الحرّة في عيدها الخامس ..
بقلم/ متابعات
نشر منذ: 15 سنة و 9 أشهر و 5 أيام
الإثنين 23 فبراير-شباط 2009 06:34 م

عند نهاية كل حلقة من برنامج «داخل واشنطن» على «الحرة»، يختفي شريط الترجمة ويستدير المقدّم ليواجه كادر الكاميرا، ناظراً إلى المتفرّج العربي في عينه مباشرةً، ثم يتحدث فجأة بلغة عربية مكسّرة، قائلاً «أنا روبرت ساتلوف، إذا كانت لديكم ملاحظات على الوضع الاقتصادي في بلدكم، فاكتبوا إليّ على العنوان الإلكتروني التالي...».

 قطعاً لو كان لدى «الدكتور ساتلوف» ناصح أمين، لأخبره أنّ عباراته المنطوقة بالعربية الركيكة، لا ينقصها سوى كلمة «يا خبيبي» (بالخاء)، حتى تتطابق مع معظم مشاهد أفلام الجاسوسية في السينما المصرية، وخصوصاً أنّ سؤاله عن «بلدكم» لا ينحصر في الوضع الاقتصادي، بل يتنوّع بقدر عدد الحلقات. وإذا أضفنا إلى ذلك، أنّ مقدم البرنامج هو ذاته مدير «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، يتبدّى لنا مثال نموذجيّ للأسباب التي لم تجعل المشاهد العربي «يطمئن» إلى «الحرة» التي بدأت البث في 14 شباط (فبراير) 2004، لكنّ السنوات الخمس التي اكتملت هذا الشهر، لم تحصد ما يدفع القناة إلى الاحتفال بالمناسبة.

على مدى سنوات بثها، لم تزد نسبة مشاهدة «الحرة» يوماً عن 3 في المئة تنخفض خلال الأزمات الكبرى في المنطقة. من بين أسباب عديدة تفسّر ذلك، يبدو أنّ أحدها يتركز على تقويم القناة لصورة متلقّيها ونوعيّته. تكفي نظرة إلى موقع القناة على الإنترنت لتبيان ذلك. هو موقع لا يقلّ جاذبية عن موقعَي «العربية» و«الجزيرة». ويتفوّق عليهما بصرياً وجماليّاً، لكنّ القناتين العربيّتين تتيحان ــ مثلاً ــ أرشيف برامجهما مفرغاً نصياً في وقت يضطر فيه مستخدم موقع «الحرة» إلى استعراض الحلقات على ملفات فيديو.

 تُرى كم عربياً لديه إنترنت سريع بما يكفي لاستعراض ساعة فيديو online ؟ هل فكر القائمون على الموقع/ القناة في ذلك؟ يصعب تخيّل أنّ القناة التي ارتفعت ميزانيتها من 79 مليون دولار أميركي إلى 112 مليوناً لا تمتلك موظفين لتفريغ حلقاتها، ذلك التفريغ الذي كان سيضيف حوارات القناة إلى المادة العربية على الشبكة، لكنّ أغلب الظن أنّ المحطة لا تراهن على «القارئ» العربي، بل على المشاهد الذي يريد أن يرى ألواناً زاهية، وإيقاعاً سريعاً (هناك برنامج «هاي سبيد» مخصص فقط لوسائط النقل السريعة)، عروض أزياء، برامج تكنولوجية... سياسة؟ السياسة هنا تتلخّص ـــ من جهة ـــ في قضايا الأقليات وأوضاع المرأة، ثم من جهة أخرى هي تبرير السياسات الأميركية في المنطقة، ما يكسو الجهتين لوناً واحداً، يُضرّ بمفاهيم الليبرالية وشعاراتها، لتُحسب على القاموس الأميركي في صورته المهيمنة.

لم تنجح المحطة في أن تنفي صورة المعالجة «اللايت» عن قضايا معقّدة اجتماعياً، وهي تصف نفسها على أي حال بأنّها مهتمة بتقديم «برامج منوّعة تشمل الحوارات والمواضيع الحياتية والصحة واللياقة البدنية والمنوّعات والرياضة والموضة والعلوم والتكنولوجيا»، وذلك إضافةً إلى الخدمة الإخبارية طبعاً. لكنّ ضيوف برامج المحطّة حُصروا في نماذج شديدة الخلافية، ومثيرون للجدل إلى درجة تمنعهم من أن يكونوا معبّرين عن ظواهر.

 أما برامجها الجيدة ومنها ـــ ربّما أهمها ـــ «قريب جداً» لجوزيف عيساوي، فلم تنجُ أحياناً من فخّ السياسة العامة للمحطة. إذا استضاف أحد تلك البرامج مُخرجاً سينمائياً مسيحيّاً، ينصب التركيز على مسيحيته في مجتمع مسلم. ولو كان الضيف شاعرة عربية، فشعريتها هي آخر ما يهتم به المُحاور، بل الأهم هو إحباطاتها الجنسوية! ما جعل مفاهيم الاختلاف وإثارة المسكوت عنه تتحوّل على شاشة المحطّة من هموم إلى سلع، فليس غريباً أن يرسم ذلك صورة للمحطة تجعلها أقرب إلى جمعية حقوقية تبحث عن تمويل غربي! أو روائي عربي يبحث عن ترجمة أعماله.

لكنّ المحطة التي تحدث مسؤولوها مراراً عن استقلاليتهم المهنية، وعدم خضوعهم لتوجيهات سياسيّة مباشرة من الإدارة الأميركية، لم تعترف يوماً بتأثير سياسات تلك الإدارة على نسب المشاهدة. تلك النسب التي تبدو كموج بحري يتمدّد حتى تقع أزمة فلسطينية أو لبنانية فينحسر من جديد، لأنّ القناة ـــ المستقلة المملوكة للشعب الأميركي من خلال الكونغرس ـ تجد نفسها في موقع المبرر لا للممارسات الأميركية فحسب، بل لنظيرتها الإسرائيلية أيضاً. إنّ «موضوعية» المحطة تبدو خلال تلك الأزمات بالغة الاستفزاز، تماماً كما كان ــ ولا يزال ــ مستفزاً أن تختار القناة لنفسها موجة البث نفسها التي كانت مخصّصة للفضائية العراقية. تراهن المحطة على أنّ العربي ينسى، وهو بالفعل يحاول كثيراً أن ينسى، لكنّ أميركا لا تترك له الفرصة، تُرى هل تتأثر المحطة بحديث «أوباما» عن التغيير؟ أم أن التغيير لا يليق بصحراء العرب؟

استقلال أم ارتهان؟

عُرفت «الحرة» بوصفها الجناح الإعلامي للغزو العسكري الأميركي الذي انتهى باحتلال العراق 2003، وقد وُضعت بذرة تأسيس المحطة منذ ذلك التاريخ لكن إطلاقها تأخر عاماً واعتُبرت جزءاً من مشروع «الشرق الأوسط الجديد». أما على المستوى الإداري الرسمي، فالمحطة تُدار من «شبكة الشرق الأوسط للإرسال» التي يموّلها الشعب الأميركي عبر الكونغرس وتتلقّى هذا التمويل بواسطة «مجلس أمناء الإذاعات الدولية» وهي وكالة فدرالية مستقلة تعنى بحماية الاستقلال المهني ونزاهة الإعلام.

* الوطن - محمد خير