصري ، وقطع يد الوصاية الخارجية العابثة بأمن اليمن القومي ، والشروع في بناء اليمن الاتحادي القوي المنيع ، وهنا لابد للسعودية من أن تدرك أن ظهور مليشيا الحوثي السلالية بعد نصف قرن من ثورة 26 سبتمبر هو المحصلة الطبيعية لوقوفها على النقيض من الثورة في حينه ، سواء من خلال إشغال الجمهوريين بحرب استنزاف دامت ثماني سنوات وإدخال السُلالة العنصرية إلى مفاصل الدولة بعد "المصالحة" ، أو من خلال إفراغ أهداف الثورة من مضامينها الوطنية عبر أدواتها في الداخل ، ولو أنها - أي السعودية - تخلّت عن مخاوفها وهواجسها تلك وساندت الشعب اليمني في نيل حريته وكرامته أو الوقوف موقف الحياد من الثورة على أقل تقدير ، لما قامت لهذه السلالة العنصرية قائمة ولما عادت بتحوّر جديد لنشر كل هذا الخراب داخليا وخارجيا ، ومن هنا فإن تكرار خطيئة الستينات عبر التلكؤ في هزيمة المليشيات الهاشمية العنصرية بعد خمس سنوات من الحرب نزولاً عند ذات نظامها الحاكم قبل أن تكون على اليمن وشعبه الذي سيتجاوز حتماً هذه المرحلة العصيبة من تاريخه.