نساء متعلمات ولكن
بقلم/ دكتور/آية عبدالله الأسمر
نشر منذ: 15 سنة و 5 أشهر و 3 أيام
الأحد 28 يونيو-حزيران 2009 06:22 م

كعادتي أمتلك طاقة هائلة على الانغماس في الدهشة والاستغراب والتساؤل أمام بعض المواقف التي ربما لا تسترعي انتباه الآخرين، وكعادتي أيضا أفتقر إلى القدرة على كتمان الحق وتجاهل الخطأ وغض الطرف عن المواقف المثيرة لحواس المرأة العربية المعتزة بعروبتها والفخورة بأصولها والمنتمية لهويتها وجذورها بصدق وامتنان.

في الآونة الأخيرة لاحظت أن معظم الأمهات العربيات خاصة المتعلمات منهن أصبحن يخاطبن أبناءهن وبناتهن باللغة الإنجليزية ويتعمّدن تعليم أطفالهن المفردات المتداولة بشكل يومي باللغة الإنجليزية، واللافت للنظر حقا هو أن هؤلاء النسوة يتجاهلن تماما مسألة تعليم أطفالهن مبادئ وأساسيات اللغة العربية، وكيفية تهجئة الكلمات وتحليلها وتركيبها وتكوين الجمل ومراعاة قواعد النحو والصرف المتعلقة باللغة العربية التي من المفترض أن تكون هي اللغة الأم والتي يقول المنطق أنها أولى بالاهتمام والرعاية من غيرها، والذي لا أفهمه ولا أستطيع استيعابه بعقليتي الرجعية أن هؤلاء الأمهات يتضايقن عندما يتحدث أطفالهن باللغة العربية ويتفاخرن بأن الأطفال لا يجيدون الحديث باللغة العربية ويتباهين بمخاطبة الأطفال باللغة الإنجليزية فقط، على اعتبار أن هذا الأمر جزءا مهما من "البرستيج" وعلى أساس الفهم المخطوء لديهن بأن المتحدثين باللغة العربية هؤلاء لم يرقوا بعد بمستواهم الثقافي ليتحدثوا باللغة الإنجليزية، وتزداد دهشتي حدة وحيرة وأغص بالمرار والألم وأنا أراقب أسلوب التنشئة الذي تعتقد نساؤنا مخطئات ومتوهمات بأنه أسلوب تربية حديثة، ويحتاج هذا الأسلوب الحديث و"الراقي" حسب مزاعمهن إلى التخلص من مواطن الضعف والتخلف والرجعية المتعلقة بالانتماء للهوية العربية والتمسك بمبادئ الدين سواء الإسلامي أو المسيحي والاعتزاز بالأصول والجذور، والالتزام بالأخلاق الفاضلة والتقيد بأعراف المجتمع وعاداته وتقاليده الطيبة والنبيلة، والشعور بالفخر والاعتزاز بالدين واللغة والتراث، ويتناسين أو ربما هن يجهلن حقا أن هذا الانسلاخ الذي يغذين به أطفالهن سيؤثر سلبا على حياة ومستقبل أبنائنا بل وعلى مستقبل الوطن التي سيشكل هؤلاء الأطفال صلبه وقوامه وعمدانه لاحقا، كما أنهن يجهلن أن هذا التغريب الذي يغزون به عقول أطفالهن سيؤذي التكوين الفكري والأخلاقي لهؤلاء الأطفال وسيشوّه معتقداتهم وعواطفهم وسلوكاتهم وسيشتت أفكارهم ووولاءهم واتجاهاتهم؛ لأنهم سينشؤون ويكبرون مفصومين فكريا ونفسيا ومنقسمين ذهنيا ووجدانيا ما بين المجتمع المحلي والبيئة المحيطة والواقع الذي يعيشون بين جنباته وبين محاولات الهروب من والانسلاخ عن هذا المجتمع والواقع وهذه البيئة والحقيقة وهم في الوقت ذاته غير قادرين على التكيف مع واقعهم الحقيقي هذا وغير منسجمين مع بيئتهم المحلية هذه ولا يستطيعون في الوقت عينه الانصهار الكلي والذوبان التام في الشخصية الأمريكية أو الأوروبية التي حاولت أمهاتهم قولبتهم داخلها، وبسبب هذا الجهل المعشش في ذهن هؤلاء النسوة المتعلمات وبسبب عوامل الانبهار السطحية التي لم ترقَ إلى تفكير عميق وواعي بكيفية انتقاء الأنسب والأصلح من الآخر والتحاور معه والأخذ عنه دون أن يعني هذا بالضرورة طمس الشخصية الأصيلة وتشتيت الفكر المحايد والاعتزاز بالمنبت والأصل والانتماء للذات، وبسبب عقدة النقص المكوّمة في الذات وانعدام الثقة بها ينشأ جيل جديد مشوّه وممزق وحائر ما بين حقيقة أننا عرب ومحافظون ومتدينون وبين الصورة المزيفة التي نحاول تقمصها والثوب الضيق الذي نحاول أن نحشو الجسد العربي فيه والذي لا يناسب مقاسات وتفاصيل الجسد العربي بتركيبته الفكرية والنفسية والعقائدية والثقافية والاجتماعية ولا حتى الاقتصادية والتاريخية.

أنا لا أنكر أهمية أن يتعلم أبناؤنا وبناتنا اللغة الإنجليزية وبطلاقة، وأعلم علم اليقين ضرورة أن يتقن أطفالنا معرفة اللغة الإنجليزية لأسباب عديدة أهمها أنها لغة دولية وعالمية، وعصر الانفتاح والعلم والعولمة الذي نعيشه يحتم علينا أن نكون ملمين بلغة ثانية تمكننا من الاطلاع على العلوم والمعارف المختلفة فلا تقف اللغة عائقا بيننا وبين الآخر وبين الاستفادة من علومه ومعلوماته وتطوره وازدهاره، وأشجع بشدة أن يطلع أطفالنا على لغة الآخر وثقافته وعلمه، فأنا شخصيا أتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة وقد استفدت من إجادتي لها في كثير من جوانب الحياة المختلفة خاصة على الصعيد العلمي، إلا أنني أرفض وبشدة أيضا أن نتعلمها على حساب اللغة الأم وأن نستبدلها مكان اللغة الأم وأن تحل اللغة الثانية بكل ما تحمله من ثقافة ومفاهيم وتبعات محل اللغة الأولى لتمحو ثقافتنا ومفاهيمنا الأصلية.

متى سيدرك الآباء وخاصة الأمهات أن كل ما يتعرض له أبناؤنا من تشتيت وتغريب وضياع هو غير ناجم عن العولمة والغزو الثقافي الذي يرزح مجتمعنا تحت كلاكله فقط؟ إنما مرده أيضا للازدواجية التي يعيشها الآباء والأمهات أيضا، ومفاهيمهم الضبابية حول مبادئ الحداثة والتطور والتقدم والرقي، وضياعهم هم أنفسهم بين واقع عاشوه في القرى وتحت الخيمة وبين أشجار الزيتون ومحاصيل القمح ووراء الماشية وعلى ظهر الجمل وبين وهم زائف يحاولون تلفيقه لهم ورسمه في مخيلة أبنائهم وشما باهتا دميما.

غياب رقابة الآباء وتملص الأمهات من مسؤولياتهم تجاه أطفالهم، وإلقاء مسؤولية تربيتهم وتنشئتهم على عاتق الخادمة والمربية والمدرسة والحارة والقنوات الفضائية، وجهلهن بحيوية الدور الرئيسي الذي تلعبه الأم في إرضاع أطفالها معاني الانتماء والالتزام، وفي تكوين تركيبتهم الفكرية والنفسية وتشكيل سلوكاتهم واتجاهاتهم، هو طامة كبرى تهوي بثقل وفداحة عواقبها الوخيمة على مجتمعنا ووطننا ومستقبل أبنائنا، ولنتذكر قول الأديب الفيلسوف جبرار خليل جبران: "وجه أمي هو وجه أمتي".