اليمن : المسار التكاملي بين الثورة والحلول السياسية بقلم/ د.فيصل الحذيفي
نشر منذ: 11 سنة و 8 أشهر و 5 أيام السبت 30 مارس - آذار 2013 07:23 م
( الشعب يريد إسقاط النظام ) شعار رفعته كل ثورات الربيع العربي، غير أن تحقيق هذا الهدف بدا صعب المنال، ولبسط الموضوع للقارئ العربي نجد أن أي تحليل سياسي لمسار الثورة اليمنية يبدأ وينتهي بطرح السؤال: لماذا آلت الثورة في اليمن رغم طول أمدها إلى سقوط نصف النظام مقابل إنجاز نصف ثورة؟ ولماذا ظلت الثورة معلقة على امتداد مرحلة انتقالية تمتد لعامين ينتهيان بتجديد شرعية النظام السياسي برمته؟. للتذكير فإن المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام بدأت في العاصمة صنعاء بشكل يومي منذ منتصف يناير دعا إليها مجموعة من الحقوقيين والناشطين السياسيين، بيد أن الساحات الثورية في معظم المدن اليمنية الكبرى تشكلت بدءاً بساحة مدينة تعز يوم 11 فبراير 2011 وأعلن الثوار الاعتصام الدائم فيها حتى سقوط النظام وتلتها ساحات في مدن أخرى بلغ عدها 37 ساحة اعتصام. ستركز المقالة على تحليل المسار التكاملي بين الثورة والحل السياسي كأحد خصوصيات الثورة اليمنية، ومن أجل ذلك سيتم أولاً: ( استعراض الوقائع والأحداث ) المفصلية ليستـبين القارئ فهم المآلات على هذا النحو، وهي أحداث كشفت تعقيد الوضع وخطورة المواجهة والاضطرار لقبول:( المزاوجة بين الفعل الثوري والحل السياسي - ثانيًا) ثم نختتم باستعراض أهم ما تحقق حتى الآن.
المسار الثوري اليمني
تجدر الإشارة إلى مفارقة غاية في الغرابة، في حين كان السلاح منعدماً في كل من ليبيا وسوريا حدث التغيير هناك بالكفاح المسلح ولم يتم الركون إلى النضال السلمي وحده على أية حال؛ كان السلاح في اليمن بكل أنواعه بأيدي المواطنين ومع ذلك سلكت الثورة مسلكا سلميا ولم تنجر الساحات الثورية إلى العنف بل ظلت سلمية. ولأن السلطة كانت تواجه الثوار بقمع وحشي فإن الثوار حرصوا على أن يواجهوا العنف بصدور عارية، وكل حدث مثقل بالعنف لم يمر دون ردة فعل مفاجئة، وأهم هذه الأحداث كانت جمعة الكرامة الدامية وما أعقبها من انشقاق الجيش وأركان النظام، ومحرقة ساحة تعز وما أعقبها من تفجير جامع النهدين في دار الرئاسة بمن فيه. 1- جمعة الكرامة 18 مارس 2011 : جرى إغلاق شارع الاعتصام بالطوب الخرساني منعا لتمدد المظاهرات إلى مدى أطول، وبعد صلاة الجمعة أحرقت الإطارات من وراء السور لإحداث سحب من الدخان وتم من وراء تلك السحب إطلاق النار الحي على المعتصمين فور صلاة الجمعة مباشرة مما حدا بالمعتصمين وتحت وابل من الرصاص إلى تهديم الجدار والإمساك ببعض المسلحين من داخل البيوت المجاورة التي كانت إحداها عائدة لأحد رموز الحزب الحاكم، وسقط يومها أكثر من اثنين وخمسين شهيدا وتجاوز عدد الجرحى الألف جريح. على إثر هذا الحدث الجلل تم إعلان الانشقاقات العسكرية والأمنية والمدنية وأعلن المنشقون تأييدهم وانضمامهم لصفوف الثورة واهتزت أركان النظام وكاد يسقط لولا صمود وثبات الرئيس صالح فأعاد تجميع أشلائه السياسية ورفض الاستسلام أو التسليم دون حصانة أو ضمانات، مستندا إلى قوات الحرس الجمهوري والأمن المركزي والقوات الجوية التي تقع تحت قيادة أفراد من عائلته. 2- محرقة ساحة مدينة تعز الثلاثاء 29 مايو 2011 : كانت بمثابة سيناريو لتنفيذ السلطات خطة محكمة لفض الساحات الثورية، إذ عمدت السلطة إلى إخلاء الساحة بالقوة العسكرية وتم إحراق خيام المعتصمين وإطلاق النار الحي عليهم، وانفض المعتصمون تحت وابل الرصاص، وتعرض المعاقون إلى الحرق بسبب عدم قدرتهم على الهرب، وتم إحراق الساحة بكل محتوياتها، ونهب مستشفى الصفوة الذي يقع داخل ساحة الاعتصام وحرقه، واستمر الاقتحام والحرق ليلة كاملة بدءا من الخامسة عصر الاثنين حتى مطلع صباح الثلاثاء. وبعد ثلاثة أيام من المحرقة تم تفجير مسجد دار الرئاسة أثناء صلاة الجمعة وفيه معظم رموز السلطة وقد أصيبوا جميعهم بحروق بالغة وإصابات مختلفة بما في ذلك علي عبدالله صالح نفسه وثلاثة من أحفاده و85 شخصية من أركان حكمه بمن فيهم رئيس الحكومة ونائبه ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشورى وقيادات رفيعة في الحزب الحاكم، واستمر صالح في السعودية أكثر من أربعة أشهر للتعافي من جروحه البالغة. وترتب على هذا الحادث شق صنعاء العاصمة إلى نصفين: جنوبا تحت سيطرة الحرس الجمهوري التابع للرئيس السابق وشمالا تحت سيطرة الجيش المنضم إلى الثورة والميليشيات القبلية بإمرة الجنرال علي محسن، وفر معظم السكان من العاصمة وتحولت شوارعها إلى متاريس حربية بين الفريقين اللذين لم يستطع أي منهما التغلب على الآخر. هذه التوازنات في العنف والعنف المضاد أدت إلى التفكير الجدي بالبحث عن مخرج للبلاد التي طالت مأساتها كل أوجه الحياة، ويمكننا توصيفها بالمراوحة والرتابة والانهيار، فجاء قبول المعارضة السياسية بالمزاوجة بين الفعل الثوري والحل السياسي مقابل التفكير الجدي من الرئيس السابق بقبول أي مبادرة لتسليم السلطة بعد الحصول على ضمانات.
المزاوجة بين الفعل الثوري والتسوية السياسية
فيما يتعلق بقبول التسوية السياسية توازيا مع استمرار الثورة ثمة ما يخص قبول الرئيس السابق بالوساطة الخليجية للخروج السلمي من السلطة من جهة وقبول الأحزاب السياسية المعارضة بهذه التسوية السياسية دون الاتكاء على الحسم الثوري من جهة أخرى. بعد نجاح الثورتين التونسية والمصرية أدرك علي عبدالله صالح أنه لا مهرب من التغيير فسارع في الشهر الأول من الثورة إلى البحث عن مخرج مربح وليس مخرجا مشرفا، فأوعز إلى ملك السعودية القيام بدور الوساطة، إذ لم تكن المبادرة الخليجية منبتا خليجيا صرفا كما بدت وإنما استجابة لرغبة صالح في التسليم وفق رؤيته التي تحفظ له شيئين: الأول هي أمواله المكتسبة خلال فترة حكمه بما في ذلك العقارات والمزارع والمصالح المرئية وغير المرئية، أما الشيء الثاني فهو الاحتفاظ بنفوذه السياسي من خلال إبقاء نصف السلطة بيد حزبه الذي يرأسه هو ليعود إلى السلطة من بوابة الانتخابات سواء عبر أحد حلفائه أو عبر نجله العميد أحمد علي قائد الحرس الجمهوري الذي يعده لهذا المنصب من خلال تحصين نفسه وكل من عمل معه. لم يكن الرئيس السابق متيقنا من ولاء أفراد القوات المسلحة وإن ضمن ولاء بعض قياداتها، وقد فوجئ بصدق هواجسه حين أعلن أحد أركان نظام حكمه الانشقاق وتأييد الثورة وهو الجنرال علي محسن الذي يعزى إليه سابقا ضمان استمرارية صالح بالحكم، ومن مجموع أربع مناطق عسكرية رئيسية انشق ثلاث منها باستثناء المنطقة الجنوبية. ولم تتوقف الانشقاقات عند هذا الحد فقد استمرت بشكل فردي أو مجموعات وصولاً إلى ما سمي لاحقاً بثورة المؤسسات التي انتفض موظفوها في وجه كل القيادات المحسوبة على الرئيس السابق. ولم يعد يضمن الولاء القبلي بعد وفاة حليفه الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر فقد مضى أولاده من بعده بالانفلات من هذا الحلف وأعلنوا تأييدهم للثورة، ولئن وجه ضدهم عمليات عسكرية فلم يكن ليمضي إلى النهاية ليقينه انه سيدفع حياته ثمناً لأي مغامرة من هذا القبيل رغم امتلاكه أدوات الحسم العسكري.
المعارضة تقبل بالمبادرة الخليجية
على امتداد تسعة شهور من شهر فيفري حتى شهر نوفمبر 2011 أي ما بين اندلاع الثورة وتوقيع المبادرة الخليجية لم تكن الثورة اليمنية بصيغتها السلمية وحدها قادرة على الحسم، فطغت الرتابة والمراوحة على المشهد العام في معادلة بئيسة: ثورة لم تسقط النظام، وسلطة لم تقض على الثورة، ومجتمع مرهق مثقل بأعباء الحياة وانعدام الأمن والاحتياجات وارتفاع الأسعار وصعوبة الانتقال والحركة وتوقف الأعمال والاستثمارات، وكان المشهد الثوري ينزف دما عند كل تصعيد وعند كل مسيرة. ولذلك كان الحل السياسي عملا مكملا لإنجاح التغيير حفاظا على طهر الثورة من الانزلاق نحو العنف الذي تحاشاه اليمنيون وقدروا عواقبه الوخيمة، فكانت المبادرة الخليجية حلاً سياسياً معبراً عن أقصى ما يمكن إحرازه سلمياً وبأقل التكاليف، وكانت الأطراف السياسية على وعي تام بأن أي ضغط زائد من طرف على آخر سيؤدي حتما إلى الانفجار الدامي، وهدفت المبادرة الخليجية - التي لم تنل رضا الثوار في الساحات وقبل بها السياسيون - إلى التوافق على مرحلة انتقالية يتم فيها إعادة ترتيب البيت اليمني عبر مؤتمر الحوار الوطني لكل الأطراف اليمنية. وبالفعل تم توقيع المبادرة الخليجية في الرياض يوم الأربعاء 23 نوفمبر 2011 مع آليتها التنفيذية التي نصت على المراحل والتفاصيل، وحسب المبادرة تنتهي المرحلة الأولى الممتدة ثلاثة أشهر بعد التوقيع بتسليم الرئيس السابق علي صالح للسلطة سلمياً إلى نائبه عبد ربه منصور هادي عبر انتخابات توافقية لمرشح وحيد اتخذت طابع الاستفتاء جرت يوم 21 فبراير مع توزيع الحقائب الوزارية مناصفة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة. وقد كانت الفترة الأولى حرجة يخشى منها الفشل في تسليم السلطة. أما المرحلة الثانية فتمتد عامين حتى انجاز برنامج التغيير الذي ينتهي بانتخابات 2014 ويتم الدعوة خلالهما إلى انعقاد مؤتمر جامع للحوار الوطني لإعداد دستور جديد يحدد فيه شكل الدولة ( بسيطة أو اتحادية ) والاتفاق على نظام سياسي جديد وتعديل النظام الانتخابي وتصحيح سجل الناخبين وحل الموضوعات العالقة من تراكمات السياسة الخاطئة طيلة 33 عاما من الفساد. لقد رفض الثوار في الساحات المبادرة الخليجية لأنها منحت علي صالح وأركان حكمه حصانة من المحاكمات على القتل ونهب الأموال، وبلغ الاعتراض أوجه في مسيرة الحياة الراجلة وهي من أهم الأحداث الثورية بعد التوقيع على المبادرة الخليجية، إذ انطلقت يوم الثلاثاء 20 ديسمبر 2011 من تعز إلى العاصمة صنعاء التي تبعد قرابة ثلاثمائة كيلو متر شمالا عن مدينة تعز، وبدأت بألفي مشارك من الثوار والثائرات فقط ليبلغ قوامها عشرات الآلاف عند وصولها العاصمة وكان هدفها رفض المبادرة التي تمنح الحصانة للقتلة. وفي 21 فبراير 2012 جرى انتخاب عبد ربه منصور هادي رئيسا للجمهورية، وبمجرد انتقال السلطة اتخذت السياسة اليمنية التوافقية مسارا أكثر تصميما لاستكمال برنامج الانتقال إلى انتخابات 2014 عبر مؤتمر الحوار الوطني الذي لا يزال معدوه بين شد وجذب بسبب ما يساورهم من قلق الفشل والتعثر لخطى النجاح وباتوا يستدركونها حثيثا لاستكمال المسير رغما عن المعوقات.
نتائج الأداء السياسي
تميز أداء الرئيس عبد ربه منصور هادي بالهدوء والأناة وفيض من الصبر والحكمة حتى يقود البلاد إلى النجاح الفعلي، ومع ذلك يلاقي لوما حادا باستمرار من القوى الثورية بأنه لم يقدم على عزل الفاسدين وأقارب المخلوع وتوحيد الجيش، لكن المتأمل لأدائه السياسي يجد انه غير الكثير من القيادات العسكرية والمدنية المحسوبة على الرئيس السابق ولم يبق من القيادات الكبرى سوى ابن الرئيس السابق رئيس الحرس الجمهوري وابن أخيه قائد أركان حرب الأمن المركزي. وكان مما يؤرق عبد ربه منصور هو بقاء العاصمة وبعضا من المدن مقسمة بين فريقين متمترسين في الشوارع والأحياء وكلاهما على وشك الضغط على الزناد، فعمل في بداية الأمر على تشكيل اللجنة الأمنية الموكل إليها تهدئة الأوضاع ورفع الحواجز العسكرية وإعادة الانتشار العسكري إلى مواقعه الطبيعية في المعسكرات وإحلال الأمن وتوفير الاحتياجات المعيشية وإحداث بعض التغييرات في المناصب الإدارية المفصلية. وترتب على هذه الإجراءات انفراجا امنيا وتحسنا معيشيا وبدأت الحياة تعود إلى طبيعتها تدريجيا وتوفرت السلع والخدمات واستقرت الأسعار على نحو يبعث على الاطمئنان، وبقى الثوار في ساحاتهم يطالبون الرئيس منصور بعزل القيادات العائلية وتوحيد الجيش الذي لا يزال منقسما رغم أن لجنة عسكرية فنية بإشراف خبرات عسكرية أردنية وبتعاون أمريكي تسعى حثيثا لوضع خطة وطنية لبناء جيش وطني موحد يكون هدفه حماية البلاد والعباد وليس حماية شخوص السلطة. كما أصدر الرئيس هادي قرارا بتسمية اللجنة العليا للانتخابات من القضاة، ومرسوما قبل ذلك بتشكيل اللجنة الفنية والتحضيرية للحوار الوطني وحددت قوام اللجنة عدد المشاركين في الحوار الوطني بـ 565 مشاركا، وينتظر أن يبدأ الحوار خلال شهر في مناقشة القضايا المحورية ( الدستور بما في ذلك صيغة الدولة والنظام السياسي وقانون الانتخابات) ولا تزال المخاوف قائمة من فشل الحوار وتعثر الانتقال الهادئ إلى وضع سياسي طبيعي. لقد باتت ثورات الربيع العربي اليوم تشترك في امتحان عسير لإثبات قدرتها على التغيير السلس من مرحلة انتقالية شديدة الصعوبة والمخاطر إلى مرحلة استقرار تفرز نخبة سياسية شرعية قادرة على نيل الثقة والنهوض بمجتمعاتها إلى وضع يتم الاطمئنان إليه وهو امتحان عسير مازالت كل بلدان الربيع العربي تئن تحت وطأته حتى اللحظة؟. كاتب وأستاذ جامعي يمني (*) hodaifah@yahoo.com