قفا نبك : ديكتاتورية التعليم
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 17 سنة و 10 أشهر و 12 يوماً
الثلاثاء 06 فبراير-شباط 2007 07:07 م

مأرب برس – خاص

قبل أن أكتب هذه الأسطر خطرت بخاطرتي حادثة وقعت في مطلع التسعينيات ، حيث وجدت في أحد المساجد في إحدى مدن اليمن السعيد ، حلقة علم في مسجد من مساجد اليمن العامرة ، يتداولون إعراب القرآن الكريم – فيما يبدوا كانت حلقة يومية- ومن ضمن الحلقة المباركة تلك صبي أعرفه كان يدرس في الصف السادس أو الأولى متوسطة ، يعرب آي القرآن العظيم لأستاذه ، وقد كان يحسن إعراب القرآن الكريم وكأنه بروفيسور متخصص في هذه المادة ، عجبت لهذا الحدث الكبير والهام الذي لم أستطع أن أنساه ، فكم من حملة الماجستير والدكتوراه ، والمشيخيات الذين يشار ربما إليهم بالبنان ، إلا أن أحدهم ربما يعجز عن إعراب آية من كتاب الله ، وربما لا يعلم هل اسمه اسم أو فعل أو حرف؟! ، فضلا عن غيرها من العلوم الدينية ، فضلا عن العلوم الدنيوية الهامة لحياتنا ومعاشنا على هذا الكوكب ، رغم أن شهاداتهم لا تخلو أيضاً من درجة "امتياز" في صورة واضحة لمدى الكارثة التي يعاني منها التعليم في بلادنا ، وإلى أي مستوى من التدهور وصل إليه التعليم عموماً والجامعي على وجه أخص ، حيث لا يساوي التعليم الجامعي الأكاديمي أو الدراسات العليا الشهادة الابتدائية أو التعليم المسجدي ، وهذا في أبسط العلوم وأيسرها ألا وهو علم الشريعة ، فما بالك بالتخصصات العلمية والتقنية الدقيقة .

هذه الحادثة استوقفتني كثيراً وطويلاً ، ونحن نرى ونشاهد كل يوم احتضار التعليم في البلد ، ونشاهد أطلال التعليم ومقابر المدارس والجامعات الحكومية والأهلية ولا نرى منها إلا اللهم هياكلها المتهالكة ، شأنها شأن العظام النخرة وشأنها شأن بعض القبور البالية المهملة في بلادي المعرضة للسيول والأمطار دون أن تحظى بنظرة رحمة ورأفة من وزارة الأوقاف!!.

ثمة أسئلة يجب أن يطرحها القائمون على أمور البلاد وسياستها ، إلى أين يسير التعليم في اليمن؟ ، بل إلى أين يسير اليمانيون وحكومتهم التي لم تدع شيئاً إلا شوهته وأفسدته ، حتى عقول أبنائنا وفلذات أكبادنا ؟!!، ومتى يمكن أن ندخل القرن العشرين ولو من أضيق أبوابه ، ومتى نواكب دول العالم الثالث؟!!.

زرتُ بعض الدول المجاورة وعجبت من مدير مدرسة يصرخ ويئن أنين الثكلى لأن عدد طلاب مدرسته الابتدائية بلغ الثمانين طالباً !! فقلت للمدير هه هوّن عليك يا أستاذ إن في الأمر لسعة ، فمن رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته ، في بعض الدول يا أستاذ في الفصل الواحد 150 طالباً فقط ، (ولم أسترسل في وصف ومديح هذا الفصل المبارك ومحتوياته ونوافذه..) فقال: هذه زريبة وليست مدرسة .

 ثم لا تسأل أيها الأخ الشفيق عن المعامل في مدارسنا وأجهزة الحاسب الآلي والتكييف ، والنظافة والمدرسون الأكفاء ، والمشرفون والإدارة الكفؤة ، ..الخ القائمة التي يتطلبها التعليم الاعتيادي (محو أمية القراءة والكتابة) في دول العالم الثالث .

 إن المرء ليجد نفسه تذهب حسرات على مآل التعليم في البلد ، رغم أن البرامج الانتخابية قاطبة لاسيما برامج الحزب الحاكم التزمت بنهضة علمية وتعليمية منقطعة النظير ، بيد أن التعليم لم يزدد إلا سوءاً على سوء وفساداً على فساد .

 إننا لا يمكن أن ننهض أو نتجاوز محنتنا التعليمية في البلد ، والتي أعتبر أنّ في تجاوزها تجاوزاً لكل مشكلات اليمن الحديث ، لأن التعليم هو الأساس لبناء يمن مزدهر وحضاري ، إننا ما لم نسلك جملة من الإصلاحات الحقيقية والجادة والعاجلة لجهاز التعليم فهي كارثة كبرى ستحل أو حلت باليمن وبمستقبل أبنائنا وأجيالنا القادمة ، ومن الإصلاحات التعليمية العاجلة في تقديري:

1) القضاء على مافيا الفساد المالي والإداري الذي يعشعش في كل دوائر التربية والتعليم ، إنه من غير المعقول أن مدرسة من المدارس لا يكلف بناؤها سوى 10 أو 20 مليون ريال ترصد لها عشرات الملايين ، لتعبث "هوامير" الفساد بها شذر مذر سواء في بناء المدارس أو في تأثيثها وإداراتها ، أو في تسيير العملية التعليمية ، فيما يحرم أبناؤنا من أبسط حقوقهم وهو التعليم ، ولو أحسن استغلال هذه الميزانيات الضخمة والهائلة لبنيت عشرات ومئات المدارس بكل ما تحتاجه من مرافق ومختبرات وأثاث ..الخ ، وإن الخطوة الأولى نحو الاتجاه الصحيح والسليم أن يستبدل هؤلاء "الهوامير" الفاسدة والذين لا يخفون على أحد بكوادر علمية وتعليمية متخصصة ترعى أبناءنا وتنشئهم تنشئة علمية سليمة وصحيحة .

إن في مكافحة مافيا الفساد قضاء على كثير من الكوارث والمصائب التي حلت وتحل بالبلد ، ولا يمكن أن تنعم البلاد بأمن ولا استقرار أو تقدم وازدهار ما لم يستأصل هذا الفساد من شأفته ، وجذوره ، ولعلنا نفهم تماماً وجيداً معنى عجز الحكومة بكل ما لديها من سلطات وإمكانيات وأجهزة عن مكافحة الفساد ، لأنها هي عين الفساد وراعيته ووالدته وأمه وأبوه .

2) لا بد من رفع القيود المالية الضخمة التي تكبّل التعليم الجامعي ، والدراسات العليا ، ذلك أن الأنظمة الاستبدادية تحرص على تكريس التجهيل ، ولا تحب أن تر أمة حيّة تتسلح بسلاح العلم والمعرفة ، يحملون أرفع الشهادات العلمية ، ولذا فإنها تسلك مسلك وضع العقبات والصعوبات الجمة والغفيرة أمام ميادين العلم والمعرفة ، أو تفرّغ العلم من محتواه وحقيقته ، فتجد شعباً أمياً وإن كان فيه المئات والآلاف من الشهادات العلمية - إلا ما رحم ربي ممن لديهم قدرات خاصة - والتي ربما حصل عليها أصحابها بعد عناء كبير وجهد جهيد ، لكن أحسن أحوالهم الهشاشة العلمية ، والضعف التربوي ، ولذا يحرص الكثيرون من هواة العلم على البحث عنه خارج البلد ، فلم تعد حكمة: " لا بد من صنعاء وإن طال السفر" أو "بع الدار واشتر نيل الأوطار" سارية المفعول اليوم فقد ذهبت مع من ذهب من الغابرين .

إن الديمقراطية الحقه تبدأ من ترسيخ حرية التعلم والتربية ، وتوفير إمكانيات التعلم السليم ، ورعاية الموهوبين والعباقرة ، ورفع مستوى الطلاب بالبرامج العلمية الهادفة ، وتظافر كل مؤسسات الدولة ووزاراتها ومنشآتها نحو تحقيق الأهداف والغايات التعليمية ، إعلامياً ومالياً وثقافياً وإدارياً .. وتحسين مستوى المعلم الذي رفعته أمم الأرض التي تحترم العلم وتقدس رسالته إلى مصاف الوزراء وعلية القوم ، فمنحته الحصانة الدبلوماسية ، والرعاية الرسمية والشعبية ، فيم أمة إقرأ ربما ضُرب المدرس من مدير المدرسة أو حتى من الطلاب ، الذين لم يملأ أعينهم بسبب ملابسه الرثة وعلامات الجوع والعطش والفاقة التي تبدوا عليه ، وعليه بادية همّ لقمة العيش ، وكابوس الديون المزعج .

3) حسن تأهيل وتدريب المدرسين والكوادر التعليمية والإدارية ، ويا للأسف ويا للحسرة أن تمر السنون تلو السنون على مدرسينا ولم نسمع أن إدارة تربوية تبنت دورة تدريبية حسنة الإعداد والتجهيز للمدرسين الذين يتعاملون مع قادة المستقبل ورجال الغد ، فيم نسمع في كل دول العالم المتخلفة والمتحضرة دورات متتالية حتى عن الطبخ والزواج وعن الإتيكيت ، فيما نحن نهمل تماماً إعداد المدرسين وتأهيلهم ، ولذا لا غرو ولا غرابة أن نجد كثيراً من مدرسينا يعيش بقدرات وإمكانات الثمانينيات ، ولا غرابة أن نسمع عن آلاف مدرسينا لا يحسن التعامل مع الكمبيوتر ، بل لا يستطيع أن ينطقها الكلمة نطقا صحيحاً ، فضلا عن الانترنت وخدمات التقنية الحديثة كالبروجكتور والوسائل التعليمية الأخرى .

4) أرى ضرورة التركيز على التعليم المسجدي ورعايته ، وودت لو خصصت وزارة التربية والتعليم والجمعيات الخيرية والجامعات الإسلامية حلقات نموذجية لطلب العلم ودراسة علوم العربية والبيان ، في المساجد ، وأن تحظى بالعناية والرعاية اللازمتين ، إحياءاً لرسالة المسجد التي تكاد أن تندثر ، لربط الأجيال المؤمنة برحابة المسجد وفضائه الواسع وصفاء الروح العلمية فيه ، كما قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }آل عمران37 ، إن أجيالنا الحاضرة لا يمكن أن تنبت نباتاً حسناً وكريماً ما لم ترتبط بالمحراب ، فأين البرامج العلمية والخطط المدروسة لوزارة التربية والتعليم والأوقاف لتحقيق هذا الهدف الإسلامي؟!! .

5) لا بد من عقد مؤتمر وطني يحضره المتخصصون والتربويون من العلماء والأساتذة والدكاترة من أبناء اليمن وبعض الاستشاريين من خارجها للإفادة من تجارب العالم الإسلامي لمناقشة ومدارسة الوضع التعليمي والخروج برؤية وطنية إستراتيجية عاجلة لتجاوز المحنة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فلذات أكبادنا في زمن العلم وعصر المعلومات وإمبراطوريات الوكالات العلمية والبحث العلمي .

 أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفق مسؤولينا لما فيه خير أبنائنا وإعداد مستقبل لهم زاهر وحضاري مشرق .

 {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } الأحزاب72 .

 والله من وراء القصد .

* Moafa12@hotmail.com

مشاهدة المزيد