أجيال الميليشيات والفوضى
بقلم/ يوسف الديني
نشر منذ: 6 سنوات و 10 أشهر و 25 يوماً
الثلاثاء 16 يناير-كانون الثاني 2018 11:11 ص
  

لا مجال للتشاؤم أو التفاؤل في استشراف مستقبل المنطقة؛ قدر أننا أمام معطيات يجب التعامل معها بشكل جاد وأمين على مستوى القراءة والاستنتاج، ومحاولة البحث عن مسارات التأثير في التخفيف من كوارث محدقة وفق المعطيات الأولى.
ما يزيد على أربعة عقود منذ بداية تأسيس مفهوم الدولة القطرية بعد الاستقلال، ثم عسكرة الأنظمة، فولادة وصعود الإسلام السياسي وقيام الثورة الإيرانية، وصولاً إلى نشأة الحركات العنفية ذات المنزع السني والشيعي وتحولها إلى معارضات بديلة تتسيد المشهد، ولاحقاً أحداث «الحادي عشر من سبتمبر»، والربيع العربي، وصعود منطق الميليشيا بديلاً للدولة في مناطق متفرقة على طول وعرض العالم العربي والإسلامي، وكل ميليشيا أو تنظيم إرهابي يحظى بتحالف من قبل أنظمة لها مصالح في استثمار الخرائب، أو حتى على سبيل التبني المباشر وتعميم أذرع مستدامة كما هو الحال مع حزب الله اللبناني في تجربة الدولة داخل الدولة، أو اختطاف الدولة بالكامل كما هو الحال مع الحوثيين في التفافهم على كل أطياف التنوع في المجتمع اليمني وتجريفهم هوية البلد باتجاه آيديولوجيا الميليشيا المصطنعة حتى بالنسبة للثقافة الزيدية.
والواقع المؤسف الذي شكله صعود الميليشيات وربيعها منذ انهيار الربيع العربي، نلمس اليوم تجلياته في عدد من المعطيات، منها اللجوء إلى السلطوية وإعادة بناء الدولة من جديد، ومواجهة الانهيارات الاقتصادية المحتملة، وارتفاع تكلفة الأمن وتوابعه، وتداخل مسألة الحدود بين الدول والسيادة واستغلال المعارضات وتوظيفها في استهداف الأمن القومي.
في آخر تصعيد باتجاه الهوية القلقة المأزومة قرر ملالي إيران منع تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس، باعتبارها جزءاً من الغزو الفكري الذي تتعرض له البلاد، بينما سعى الحوثيون إلى تغيير المناهج التاريخية والدينية في اليمن لتصب في صالح مشروع أكبر، وهو إعادة تأسيس هوية جديدة لليمن، وهو الأمر ذاته الذي فعلته على المستوى العسكري ميليشيا حزب الله في لبنان بإرسال فتيانها وشبانها لصفوف القتال، ونشأة الأجيال الصغيرة في تلك الأجواء الحربية على مستوى التحشيد الطائفي والعقائدي والعسكري. وبحسب تقرير غربي للقاء مع مقاتل من حزب الله لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره (أبو علي الكربل) حكى فيه أن نهايته العسكرية تلك سبقتها بداية التجنيد والتحشيد التي تتشابه مع كل تنظيمات العنف من «القاعدة» إلى «داعش»، حيث اعتاد على المجالس الدينية التي بدورها أعادت تعريف التضحوية الدينية بمعنى حزبي عسكري ضيق، متحدثاً عن عشرات المقاتلين من كل القرى الذين خضعوا لتدريبات دينية وفكرية وعسكرية في معسكرات خاصة لمدد قصيرة، لكن اللافت أنه حتى التبرير السياسي يمرر لهؤلاء الشباب في تغييب للحقائق كامل، فهو يعتقد أن ثمة خطة دولية للإطاحة بالنظام السوري لتدمير محور حزب الله - إيران، لذلك نحن بحسب رأيه نحاول الحيلولة دون ذلك.
في اليمن الوضع أكثر مأساوية حتى من تجارب العائدين - العالقين في «داعش»، فالكثير منهم عائد بجسده لكنه عالق على مستوى التفكير والخيارات المطروحة، في ظل غياب خطط جادة للتفكير في مستقبل العوائل والأطفال ممن خضعوا لهكذا تجارب ممضة وعنيفة، وتلك قصة أخرى، لكن ما فعله الحوثيون يفوق التوقعات، وفقاً لتقارير مجلس الأمن والمنظمات الدولية، حيث يتوزع الأطفال بين «أنصار الله» الحوثيين مقاتلين تحت الضغط والخطف والإغراء بالمال، أو في صفوف «أنصار الشريعة» الذراع اليمنية الجديدة لتنظيم القاعدة، وبحسب دراسات ميدانية مستقلة فإن كثيراً من الحوثيين حصدوا أكثر من 50 في المائة من نسبة تجنيد الأطفال لأغراض القتال والأعمال المسلحة.
العالقون في التنظيمات الإرهابية ممن لم يتورطوا في الانخراط الفعلي بسبب حداثة السن أو قدومهم كمرافقين، خضعوا إلى تجارب قاسية على مستوى عيش تجربة مناطق التوتر أو صفوف التعليم في مؤسسات التعليم التابعة للتنظيمات والميليشيا، وبحسب مسؤول في الرئاسة الفرنسية ثمة 700 فرنسي، ثلثهم من النساء، ونحو 500 طفل فرنسي عاشوا فترات طويلة في مناطق كانت تحت سيطرة تنظيم داعش (دولة الخلافة المزعومة)، وفي أشهر ميديا للتنظيم تم توجيهها إلى العالم الغربي كانت بعنوان «أقضوا مضاجعهم»، وتتحدث عن تجنيد أطفال من دول أوروبية متنوعة، وتدريبهم على استخدام الأسلحة والمواد المتفجرة والأحزمة الناسفة، وصولاً إلى استخدام وقيادة الدبابات، الأمر الذي تطور لاحقاً إلى برمجة تطبيقات على الهواتف المحمولة خاصة بالأطفال.
عشرات الآلاف من الأطفال العالقين أو اللاجئين إلى أوروبا وصلوا بعد انحدار التنظيم دون أن يكون هناك رؤية واضحة وحقيقية منفردة أو بشكل جماعي من الدول التي تنتظرها أزمة العالقين أو العائدين، هذا إذا ما استبعدنا كل التبعات التي لحقت بهم في مناطق التوتر من سوء المعاملة الجسدية أو النفسية أو الاعتداء الجنسي أو العزلة، أو البقاء لفترات طويلة في مراكز الإيواء دون أي خدمات لائقة.
الأكيد أن الحروب مهما طالت والاضطرابات السياسية والنزاعات المسلحة مآلها إلى النهاية مهما طال الأمد، فالحديث عنها والتفكير فيها ضروري وعملي، إلا أنه يجب ألا يجعلنا نغفل عن التفكير في عواقبها وآثارها على المدى الطويل في تغيير تركيبة المجتمعات وثقافتها وهويتها.
واجب عالم اليوم إطلاق مبادرات طويلة المدى لحماية الأجيال القادمة من خراب العقود التي مضت وآثارها على الأجيال الجديدة الأكثر هشاشة، رغم اتساع مصادر التلقي وتنوع المحتوى المطروح وسهولة الوصول إلى المعلومة بغض النظر عن مصداقيتها، والصراع اليوم هو صراع شعارات ومحتوى مغلوط في مقابل اهتمام بالجوانب الأمنية وحماية مفهوم الدولة.
أجيال الميليشيات والفوضى وقعت في فخ الخطابات الشعاراتية بمضامين دينية، واللافت أننا رغم العولمة وتغير مناخات وأهواء ومزاجات الشباب تجاه القناعات السياسية والثقافية فإنهم لا يختلفون كثيراً عن بقية الفئات في التأثر بالخطاب الديني الذي لا يزال أحد أهم مصادر التلقي لدى الجمهور لأسباب كثيرة تعود إلى بنية المجتمع من جهة، ولتمركز هذا الخطاب في الوجدان الفردي، وبغض النظر عن موضوعة «الدين» فالعالم تقريباً يعيش دورة العودة إلى خطابات الجذور والهوية بسبب الأزمات التي يمر بها، ومن هنا أصبح الخطاب الديني في العالم الإسلامي والخطابات الثورية في غيره تستبدل نجومها وخطاباتها من التعبئة إلى التماشي مع العولمة، وما يتطلبه من تراجعات في المواقف عادة ما توصف بالتسامح والاعتدال بسبب حرصها على البقاء في المنطقة الرمادية «التصالح مع العالم».
تجديد الهويّة وإعادة صياغتها وفق مفاهيم العصر اليوم ومنطقه مهمة كبيرة لإيجاد صيغة مشتركة بين جيل اليوم وماضيه وحاضره، وصولاً إلى مستقبله، وهذا ما يجب ألا نغفل عنه في الحديث عن مستقبل المنطقة الذي يجب ألا يرتهن للميليشيات والفوضى!