قصة تساقط حلفاء الرئيس الواحد تلو الآخر..
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 17 سنة
الإثنين 10 ديسمبر-كانون الأول 2007 06:55 ص

عندما تسلم الرئيس علي عبد الله صالح الحكم في 1978، كان متقد الذكاء، ويتحلى بروح المغامرة. كان ذكياً أكثر منه قوياً. عامئذ، لم يكن الذكاء (الغريزي) وحده كافٍ كي تستتب مقاليد الأمور لشخص لامست فكرة الزعامة شغاف قلبه.

وإذ بدت الأجواء السياسية على قدر عالٍ من التعقيد، كان على المقدم، الذي يتكئ إلى قدرات شخصية جيدة (بمعايير تلك الحقبة)، أن يستمد القوة من أصحابها الحصريين.

فمن أول وهلة، باشر الرجل –بديناميكية- عقد أحلاف مقدسة مع أكثر القوى تقليدية وفتكاً: القبائل. هذا فيما خص الداخل، أما في المحيط الإقليمي فقد منحته قوة تقليدية أخرى، إشارة العبور إلى رأس الهرم: السعودية. ووفقاً للشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، فإن الأخيرة كانت راغبة بشدة في تولي صالح الحكم، رغم أن الشيخ نفسه لم يكن راضياً عنه تماماً، مع بضعة مشايخ آخرين.

ففي مذكراته، أفصح (الرجل الأكثر نفوذاً وحسماً آنذاك) عن استدعاء السعودية له قبل البت في رئاسة صالح، وأنه لم يفعل ذلك (دعم صالح) إلا انصياعاً لرغبة ملحاحة من قبل المملكة.

فوق ذلك، وطد صالح علاقته مع قوة أخرى نابضة بالحياة، بيد أنها لم تكن من التأثير بحيث يمكن الارتياب منها، (كالناصريين، أو اليساريين): الإخوان المسلمين. لاحقاً عمد إلى تسوية علاقته برموز المذهب الزيدي الذي ينتمي إليه (مناطقياً).

 على هذا المنوال، كان يستخدم ذكاءه في تطويع هذه القوى. وأخذت تحالفات صالح تنمو ويشتد عودها يوماً عن يوم.

بذات اللياقة الخصبة، انتهى عقد الثمانينيات. صالح يقتبس شروط القوة من أصحابها ويطوعها لنفسه فيزداد نجمه سطوعاً، وهكذا دواليك.

كان متخماً بالحلفاء الأقوياء. هو لم يكن سوى ذكي ومحنك، لا أكثر.

كانت القوة هي الزاد الحقيقي للبقاء أطول وقت ممكن، وهو لم يتوان عن طلبها متى ما يقتضي الحال. لقد كانت أحلاف متينة، لكنها لم تكن مصيرية.

في 1990 دخل خارطة الأحلاف كائن ضخم، مفتول العضلات (الحزب الاشتراكي اليمني). في الواقع، لم يكن حليفاً وفق التقاليد السياسية، وكانت فرص تطويعه غير مواتية بالمرة. إنه عملاق، وشريك سياسي ناضج، لا يسع أحداً تخطيه. وصالح لا يقبل أن يكون له ند مهما كلف الأمر.

قبل أن تندلع عاصفة 94، بدأ صالح يستنفر احتياطي قوته (الحلفاء)، قبل أن يستدعي الذكي الذي كانه يوماً.

في معركة القوة والذكاء، داخل أي ديكتاتور، دائماً النصر حليف القوة، في نهاية الأمر.

تصارع الندان القويان في صيف 94، فأحرز صالح نصراً مدوياً.

 عملياً، أسدلت تلك الحرب الستار على صيف خصب ومديد أسدى لصالح أسباب الفتوة والعنفوان، ودخل الفريق الذي أصبح، خريفاً طويلاً.

هل أغفلنا قوة أخرى، ليست حليفاً وليست نداً، لكنها تعد المحضن الدافئ، الذي ما انفك يمنح صالح الشعور بالطمأنينة كلما داهمه قلق؟!.

إنها الجيش؛ وهي البنية الأساسية التي أطل برأسه من بين صفوفها على حين غرة. هذه القوة، رغم أنها أداة عنف حديثة، إلا أن الرجل أعاد صياغتها بما يتواءم مع شراهته الجامحة في البقاء على كرسي الحكم دون منغصات (وزع أقاربه على أبرز مفاصل مؤسسة الجيش).

بالنسبة للرئيس علي عبد الله صالح، الحليف القوي هو خصم قبل أي شيء آخر. وبالتالي، يجب الفتك به متى ما كانت الفرص سانحة بشكل وافٍ.

بعد النصر الذي أحرزته أحلاف سياسية واجتماعية على الند الشرس (الحزب الاشتراكي)، أخذت تتشكل معادلات سياسية مغايرة.

غدا الرئيس واهب القوة، بدلاً من كونه "ذكياً يتقن تطويع القوى لتصب في خدمة حكمه". وراح، رويداً رويداً، يزيح عن كاهله التزامات رتبتها تحالفات وتشاركات 17 عاماً من الحكم. لقد نفض عن نفسه وعثاء 17 عاماً من الذكاء (الغريزي).

لم يستكن الرئيس لقوة ليس هو مصدرها. وفيما كان شركاء الحرب/النصر يتأهبون لقطف الثمار، بدأ الرجل يقطف –منفرداً- ما يطيب له. لم يعد ثمة من يستأذنه، أو يشاطره النشوة. لقد نحى الذكاء جانباً وآمن إيماناً مطلقاً بمنطق القوة.

وإن كان يخال أن ذلك المسلك هو الضامن الحقيقي والوحيد للانطلاق بخفة عالية، فقد نسي أن الخريف هو خفة واضمحلال وتحلل. وفي الميثيولوجيا يعتبر الخريف رمز للانهدام ببطء.

بالفعل، كان صالح يفتش عن الخفة المفقودة. حيث أخذ ينقض عرى تحالفاته الواحدة تلو الأخرى.

فعلاقته الوطيدة بالإخوان المسلمين بدأت عقب صيف 94، تذوي حتى انفرطت نهائياً بعد 11 سبتمبر 2001.

بعد أن كف الإصلاح عن كونه الشريك الذي ما فتئ الرئيس يفزع إليه عند كل ارتجاج سياسي، ليعيد الأمور إلى نصابها، لم ينتقل إلى مربع القوة المحايدة الصاعدة فحسب، بل إلى مربع الخصم الذي يجب كبح جماحه. هكذا إذاً بكل هذه البساطة والخفة تفترق المصائر، وتتبدل المسارات. فما ينبغي للحلفاء هو أن يكونوا كذلك على الدوام، وإلا فهم مجرد قوى معادية (ومارقة).

بالطريقة نفسها، سقط حليف آخر: قوى المذهب الزيدي. فعندما رفضوا، نهاية القرن الماضي، الإذعان لمطالب معينة أملاها الرئيس، وقع الطرفان في فخ حرب ضروس لم تُفضِ إلى شيء حتى اللحظة.

يعتقد المراقبون أن الاحتجاجات التي تتنامى بشكل مطرد في الجنوب، كان وقعها سيكون أقل وطأة لو أن الرئيس لم يكن بالخفة التي بات عليها الآن. لكنه الخريف. ففي الخريف يتساقط كل شيء على مهل حتى الأنظمة.

معلوم أن الديكتاتور لا يستطيع أن يشكل ثنائياً مع أحد (على غرار بوش تشيني، غل اردوغان، بلير براون).

ورغم أن الرئيس صالح "ليس ديكتاتوراً كاملاً" حسب وصف مستشاره سالم صالح محمد، إلا أن الرجل طيلة حكمه لم يشأن أن يقترن اسمه بأيٍ كان.

وعلى الجملة، فالمشير الذي أمضى 30 عاماً في سدة الحكم، عدا كرسي الرئاسة، لم يبن علاقات مصيرية (استراتيجية) مع أي طرف قط.

إن صالح، وهو الذي اعتاد أن يأخذ من الشركاء [في الداخل] أكثر مما يعطي، بدأ احتياطي حلفائه في النضوب يوماً عن يوم. لقد استنزفهم (قوى وشخصيات)، كلياً (ليس آخرهم الشيخ عبد الله وأنجاله، بوصفه الحليف الأكبر). لكن على النقيض من ذلك، يبدو أن الرجل حليف جيد لقوى الخارج [إقليمية ودولية]، ذلك أنه يغدق عليها كثيراً حتى بات عنصراً غير مفيد بالنسبة لبعضها. أجزل لهم العطاء حتى نضب.

والسؤال هو: متى ستنفرط علاقته بكرسي الحكم؟.. الأكيد، عندما يزداد خفة!!

* صحيفة المصدر