تهمة غريبة
بقلم/ محمد مصطفى العمراني
نشر منذ: سنة و 6 أشهر
الإثنين 05 يونيو-حزيران 2023 07:26 م
 

منذ نقلي للتدريس في هذه القرية النائية وأنا أترحم على أيامي في المدينة حيث الخدمات قريبة وميسورة . أظل أغلب الوقت وحيداً في سكن المدرسين ، وحين احتاج إلى بعض المواد الغذائية أذهب إلى البقالة التي في القرية الأخرى ، تبدو قريبة لكن حين أذهب إليها اكتشف أن المسافة أبعد مما تصورت .!

أمام البقالة يلهو بعض الأطفال ما إن رأوني حتى توقفوا عن اللعب ، سلمت عليهم فردوا علي باحترام ، قبيل انصرافي أثارني أحد الأطفال ، يقفز بشكل غريب ، قلت مازحاً :

ـ يا ولد اهدأ ؛ البطاريات ستخلص عليك .! ضحك الأطفال منه فيما توقف الولد عن اللعب . شعرت بالندم لأني جعلتهم يسخرون منه .

الساعة الـ 11 ليلاً حين بدأت رحلة نومي ، لكن الطرقات العنيفة على باب السكن جعلتني أنهض مذعوراً ، فتحت الباب :

ـ أنت الأستاذ ؟ ـ نعم ، خيراً ؟ صمتوا جميعا .! قال أحدهم : ـ كلمه يا أحمد ـ يكلمني عن ماذا ؟

! ـ بصراحة ابنه مريض ، مريض جداً .

قاطعته : ـ ربنا يشفيه ، ماذا سأقدم له أكثر من الدعاء ؟! وأضفت : ـ أنا المدرس ولست الطبيب ، اسعفوه إلى الوحدة الصحية ، تحركوا . عادوا للصمت من جديد .!

صمتهم الغامض أقلقني ، يبدو أنهم يريدون مني نقودا وليس بحوزتي ما يكفي لأقرضهم . ـ بصراحة يا أستاذ أنت قلت على ابنه كلمة ربما ....

. قلت وقد كاد صبري ينفذ :

ـ ربما ماذا ؟! ـ أصبته بعين ـ هاااه قصدكم الولد الذي قلت له : اهدأ ستخلص عليك البطاريات ؟

ـ نعم هو ابنه ـ تقصدون أنه قد مرض بسببي ؟!

ـ ربما أصبته بالعين من حيث لا تقصد ـ لا لا اطمئنوا ، أنا ما قد أصب بعيني أي مخلوق . وعادوا للصمت .! ـ ستأتي معنا .

فوجئت بقرارهم .

! ـ أذهب معكم إلى أين ؟

هل جننتم ؟! أغلقت الباب في وجوههم وعدت للداخل وقد غلى الدم في عروقي ، مشكلتي أنني غريب في هذه القرية وليس معي أحد ؛ وإلا لن أسمح لهم بإهانتي .

عادوا لطرق الباب من جديد . ناداني والد الطفل : ـ يا أستاذ أرجوك هذا ابني الوحيد ، هذه مسألة حياة أو موت وأنا أب أرجوك . وبدافع من الشفقة والرحمة لبست ثيابي ومضيت معهم ، القمر يرسل أشعته الذهبية والطريق تطول ، وأنا غارق في ذهولي وغير مصدق ما يحدث لي ، كأنني في كابوس .! لقد جرحوا كرامتي بهذه التهمة الظالمة لكنني أذهب معهم لأثبت لهم أنني بريء. حين وصلنا كان العشرات من رجال القرية قد تجمهروا أمام منزل والد الطفل ، سلمت عليهم قائلاً

: ـ يا ناس أنا ضيف في بلادكم ، وقبل أن أمزح على الولد بتلك الكلمة قلت : ما شاء الله وصليت على النبي ، العين حق لكن لست أنا من يصيب بالعين . وأضفت

: ـ الولد ربما أصيب بنزلة برد ، أو بضربة شمس ، أو حمى ، عالجوه في الوحدة الصحية . شعروا بالحرج لكنهم ظلوا على صمتهم . فوجئت بوالد الطفل يقبل رأسي ويدي وهو يبكي قائلاً : ـ أرجوك توضأ في هذا السطل لنقطع الشك باليقين .

توضأت في السطل الكبير الذي جاؤوا به . كانوا جميعا يشاهدوني ، وجوه أخرى كانت تراقب بصمت من نوافذ منازل القرية ، كنت كمتهم يساق إلى الإعدام .!

غادرتهم وأنا غارق في ذهولي وحزني ، أتعثر بالحجارة والأشجار ولا أكاد أرى الطريق ، تمنيت أنني ما قدمت إلى هذه القرية ، لقد جرحوا كرامتي وأهانوني بتلك التهمة الظالمة ، كان يمكن أن يمضي كل شيء بهدوء وسرية تامة لكن تجمهرهم حولي وأنا أتوضأ ذبحني تماماً . لم أنم تلك الليلة من القهر ، أكاد أتميز من الغيظ ، أذرع الغرفة وأدور حول نفسي وأفكر : ـ سأحزم حقيبتي وأرحل .

ـ سأطلب نقلي إلى قرية أخرى . ـ لن أعود إلى هذه القرية المتخلفة ـ لا يجب أن أبقى وأثبت براءتي

ـ إذا غادرت سأثبت التهمة على نفسي بقيت لساعات في صراع مرير مع نفسي ، وقبيل الفجر قررت البقاء والمواجهة . سأعمل بشتى الطريق على رد الاعتبار لكرامتي وإثبات جهلهم وفساد تفكيرهم . المدرسون من أبناء المنطقة جاؤوا في الصباح يعتذرون لي عما حدث ، اقترحوا علي الذهاب برفقتهم إلى الشيخ وطرح الموضوع عليه لينصفني . رفضت وقررت اتخاذ خطوة أخرى .

علمت من الأطفال أن ذلك الولد لم يتعاف وأن مرضه قد أشتد . أستأجرنا سيارة وذهبنا إلى منزل الولد وقمنا بإسعافه إلى الوحدة الصحية .

بعد الفحوصات الطبية تبين أن لديه أميبيا حادة والتهابات في الأمعاء ، صرف الطبيب له العلاج ، أخذت العلاج واتفقنا مع والد الطفل أن أذهب كل يوم إليهم لأعطيه العلاج بنفسي . علاج الطفل صار قضية شرف وكرامة بالنسبة لي . بعد عشرة أيام تعافى الطفل . ذهبنا إلى الشيخ ، كان قد علم بما حدث وقرر أن يأتي بنفسه مع والد الطفل إلى المدرسة في وفد كبير ليعتذروا لي ، وهو ما حدث .

انتهت القصة لكني لن أنساها ما حييت . بعد أشهر فوجئت بطبيب الوحدة الصحية يطرق بابي ، زيارة غريبة لم أتوقعها ، لكني لم اسأله عن السبب .

ظل يزورني بشكل دائم ويلح علي بأن أزوره . ذهبت إليه في الوحدة الصحية ، تناولنا الغداء وشربنا الشاي وبقينا نتحدث ، وقبيل المغرب طلب مني الخروج لنتمشى قليلا ، بدأ يشكو لي من قلة عدد المرضى الذين يأتون إليه بعد أن فتح أحد الأطباء عيادة منافسة حيث يعالج المرضى برسوم رمزية جدا . أشار إلى عيادته ، الناس يدخلون إليها ويخرجون ، كانت مزدحمة كأنها خلية نحل .! أشار مجددا إلى تلك العيادة قائلاً : ـ أريد منك يا أستاذ التعليق المناسب على العيادة .

لم أفهم قصده في البداية . ولما رآني غارقا في الصمت ارتبك ثم تنحنح ثم قال

: ـ اشدخه بكلمتين يا أستاذ ـ كيف اشدخه بكلمتين ؟! ـ خارجنا من عيادته هيا وأضاف

: ـ اسكع عيادته كلمتين لعل وعسى لقد صدمني حين أراد مني أن أصيب عيادة منافسه الطبيب بالعين .! غادرته وأنا غير مصدق ما يحدث .!