آخر الاخبار

مليشيات الحوثي تُدرج مادة دراسية طائفية في الجامعات الخاصة. اللواء سلطان العرادة: القيادة السياسية تسعى لتعزيز حضور الدولة ومؤسساتها المختلفة نائب وزير التربية يتفقد سير اختبارات الفصل الدراسي الأول بمحافظة مأرب. تقرير : فساد مدير مكتب الصناعة والتجارة بمحافظة إب.. هامور يدمر الاقتصاد المحلي ويدفع التجار نحو هاوية الإفلاس مصدر حكومي: رئاسة الوزراء ملتزمة بقرار نقل السلطة وليس لديها أي معارك جانبية او خلافات مع المستويات القيادية وزير الداخلية يحيل مدير الأحوال المدنية بعدن للتحقيق بسبب تورطه بإصدار بطائق شخصية لجنسيات اجنبية والمجلس الانتقالي يعترض إدارة العمليات العسكرية تحقق انتصارات واسعة باتجاه مدينة حماةو القوات الروسية تبدا الانسحاب المعارضة في كوريا الجنوبية تبدأ إجراءات لعزل رئيس الدولة أبعاد التقارب السعودي الإيراني على اليمن .. تقرير بريطاني يناقش أبعاد الصراع المتطور الأمم المتحدة تكشف عن عدد المليارات التي تحتاجها لدعم خطتها الإنسانية في اليمن للعام 2025

لماذا ذهب رجال قريتي إلى الحرب
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 6 سنوات و 11 شهراً و يوم واحد
الثلاثاء 02 يناير-كانون الثاني 2018 09:18 م
 

في القرية، في الجبل، كان الشعرُ هو الوسيلة الأمثل لمساءلة الطبيعة وما وراءها. أعني؛ بالنسبة لفئة صغيرة لطالما أربكتها الإجابات الكثيرة التي يقدمها الدين والذاكرة الشعبية. كان الشعرُ يحضر في القرية، النساء يعرفن أن عنترة كان عاشقاً في الجاهلية، والرجال يعرفون أن قيساً عشق امرأة في الإسلام، أما كبار السن فكانوا يقولون إن أبا نواس عشق غلاماً وجارية في زمن العباسيين. وكان أولئك الشعراء، كلهم، يعيشون معنا في القرية ولا ينهرهم أحد.

 

في الحقل، في الزراعة وفي مواسم الحصاد، كان الشعر هو الزوادة، يذكّر بالخلود والفناء معاً، وكانت هناك قصائد خاصة تُقال للثيران التي تحرث الأرض. يردد الفلاحون الأهازيج الشعرية التي تقول لهم لماذا هم، كفلاحين، باقون، ولماذا عليهم أن لا يخافوا. في الحقل فقط يسمع الفلاح، على نحو متكرر، الأشعار التي تقول له إن عليه أن يشعر بالأمن، وإن عيناً ما تحرُسه. وإذا نزل المطر أو جاء في غير موعده، إذا وقع البرد أو امتدت أيام الصقيع، كان الشعر يخرج ويعالج كل ذلك، يرفع البَرد ويدفع الصقيع ويوزع الأمطار. وإلى ما قبل وقت قصير كانت النساء تطلق على الشعر اسم "جُوفع"، وما من أحد من الرجال عرف قط ماذا تعني تلك الكلمة!

 

عندما كنت في السنوات الأولى من الابتدائية، كانت الجبال لا تزال جرداء، لا تخص أحداً. الرجال قليلون ومغتربون، والنساء معنيات بجزء صغير من الأرض. ما إن بلغت الثانوية حتى صارت الجبال تبدو في الصيف وكأنها مزرعة ذرة تسلب الأنفاس. اكتشف الناس الأرض بعد عودتهم خائبين من المدينة، المدينة في الداخل والمدينة في الدولة الخليجية.

 

شق الإنسان في قريتي الجبل مستعيناً بالشعر، وكان مسموحاً بكل أنواع الشعر، بما فيها القروي الإباحي. كان شعر القرية يفكك جسد المرأة من شفتيها إلى قدميها، ماراً بكل تضاريسها، وكان الفلاحون يكتشفون الجبل، وكان الشعر يدلهم على جسد المرأة. أخبرهم الشعر أن الأرض امرأة، وأن الجبل سبيل، وأن العالم يفنى يوماً ما إلا الفلاحون. وفي مواسم الزرع تخرج المرأة إلى الحقل، إلى الجبل، وتلتحم به فتصير جزءاً من تلك الطبيعة الأم، لم تعرف المرأة في قريتي الخوف إلا عندما توقف الرجال عن ترديد الأشعار.

 

الآن، ولم يعد هناك من كثيرين يبنون الحقول في الجبل، ولم تعد هناك من جبال صالحة لأن تصبح حقولاً، فقد مات الرجال القدامى الذين كنا نراهم ينشدون الشعر في طريقنا إلى المدرسة. ذات يوم مر أحدهم أمام طابور المدرسة، وكان صوته أجش ويدعي أنه تعلم الإنجليزية في عدن، فقال له المدير: قل شيئاً للطلبة. أمسك الرجل بالمايكرفون وقال قصيدة عن نهدي امرأة. نال تصفيقاً مخلصاً، وأثنى المعلمون على الطريقة التي ألقى بها الرجل قصيدته، وسرت عنه حكاية تقول إنه قرأ شيئاً من الشعر على ثيران الشيخ فقامت وحرثت الأرض حتى الغروب.

 

كانت قريتنا على جبل، وفي مواسم الحصاد على قصيدة. ما من شيء كان بمستطاعه أن يشرح لنا لماذا علينا أن نبتهج أمام مشهد فناء الزرع واختفاء الخضرة في مواسم الحصاد مثل الشعر. كان يقول لنا إننا سنلتقي الزرع قريباً وفي الأماكن نفسها، وإنه في المرات القادمة سيكون كثيفاً أكثر من ذي قبل، وإن ما نشهده هو معنى آخر للخلود. وفي أحيان قليلة كان الشعر يقول لنا إننا عربٌ، ولم تكن الفكرة تثير فينا شيئاً عميقاً.

 

كانت القصائد التي تتحدث عن نهدي المرأة أكثر شيوعاً من أي نوع آخر من القصائد، ولم نكن نفهم ذلك إلا عندما نذهب معاً إلى الوادي في مواسم الحصاد، وعندما يولد الأطفال في الخريف. وكان في القرية رجال كبار في السن، مثل الحاج هزاع، يحفظون أشعاراً بمقدورها هزيمة الجرادن لقد حرس الشعر القرية، من الجبل كان يأتي وحش لم يسبق أن شاهده أحد بوضوح، كنا نسميه الطاهش، كان يأتي في الليالي المقمرة، ويقف شامخاً على تلة مرتفعة لتصبح رؤيته ممكنة.

الرجال الذين عاشوا في القرية قبلنا وماتوا كانوا يصرخون عند رؤيته؛ يا باهوت. لكن الناس مع الأيام، اكتشفوا طريقة دفعته إلى الهرب؛ فقد كان الحاج هزاع يصعد على سقف منزله ويذهب ويجيء ويردد شعراً قديماً. وفي خطبة جمعة قال الحاج هزاع إنه ليس بمقدور كل الشعر هزيمة الطاهش، وإن رجلاً في قرية ما اختار قصيدة هيّجت الطاهش ودفعته إلى اقتحام القرية. توقف هزاع عن الحديث وقال وهو يشير بكلتا يديه: فلنكن حذرين يا إخوان.

 

تداوت القرية بالشعر، وكان يَطرد الحمى والأرواح ولكنه يترك المرء بعد ذلك معذباً. في السنوات الأخيرة من الثمانينيات قال رجلٌ عاد من الحجاز: "لا أرى ذلك ينفع في شيء"، ثم ظهر عهد جديد للتداوي من المس والمرض. قاوم الشعر دفاعاً عن مكانته في القرية، ثم سلك طريقاً آخر مفسحاً المجال للآيات والسور والمداوين الجدد. وقبل موته بعام أو اثنين أمسك الرجل الذي ألقى قصيدة عن النهدين بمايكرفون المدرسة وأخذ نفساً عميقاً ونظر إلينا ونحن شاخصون إليه.. ثم مضى في سبيله، ولم يقل شيئاً.

 

لم يعد أحد، هذه الأيام، يجرؤ على التغني بالقصائد التي تتحدث عن جسد المرأة، فالذين جرؤوا من قبل كانوا يفعلون ذلك وهم ذاهبون إلى الحقل. في تلك الأيام كانت المرأة زرعة وكان الرجل ريحاً وكانت القصيدة حارساً، وكان الطريق سهلاً ومرتفعاً ويؤدي دائماً إلى القرية، وعندما فتحت الدولة مستوصفاً صغيراً في القرية توعك آخر رجل كان يحفظ الأشعار، وكتم آلامه ومات. صارت القرية بلا شعر، وبعد سنوات قليلة من موت آخر رجل كان يحفظ الأشعار ذهب الرجال إلى الحرب.

 

نقلا عن مدونات الجزيرة