كيف انهارت الصهيونية ذات المائة عام؟
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 19 ساعة و 15 دقيقة
الخميس 12 ديسمبر-كانون الأول 2024 04:26 م

لم تكن إسرائيل في أيّ من حروبها كُلّية الاعتماد على أميركا، كأنها مستعمرة صغيرة، كما هي الآن. هذا ما لاحظه جدعون ليفي في مقالة له على هآرتس. في تقديره فهذا أخطر ما كشفته الحرب على غزة. تؤكد كل الشواهد ذكاء ما لاحظه ليفي، فمن أجل أن تخوض حرباً على قطاع صغير محاصر تسلّمت إسرائيل ما يزيد عن 53 ألف طن من الذحيرة من أميركا. وحتى تتمكن من شن الحرب بلا ضوابط فقد حصلت على غطاء سياسي، وحتى قانوني، أميركي على كل المحافل. كل هذا لم يغيّر الحقيقة الإسرائيلية الراهنة، وهي أنها باتت أقل أمناً منها قبل ستين عاماً. القوة مركّب غير مستقر،وقد يكفي القليل منها لزعزعة استقرار الكيانات بالغة القوة. 

 

 في تبريره لاتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله ردد نتيناهو الكثير من الهراء، والقليل من الحقيقة. من الحقائق التي قالها إن أميركا كانت تلبّي طلباته العسكرية على نحو متأخر. يرتفع هذا الهراء إلى درجة الحقيقة حين نقرأه من خلال عينَي جدعون ليفي، وهي أن إسرائيل خائفة حين تكون وحيدة، وربما عاجزة. حتى إنّ بعض التلكؤ في إيصال الشحنات العسكرية بات من الأسباب التي دفعتها إلى إيقاف حرب – قالت إنها وجودية- على حدودها الشمالية. 

 

قبل ستين عاماً كتب الجنرال عبدالحكيم عامر عن حرب يونيو "قامت الحرب، وانتصرت إسرائيل". كانت إسرائيل تنتصر بمجرّد أن تقوم الحرب، وكان نصرها يغيّر شكل الجغرافيا وطبيعة السياسة على نحو طويل المدى. كانت تُغِير على الدول بمفردها، مستقلّة لا تستأذن إلا نادراً. لم تكن أميركا جزء من سردية البقاء الصهيونية حتى نهاية ستينيات القرن الماضي. حتى وهي تنقضّ على الأراضي الفلسطينية قبل وبعد قرار التقسيم، 1947/1948م، كانت تعمل وفقاً لإرادتها السياسية وخيالها التوراتي. صادمت الانتداب البريطاني سياسياً وعسكرياً في مفاصل عديدة، خصوصاً على بعد أن أعلنت بريطانيا عن خارطة طريق سياسية، 1939م، حملت عنوان "الكتاب الأبيض". في مواجهة خارطة الطريق البريطانية أعلن بن غوريون، الذي سيصبح المؤسس الأول للدولة: "سنقاتل الكتاب الأبيض وكأنه لا حرب، ونخوض الحرب وكأنه لا يوجد كتاب أبيض". بلغ النزق الإسرائيلي، لنقل الاسقلال الإسرائيلي، حد الهجوم على السفينة الحربية الأميركية ليبرتي في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط، في رابع أيام حرب حزيران 1967م. على إثر هجوم مركّب من الجو والبحر فقد 34 بحّاراً أميركياً حياتهم، وأصيب حوالي 171 آخرون. لا تزال دوافع هذا الهجوم غامضة ومريبة، وتبدو رواية "الخطأ التقني" التي اتفقت عليها واشنطن وتل أبيب غير مقنعة. منع الناجون والمصابون من الإدلاء بأي تصريح حول ما جرى.مطلع الألفية أعاد جيمس بامفورد، الصحفي ومنتج الأفلام الوثائقية،التذكير بالحادثة مؤكداً أن إسرائيل أقدمت على الفعل حتى تبقي الشهود بعيدين عن مسرح الجريمة. وكانت الجريمة، كما يرصدها بامفورد، هي قتل مئات الأسرى المصريين وإلقاء جثثهم على الرمال القريبة من العريش. إسرائيل تلك، صاحبة قرار الحرب والجريمة والقادرة على شن عمليات عسكرية ضد أميركا وبريطانيا، لم تعد قائمة الآن كما يلاحظ ليفي. ما نراه راهناً هو كيان شديد الاعتماد على واشنطن، يرهن وجوده في يد قوّة هي أبعد ما تكون عنه. 

 

لنعد إلى البدايات. كان عرب ما بعد الحرب العالمية الأولى في حالة تيه سياسي، ما من كيان عربي جامع، وبالمعنى السياسي فقد كانوا غير مرئيين أو لا-أحد. عندما وقف الرحالة الإنكليزي مارك سايكس أمام الحكومة البريطانية، في العام 1915م، ليخبرها عن الفراغ الكبير في الشرق الأوسط كان يتحدث بثقة ويرسم خطّاً على الخريطة من عكّا إلى كركوك. ثمّة فراغ لا بد من اقتسامه قبل أن تضع الحرب الأوروبية أوزارها، قال الشاب الثلاثيني سايكس. 

رأت بريطانيا الفراغ السياسي وادّعت الصهيونية فراغاً ديموغرافياً. في فيلم هذه هي الأرض )أغاداتي،1935 ( يتوافد المهاجرون الصهاينة إلى "الأرض التي كانت خصبة ذات يوم وهُجرت وتحولت إلى أنقاض" كما يقول عنوان فرعي للفيلم. هي إذن العودة إلى الأنقاض، إلى الفراغ. يركض جملٌ وحيدٌ أول الأمر، من خلفه عربي بلا ملامح، لا يُرى وجهه إمعاناً في إخفائه. ثم تأتي بضعة جِمال بلا راع وتذهب في الصحراء. تلك هي الحيوات التي كانت سائدة في ذلك المكان من العالم منذ هجَره اليهود سنة 60 للميلاد كما تقول السردية الإسرائيلية. 

 

التحدي الذي وجده الصهاينة الأوائل لم يكن سوى الصحراء والأنقاض. ما من بشر في انتظارهم، وليس للأرض من صاحب. يمضي الفيلم ليُريَ العالم الغربي، المُستهدف، صورة شديدة الحساسية والتأثير، إذ يسقط فلاح إسرائيلي من الكد والتعب، يتلاشى جسده في التربة، التربة التي ستورق من خلاياه ولحمه. لقد جعل الدم الصهيوني الصحراء تزهر. لا يزال الخيال الغربي، الشعبي والسياسي، يرى البدايات الصهيونية على ذلك النحو الذي رسمته الأفلام الصهيونية الصامتة مطلع القرن الماضي: أرض بلا شعب. ثم جاء العرب من اللامكان، تقول السردية الصهيونية، وأسموا أنفسهم بالفلسطينيين.

 

يتشبث الإسرائيليون بتلك السردية ويزرعونها في نظامهم التربوي والتعليمي. اليهود الذين انفصلوا عن السرب وأعلنوا معاداتهم للصهيونية يرْوون القصة نفسها، وهي أنهم حتى مراحل متأخرة من العمر اعتقدوا أن فلسطين كانت أرضاً خالية، وأنه ما من كيان بشري كان اسمه الفلسطينيون. الفلسطينيون اختراع متأخر يعود إلى حقبة الستينيات، وربما ما بعدها، ابتكره يساريو ما بعد الكولونيالية. يتعلم الأطفال الإسرائيليون في المدارس ضرورة أن يتركوا مسافة بينهم وبين العربي. العربي في إسرائيل لا يمكنه أن يكون سوى عامل يدوي، لا ينبغي بناء جسور معه ولا الحديث إليه، لا يملك ما يستحق القول، أما رأسه فمليء بالضلالات. وهو في الغالب لا أحد، أو انعكاس بصري للجمَل والصّبار. 

 

مؤخراً أعلنت نتفلكس عن فيلم جديد يحمل اسم "ماري"، يروي قصة السيدة مريم و"زوجها" جوزيف. أسندت الأدوار، مريم وجوزيف، لنجمين شابين من إسرائيل. في كل دورة صراع بين العرب وإسرائيل تعمد المؤسسات الثقافية الغربية إلى إسناد إسرائيل ثقافياً، وثمّة ما يؤكد هذا الادعاء في سياق تاريخي. قبل حرب 1967 بأشهر ذهبت جائزة نوبل للآداب إلى كاتب إسرائيلي متعصّب وعرقي، اسمه عجنون. رأت لجنة التحكيم في أعمال عجنون ما يستحق الإشادة، فهي "تمثل رسالة إسرائيل إلى عصرنا". بعد سبعة أشهر من الجائزة حدث عدوان حزيران، وكانت تلك رسالة أخرى ترسلها إسرائيل إلى عصرنا، كما دوّن غسان كنفاني في كتابه"في الأدب الصهيوني".

 

جوزيف ومريم سيحكيان للعالم قصتهما، المعاناة والقداسة والنصر، من خلال شخصيتين إسرائيليتين. تداعى ناشطون من بلدان عدّة إلى الدعوة لمقاطعة الفيلم، فهو لا يحترم آلام ونضال المرأة الفلسطينية التي كانتها مريم، وفقاً لخطاب المقاطعة على السوشال ميديا. هل كانت مريم فلسطينية، أذلك أهم ما في الأمر؟ الجدل المثار حول هوية مريم دفع أبرز كتّاب صحيفة يودشه ألغيماينه Jüdische Allgemeine ، جاك أبراموفيتش، إلى كتابة مرافعة مطولة تقول إن الفلسطينيين اختراع متأخر، وأن اليسوع نفسه ولد ومات يهودياً. أما خلافه مع اليهود حول تفسير الكتاب المقدس، يدّعي أبراموفيتش، فقد حدث في سياق من الجدل الثقافي داخل الديانة اليهودية وليس خارجها. المسيحية، أو اليسوعية كدين مستقل، هي اختراع حدث على أيدي مثقفين يهود غاضبين، يهود ما بعد 70 للميلاد، يهود الشتات. الحقيقة التاريخية، يجادل أبراموفيتش، هي أن الرومان كتبوا على الصليب، قبل أن ينفذوا حكم الإعدام في المسيح، هذه الكلمات: Iesus Nazarenus Rex Iudaeorum وتعني: يسوع الناصري، ملك اليهود. إذن فيسوع الناصري لم يولد وحسب يهودياً، ولكنه مات كذلك، بحسب أبراموفيتش. تعاني السردية الصهيونية من انكشاف شديد وتضيق عليها الجدران، وفي سبيل الدفاع عن نفسها فأنها ستنسف كل شيء بما في ذلك المسيحية كدين. لم تتسع السردية الصهيونية لاحتمال أن يرى العالمُ شعب فلسطين الذي أخفته وراء نبات الصبّار، وجعلته يركض خلف بعير الصحراء. ولكي تعيده إلى ذلك المكان المجهول، العدم المطلق، فقد ألقت عليه ما يزيد عن 53 ألف طنّ من المتفجرات "الأميركية".  

 

هل بمقدور الديموقراطية الإسرائيلية احتواء المعضلة الفلسطينية؟ أليس من الجيد، بما أن إسرائيل دولة ديموقراطية، تأسيس بلد من قوميتين؟ في الحقيقة تبدو النسخة الإسرائيلية من الديموقراطية أكثر إشكالية من الطبيعة التوراتية للدولة. وكما أن العنف التوراتي مفهوم أخلاقياً، وفقاً للغطاء العلماني الغربي، فإن من حق الديموقراطية الإسرائيلية أن تكون استثناء، أي أن تتوفر على القدر الأدنى من الديموقراطية، وسيبدو ذلك مشروعاً ومفهوماً. ناقشت جوديت بتلر، الفيلسوفة الأميركية-اليهودية، المسألة في كتابها "مفترق طرق"، ناقلة عن الليبراليين الغربيين إجابة من شقين: الديموقراطية اليهودية لا بد وأن تبقى ليبرالية داخل المجتمع اليهودي وحسب، ومن غير الممكن أن تتسع لقوميتين. تقول الإجابة الأخرى: الديموقراطية اليهودية لا بد لها من استثناءات بالنظر إلى ما حل باليهود تاريخياً، وعليه فإن من حقها أن تستبعد القومية العربية من المشاركة. ما المخرج إذن؟ أبارتهايد كبير؟ وما العمل حيال انفجاراته المتكررة؟ فيما يبدو فقد رأى الصهاينة الأوائل، وهم يضعون أقدامهم على تراب فلسطين، أكثر من البعير ومن نبات صبّار.

 

تبدو الصهيونية، والجدران تضيق عليها، بالغة التوتر. خاطب نتنياهو شعبه، محاولاً طمأنته،قائلاً إن جيش إسرائيل جعل "الأرض تهتز في بيروت". اهتزت أرض بيروت ولكن الحقائق بقيت ماثلة كما هي، وفي مركزها أن إسرائيل لم يعد بمقدورها إنتاج القصص كما يحلو لها. الضربة القادمة من محكمة الجنايات الدولية حلّت على إسرائيل كالصاعقة. لطالما قالت إسرائيل إنها بلداً طاهر القدمين، وأن جيشها الأكثر أخلاقية في العالم، فهو منظومة تستند إلى الكتب الخمسة التي استلمها موسى في الجبل. أشياء ثقيلة هبطت على الكاهل الإسرائيلي خلال وقت قصير، والجدران لا تضيق من الخارج وحسب، بل من الداخل أيضاً. يتنبأ إيلان بابه، المفكر الإسرائيلي المعروف، بتلاشي الدولة الإسرائيلية State of Israel لصالح شكل جديد من الدولة، أسماه State of Judaism أو دولة اليهودية. فقد نجحت اليهودية الراديكالية في إخرج اليسار الإسرائيلي من المشهد، وهي الآن في طريقها لتبديد الديموقراطية الإسرائيلية. الدولة اليهودية، أو دولة اليهودية، سيقودها رجال يشبهون بنغفير وسموتريتش، ولا يوجد في نظامها الأساسي ما يحترم السلم. ولأنها كلّية الاعتماد على أميركا، كما لو أنها حصن غربي، فسوف تمضي في طريق مرهق لحراسة الحصن. قبل قرن من الزمن لم يكن هناك سوى الجمل ونبات الصبّار، وكان ذلك هو التحدي الذي هزمه الصهيوني المؤسس. وفيما يبدو فأن الصبّار كان هو النبة الواطئة التي أخفَت الغابة. 

 

ترحّل إسرائيل وحلفاؤها المسائل المستعصية إلى المستقبل، ومن ذلك مشكلتها مع حزب الله الذي حلت عليه كارثة كسرته ولم تقتله. سيأخذ الصراع في المنطقة شكلاً جديداً خلال العقد القادم، وتبدو إسرائيل بلا استراتيجية خروج من المعضلة التاريخية سوى توزيع الخوف والإدانات يمنة ويسرة، حد اتهام بابا الفاتيكان بمعاداة السامية، والقول إن مواطني شرق أوروبا "يرضعون معاداة السامية مع حليب أمهاتهم" كما غرّد كاتس، وزير دفاع إسرائيل، وفي واحدة من مناوشاته مع العالم.

 

تتوالى النوازل على إسرائيل، هذه المرّة من الفاتيكان. في كتاب له يحمل عنوان "الأمل" - يصدر في يناير القادم- قال البابا فرانشيسكو، بابا الفاتيكان ".. بحسب بعض الخبراء فإن ما يحدث في غزة يحمل سمات الإبادة الجماعية". أثارت المقاطع المسرّبة من الكتاب جدلاً كبيراً، وهناك من رأى كلام البابا أكثر إضراراً بسمعة إسرائيل من قرار الجنايات الدولية. الأحداث تنزع عن إسرائيل اللحاء الأخلاقي، وتحرمها حتى من الإسناد التاريخي الذي وفرته مآسي الشعب اليهودي عبر التاريخ. 

 

تضيق الجدران فلا تجد الدعاية الإسرائيلية من وسيلة سوى تقسيم الشرق الأوسط إلى أشرار، وهم الأغلبية، وأخيار "إبراهيميون". لا يفوّت نتنياهو منصة دولة دون التبشير بسلام على طريقة "الاتفاق الإبراهيمي" على نحو ما جرى مع الإمارات والمغرب. وليست مصادفة أن يقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات، ويتعرض مشجعو نادي مكابي تل أبيب للضرب في هولندا على أيدي مغاربة. تسطيح معضلة الشرق الأوسط على الطريقة الإبراهيمية خطر، تماماً كما هي خطورة القول إن المهاجرين اليهود الأوائل لم يجدوا سوى صحراء وجمَل في "تلك الأرض". صار الجمل الوحيد إلى سبعة ملايين عربي فلسطيني يعيشون على أرض فلسطين التاريخية، ومثلهم في الشتات. وليس أمام إسرائيل، من أجل احتواء المعضلة التاريخية، سوى أن تحبسهم خلف أسوار كبيرة، وسيقول العالم الغربي إن الحبس الإسرائيلي لملايين العرب لا تنطبق عليه شروط الأبارتهايد. ولكن هل بالمقدور ترديد مثل هذا الهراء بلا حسيب وصوت بابا الفاتيكان، ومن خلفه محكمة الجنايات الدولية، ومن خلفهما الجنوب العالمي برمّته، يقول إن ثمّة شراً خالصاً تمارسه إسرائيل في فلسطين؟

المصدر.. الجزيرة نت