جرائم الفكر
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 17 سنة و 3 أشهر و 29 يوماً
الأحد 12 أغسطس-آب 2007 05:24 م

لعلَّ أخطرَ الجرائم على الإطلاق هي تلك الجرائم التي تمارَس مع الشعوب والأمم، ونعني بها تلك التي تمارس مع الوعي والفكر البشري، ووجهُ خطورتها أنّ ضحاياها ليسوا أفراداً معدودين، بل ضحايا هذا النوع من الجرائم أممٌ وشعوب بأسرها، وهذا بعينه هو الفرق بين الجاهلية القديمة ذات الطابع الأمي البدائي والمحيط المحدود، وبين الجاهلية الحديثة ذات الطابع العلمي الحديث، القائم على تكنولوجيا الأقمار الصناعية، وأجهزة الاتصالات والإنترنت، والفضائيات، وغيرها من الوسائل الجماهيرية ذات التأثير العالمي الكبير والواسع .

أرى أنّ هذه مقدمة ضرورية للحديث عن موضوعنا، للتفريق بين جرائم الأخلاق -التي ربما تُرتكب في جنح الظلام، وعلى خوف أو استحياء- وبين جرائم الفكر التي تُرتكب في وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع من الملايين، فكم سمعت واستجابت أممٌ وشعوب لصرخات العلمانيين واللبراليين ودعاة التغريب، الذين يروّجون لأفكارهم وعلى أوسع نطاق، بلا حياء ولا خجل، فكانت النتيجة أرقاما مفجعة، وجرائم مخيفة، ودمارا شاملا رهيبا حاق بهذه الأمم، وما كانت لتقع هذه الجرائم لولا أنها وجدت قبولا فكريا ونظريا وعملياً لدى البعض، وصمت عنها العقلاءُ والحكماء ونخبُ الأمة وسادتها .

أسرد في هذا المقام بعض الأمثلة ليتضح المرادُ :

في بعض بلدان الجزيرة والخليج، تغاضى البعض عن بنوك الربا، وشركات الأسهم، إلا نفراً قليلا من العلماء والحكماء ظلّوا يرددون حرمة الربا، ويحذرون من شركات الأسهم، المجهولة الأهداف والمرامي، والمجهولة المصادر والانتماء، وفي وسط هذه المعمعة والفوضى، تأتي الطامة الكبرى، فيتحول شعب من شعوب المنطقة من غني وثري ربما على مستوى العالم، إلى مستوى من الفقر والحاجة والعوز، وخسر المليارات من ثرواته وأمواله ومدخراته، وما كان هذا ليقع لولا جرائم الفكر، واغتيال الوعي، الذي يمارس على الضمير العربي المسلم .

لقد وجدتُ أحدَهم يبكي دهره وزمانه، لقد خسر في هذه الأسهم أكثر من 13 مليون ريال، وآخر خسر كل ثروته وماله ومدخراته، ووصل حجم الكارثة حتى إلى العامة وصغار الموظفين ممن باعوا كل ما يملكون من ذهب ومدخرات قليلة، أملاً منهم في توديع الفقر، واستقبال غد أكثر إشراقاً وجمالاً، في حين حُمل البعض منهم إلى المصحات والمشافي، ومنهم من وافته المنية من جراء سكتة قلبية، أودت بحياته .

وفي يمن الإيمان والحكمة، شبّت حرب طاحنة في محافظة صعدة لمواجهة "الحوثية" وقدّم الشعبُ اليمني مئات من الجنود، ومليارات الدولارات، وحاقت بالشعب اليمني الكثير من النكبات والجراحات والمآسي، من جراء هذه الحرب غير المعلومة الأهداف والغايات، ثم فجأة وكأن شيئا لم يحدث، تمت المصالحة بين قيادتي الفتنة، على أساس وقف إطلاق النار، وعلى أن ينقل كبار الحوثيين إلى دولة قطر، ليحظوا بالعناية الكريمة، بناءً على تدخل أميركي سام، الأمر الذي يجعل كل عاقل يتساءل لِمَ قامت هذه الحرب وما مسوغاتها؟ و لِمَ أوقفت فجأة؟ ولم أزهقت مئات الأنفس المؤمنة، وأنفقت المليارات وبددت الثروات؟ !.

ألم يكن من المناسب أصلا ألا تقوم هذه الحرب ابتداءً، ولم يكن ثمة حاجة لا لتدخل أميركي ولا غيره .

في بلد ثالث -والحديث غير بعيد عن جرائم الفكر وتزييف الوعي- تعالت أصواتُ العلمانيين بضرورة خروج المرأة من البيت، لتشارك الرجل همومَ الحياة، ولتثبتَ المرأةُ شخصيتَها ووجودها وذاتها، وأن هذا يعد حقاً من حقوق المرأة، وأن القوى الظلامية وضعت المرأة في تابوت مظلم حالك السواد وأغلقت عليها بقفل محكم، إلى آخر هذه الجمل المزيفة، وجاءت الإحصائيات التي نشرت في بعض المجلات والصحف بأن 80% من العاملات في هذا البلد تعرضن إما إلى فقدان عفتهن وشرفهن، أو تحرش بهن، كما تعرضت الطفولة إلى الضياع والإهمال، أو الانحراف السلوكي، ولم تحقق المرأة أي مكاسب تذكر في مجال الخروج من البيت والاختلاط إلا هذه المآسي، ولعلّ هذا هو ما يريده العلمانيون من المرأة وهو الأمر الذي كشفته لغة الإحصائيات والأرقام .

إنه في الوقت الذي ينادي العلمانيون بخروج المرأة والاختلاط والتفسخ، نرى الغرب وهو على نصرانيته بدأ يتراجع عن هذه البهيمية، ففي قلب أمريكا هناك أربع مدارس يقوم التعليم فيها على أساس عدم الاختلاط بين الجنسين، ومن الطريف في الأمر واللافت للنظر أن هذه المدارس الأربع مخصصة لعلية القوم من التجار والدبلوماسيين وأساتذة الجامعات والطبقة الراقية والمثقفة في المجتمع الأمريكي، وبدأت كثير من القيادات الواعية في الغرب تدعو إلى التعليم غير المختلط، وتدعو إلى حق المرأة في القرار في البيت والتفرغ لتربية الأطفال، والعناية بالزوج والبيت والأولاد، على الطريقة الشرقية، حتى قالت دراسة غربية أجراها مركز ستارش البريطاني للأبحاث العالمية: إن السعوديات أكثر البنات دلالاً على مستوى العالم، حيث يحظين بالخدمة من الجميع، ويتسابق كل من في البيت لخدمتها وإسداء الجميل لها، بالإضافة إلى أنهن لسن بحاجة للعمل فمصروفهن متوفر لهن من أولياء أمورهن دون الحاجة للعمل .

إن نساء العالم إذن يحسدن المرأة المسلمة على ما هي عليه من دلال ونعيم وتكريم .

هذا في الوقت الذي يتبارى فيه المعتوهون من العلمانيين لجرّ المجتمع الإسلامي إلى ثقافة تنكّر لها أصحابُها، وباتوا ينادون صباح مساء بخلافها، ونسمع بين الفينة والفينة عن المظاهرات العارمة بعودة المرأة إلى البيت والسكن فيه، بعيداً عن عذابات المصانع والشغل المهين في البيوت وأعمال الحدادة و(البويا) والميكانيكا.. الأمر الذي أفقد المرأة أنوثتها وكرامتها وجمالها .

إن أعظم جناية وجرم يمارَس على الضمير المسلم المعاصر هي جرائم الفكر وتزييف الوعي، ومخادعة ملايين البشر، وسَوْق الملايين من القطعان البشرية بسوط التضليل والخداع والتزييف والغش المفضوح والمكشوف، فهل آن لنا الأوان لأن نفرّق بين الحق والباطل، وبين الحقيقة والزيف، وأن نتصدى لهذه الجرائم الفكرية التي يريد منها أهلها أن يلقوا بالمجتمع المسلم في الهاوية السحيقة.

* نقلاً عن موقع الألوكه