كفى عبثاً بنفسيات أبنائنا
بقلم/ حسن صالح الحريري
نشر منذ: 12 سنة و 8 أشهر و 28 يوماً
الثلاثاء 13 مارس - آذار 2012 05:13 م

قد يقبل المرء على مضض تقصير المدارس عن القيام بمهامها التربوية والتعليمية بسبب عوامل عدة ذاتية وموضوعية, على أمل استكمال النقص في قادم الأيام, لكن أن تتحول المدارس إلى أماكن لصناعة العقد النفسية وتدمير المواهب والقدرات, وزرع عوامل نفور الطلاب من المدرسة بل ومن العلم بكل صوره وأشكاله فذلك مرفوض تماماً وغير مقبول . ومما يبعث على الحسرة والألم أن بعض الإدارات المدرسية والمعلمين هم من يقوم بهذا الهدم بحسن نية من حيث أرادوا الإصلاح. يتم هذا في مدارسنا بسبب الجهل المطبق بمنظومة العملية التربوية السائدة في بلادنا حالياً, والتي تبدأ من فلسفة التربية وتنتهي بتفاصيل العملية التربوية المتعلقة بالأهداف, والمحتوى, والأنشطة والوسائل, والتقويم, والطلاب ,والمعلمين والبناء المدرسي, والأثاث ...الخ

إن التربية الحديثة السائدة في نظامنا التعليمي تنطلق من الاعتراف بكرامة الإنسان وقيمته وقدراته قال الله تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم" وتؤمن بتنمية الإنسان تنميةً شاملة بما يمكنه من القيام بواجب الاستخلاف في الأرض وتعميرها, وتستجيب لمتطلبات النهوض الحضاري الذي لن يتم إلا بجهود كل أفراد المجتمع, وتعترف بتنوع قدرات الناس وتخصصاتهم على أن لكل إنسان سليم مشروعاً فريداً سيخدم به الإنسانية إذا ما تم اكتشافه وتنميته وتوجيهه .وتنسجم التربية الحديثة إلى حد كبير جداً مع التربية الإسلامية فيما يتعلق بشمولية تربية الإنسان عقلاً وروحاً وجسداً, والاهتمام بكل أفراد المجتمع , ويتجلى ذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم نذكر منها قوله: "طلب العلم فريضة على كل مسلم " , " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير", " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" , "كل ميسر لما خلق له ". وقد أشاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالصحابة وفق تنوع تخصصاتهم فقال: "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ" , " أفرضكم زيد" , ولقب النبي خالداً بسيف الله المسلول, وجعل حذيفة أمينا للسر.

في ظل الجهل , والاستخفاف بقيمة الإنسان فإن أبنائنا الطلاب وفي سن مبكرة يتعرضون بين الحين والآخر لعملية هدم ممنهجة, ليس من قبل عصابات الإجرام أو صناع الغزو الفكري, ولكن من قبل بعض المعلمين, وعلى مقاعد الدراسة من خلال تعاطي هؤلاء المعلمين الأعمى مع مفردات التربية والتعليم, واستخدام بعض الأساليب التربوية القاسية التي لاتنتمي بأي صلة إلى التربية الحديثة بل هي موروثة شعبياً من أزمنة غابرة, ومن فلسفات تربوية قديمة ثبت فشلها وعجزها عن تنمية الإنسان, والنهوض بالمجتمع. ومن نتائج تلك الفلسفات التربوية النكدة تخريج قلة من الحكماء لتوزيع الحكمة في قوالب نظرية مقابل عدد هائل من الأميين الذين لامكان لهم في الحياة وفقاً للفلسفات التربوية القديمة إلا في المناجم, ومصانع الحديد والصلب وورش اللحام والحدادة والسباكة, والأعمال العضلية الشاقة.

إن أزمة التعليم اليوم تكمن في ثنائية الفكر التربوي السائد في المدارس أي في وجود مناهج حديثة تنفذ بأساليب ووسائل وأنشطة وطرائق قديمة. ومن هذه الأنشطة احتفالات تكريم( بعض الطلاب) ولا أقول أوائل الطلاب. ولهذه الأنشطة أضرار كبيرة على نفسيات الطلاب وبالتالي على تحصيلهم الدراسي. نذكر منها ما يلي :

 - تؤدي إلى إرباك منظومة العملية التربوية والتعليمية المرسومة وفق التربية الحديثة ويتمثل هذا الإرباك في إحلال التنافس غير الشريف بدلاً عن التعاون كاتجاه حديث وإيجابي في التربية, و تمزيق الروابط الاجتماعية بين الطلاب لتحل الوحشة والعزلة بدلاً عن تمتين هذه الروابط , كما تؤدي إلى جلد النفس, ومعاقبة الطلاب بدون ذنب. وبتراكم هذه العوامل وغيرها يتدنى التحصيل الدراسي للطلاب, و غالباً لأسباب نفسية ليأتي بعده التسرب وترك الدراسة نهائيا

- هذه الاحتفالات مبنية على تقويم المجال المعرفي فقط وإهمال المجالات الوجدانية والمهارية. وهذا يعني إغفال تام للطلاب المتفوقين في هذين المجالين.

- تشكل حكماً مسبقاً وقاسياً على قدرات الطلاب وهم لازالوا في سن النضج من خلال استخدام أدوات قياس وتقويم مبنية على أسس غير علمية ومفتقدة لأدنى معايير الضبط مما يجعلها غير صالحة حتى لقياس أوزان الطماطم فضلاً عن قياس القدرات البشرية والسلوك الإنساني المعقد جداً.

وبنظرة سطحية يشيد البعض باحتفالات تكريم الطلاب لما تحدثه من تفاعل الآباء في متابعة التحصيل العلمي لأبنائهم, لكن الحقيقة المرّة هي أن هذا التفاعل لم يلبث أن يتحول إلى عدم, وخيبة أمل حينما لم تفلح الجهود الهائلة جداً وتكاليف الدروس الخصوصية في دفع الطلاب متوسطي الذكاء إلى تحقيق المراكز الأولى. ولقد تأكدنا بأن جهود بعض الأسر ليست مرتبطة بالجانب العلمي بقدر ماهو محاولة لتجنيب أبنائهم الصدمة النفسية.

إنني أرى بأن هذه البدع التربوية (احتفالات التكريم) ماهي إلا محطات مظلمة تنتعش فيها الأفكار السطحية, أو هي ميادين يمارس فيها قتلة المواهب هوايتهم المفضلة , أو هي مآتم يشيّع فيها المجتمع أبنائه خارج أسوار المدرسة. ولهذا يجب أن نهتف جميعاً وبصوت واحد : " أيها المعلمون كفوا عن هذه المهازل , واستبدلوها بأداء أفضل للدروس العلمية داخل الصفوف الدراسية " .