صورة العلماء والدعاة في الدراما العربية
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: سنة و شهرين و يوم واحد
الجمعة 29 سبتمبر-أيلول 2023 07:19 م
 

في سياق القول بعظم تأثيرها على الجماهير، تلعب الدراما دورا بارزا في تشكيل الصورة الذهنية تجاه علماء الشريعة ودعاتها، سواء في الأعمال السينمائية أو التلفزيونية أو المسرحية. تجاوزا للتوطئة والمقدمات، نستطيع القول بوضوح، ومن خلال استقراء مسار الدراما العربية على مدى عقود، أن الأعمال التي أنصفت الشخصية الإسلامية المتمثلة في العلماء والدعاة، تكاد تكون نادرة، بينما في معظم الوقت تقدمهم بأنماط وقوالب سيئة، تثير السخط والحنق والتهكم لدى الجماهير.

ستجد أن العالم أو الداعية في معظم الأعمال الدرامية، منافق يبيع الفتاوى بالمال والجاه، ويتزلف لأصحاب الغلبة، أو تجده منحرفا يدعي التديّن، وأحيانا تجده متقوقعا في محرابه، عازفا عن التعاطي مع شؤون الحياة، ولا يملك أن يقدم حلولا عملية للناس، أو هو درويش لا همّ له سوى حضور الموالد وحلقات المديح، أو تجده متطرفا مجانبا لوسطية الإسلام، أو نحو ذلك من الأنماط والقوالب السلبية.

ومع أن الدراما تنقل حقيقة ما عليه بعض المنتسبين للعلم، إلا أن الدراما تعمم هذه النماذج، وتجعلها الحال الثابت أو الغالب. ثمة أسباب وعوامل ودوافع من وراء تصوير الدراما العربية شخصية العلماء والدعاة على هذا النحو، نستعرض هنا أبرزها: العامل الأول: هيمنة العلمانيين والتغريبيين على الدراما العربية فشئنا أم أبينا لا نستطيع إنكار هذه الحقيقة، والتي هي فرع عن تغلغل هذا التيار في المجتمع العربي، وهو الذي يسعى لفرض النموذج الغربي المتمرد على الدين، دون مراعاة للفارق الجوهري بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية من حيث الهوية الثقافية الجامعة والنظرة إلى ما يطلق عليهم رجال الدين، فمجتمعاتنا ذات الهوية الإسلامية لا تعرف الكهنوتية والحكم الثيوقراطي الذي عاشته أوربا وأدى إلى ثورتها على الدين.

الفن بصفة عامة، والدراما بصفة خاصة، من أبرز المجالات التي سيطر عليها هذا التيار، الذي يسعى لإقصاء وتقليص المنهج الإسلامي، وبالتالي تحييد المعبرين عنه. ويتأكد هذا الدور، إذا ما تلاقت أفكار هذا التيار مع توجهات السلطة، فحينها ينحاز لها؛ وهناك عدة نظريات تخضع لها العلاقة بين السلطة وبين الإعلام بصفة عامة (فرع عنه الدراما)، وهي:

1- نظرية السلطة أو النظرية السلطوية:

ومصدرها فلسفة السلطة المطلقة للحاكم أو لحكومته أو لهما معا، وتكون مهمة الإعلام في ظل تلك النظرية هي حماية وتوطيد سياسة الحكومة القابضة على زمام الأمور؛ وتركز فلسفة هذه النظرية على أن الدولة تحل محل الفرد، ويجب على وسائل الإعلام أن تخدم سياسات الحكومة وتعبر عنها وتروج لها.

2- نظرية الحرية أو النظرية الليبرالية: وتقوم على مبادئ هي على النقيض تماما من نظرية السلطة، حيث يتحرر الإعلام من سيطرة الحكومة، ويقوم على حرية الفكر والتعددية والنقد، كما هو الحال في الإعلام الأمريكي.

3- نظرية المسؤولية الاجتماعية: حيث يجب أن تنفذ وسائل الإعلام التزامات معينة تجاه المجتمع، وتجنب كل ما يؤدي إلى الجريمة والفوضى الاجتماعية، وتعكس تنوع وتعدد الآراء، وقد حققت هذه النظرية بعض النتائج الإيجابية في السويد بصفة خاصة. وإضافة إلى ما سبق فإن هناك أيضا النظرية الشيوعية، ونظرية المسؤولية العالمية والدولية، بجانب النظرية التنموية، ونظرية المشاركة الديموقراطية.

إلا أن النظرية الأولى (السلطوية) هي السائدة في المجتمع العربي، فوسائل الإعلام غالبا تعبر عن حكومة الدولة التابعة لها، وتروج لسياساتها. لذا لا تخرج الأعمال الدرامية في الوطن العربي عن مراقبة الحكومات، فتمنع ما يراه متعارضا مع توجهاتها وسياساتها.

العامل الثاني:

النماذج السلبية للعلماء والدعاة في المجتمع فلا يخلو قطاع من قطاعات المجتمع من نماذج سلبية ومنهم العلماء والدعاة، فهناك بالفعل العالم المتزلف للسلطان والبائع دينه بعرض من الدنيا قليل، وهناك ذو الوجهين، الذي يدعو الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أبعد ما يكون عنهما، وهناك التكفيري الذي يوزع على الناس تهم الكفر بمجرد وقوعهم في المعاصي، وهناك الغليظ الفظ المنفر بطباعه وهيئته.

غير أن الدراما العربية قد استغلت تلك العينات والنماذج وسلكت عدة مسالك خاطئة في عرضها: الأول: اتباعها منطق التعميم، فصورت العلماء والدعاة على هذا النحو السلبي، وكأن هذا هو الأصل في تلك الفئات والشرائح.

الثاني:

أنها لم تطرح تلك النماذج كمشكلة مجتمعية، تحتاج إلى دراسة وتحليل وسبل مواجهة، وإنما كل تركيزها ينصب على الانتقاص من قدر هذه الشخصيات، واستثارة مشاعر السخط والسخرية والكراهية إزاءها.

الثالث:

المبالغة، فهي لا تبرز السوء بحجمه الطبيعي الواقعي، وإنما تتعداه إلى حد اختلاق الأكاذيب التي تثير الاشمئزاز.

العامل الثالث: غياب الفن الهادف عن الساحة فالدراما يسيطر عليها اتجاه واحد، ينفرد بتوجيه الرأي العام نحو الشخصية الإسلامية عن طريق تلك الوسيلة الفعالة في التأثير وخلق الانطباعات الذهنية؛ وبرغم وجود محاولات سابقة على الطريق، فإنها كانت لا ترقى بأي حال من الأحوال للمنافسة، بالإضافة إلى تعرضها للوأد وهي ما زالت بعد في مهدها. لقد واجه الفن الهادف مشكلات جمة، تتعلق بجبن رأس المال والعزوف عن التمويل، والتطلعات الربحية المحضة التي لا تهتم إلا بالأرباح دون استشعار المسؤولية الاجتماعية، في الوقت الذي ينشط أهل الفن الهابط المتربحون منه، ويتحركون في أريحية تامة فيما يتعلق بالتمويل واستخدام عناصر الإثارة

والإغراء ولو على حساب القيم والأخلاق. لقد وجد هذا التناول الدرامي السلبي لشخصية العلماء والدعاة طريقه إلى الجماهير، وأثّر بشكل قبيح في نفوس المتلقين، فهدم إلى حد بعيد وقار هذه الشخصية، التي من المفترض أن يكون لها دور فعال في توجيه الجماهير إلى المسار الديني والأخلاقي والوطني الصحيح، وأدت إلى تفكيك اللحمة المجتمعية، إذ إن هذه الشخصية جزء من النسيج المجتمعي، فاهتزت ثقة الناس في حمَلة الشريعة، واتخذوا قدوات لهم لا يصلحون لتلك المكانة. ونظرا لجهل كثيرين بوجوب التفرقة بين المنهج وسلوك حامليه، أدى هذا التشويه إلى استخفاف فئات من الناس ببعض الشعائر الظاهرة التي هي من التشريع الإسلامي، لارتباطها بهذه الشخصية، إضافة إلى تجرئة المتهورين على أهل العلم والدعوة تأثرا بالمواد الدرامية المتدفقة على حواس المشاهد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.