الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية
بقلم/ فهمي الزبيري
نشر منذ: 3 أشهر و يوم واحد
الخميس 29 أغسطس-آب 2024 04:54 م
 

يحتفل العالم بذكرى اليوم الدولي للاختفاء القسري في 30 من أغسطس/آب، وهو اليوم الذي تبنت فيه الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة عام 2006، الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، ودخلت حيز التنفيذ عام 2010م، تحيي الأمم المتحدة هذا اليوم لتسليط الضوء على معاناة الضحايا وأقاربهم، بهدف إبراز الخطورة التي تتسم بها هذه الجريمة، والعمل على انشاء آليات يمكن من خلالها تحقيق الحماية لمختلف الأشخاص من خطر الوقوع كضحايا لجريمة الاختفاء القسري، كونها الجريمة الأخطر التي تشغل اهتمام الرأي الدولي في ظل تزايد الافلات من العقاب.

 

هذه الاتفاقية من أقوى معاهدات حقوق الإنسان التي اعتمدتها الأمم المتحدة، وعلى خلاف الجرائم الأخرى بموجب القانون الدولي، مثل التعذيب؛ فإن الاختفاء القسري لم يكن يحظره صك عالمي ملزم قانوناً قبل دخول الاتفاقية حيز التنفيذ في عام 2010م، حيث تقدم الاتفاقية تعريفاً لجريمة الاختفاء القسري، وتوضح الإجراءات الضرورية التي يجب أن تتخذها الدولة للحيلولة دون وقوع الجريمة، ولأن بعض مرتكبي هذه الجريمة يتعلل بالظروف الاستثنائية وانعدام الاستقرار السياسي وحالة الحرب، إلا أن الاتفاقية تنص في المادة الأولى، الفقرة الثانية، على أنه “لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري“، وتوفر الاتفاقية آليات المساءلة القانونية ومقاضاة المنتهكين، والحرص على تحقيق العدالة للناجين والضحايا وعائلاتهم، والكشف عن الحقيقة، وجبر الضرر وتلقي التعويض المناسب.

 

الاختفاء القسري من أكثر الحالات التي تمثل انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان، فالشخص الذي يتعرض للاختفاء القسري يصبح محروماً من كافة حقوقه دون أن يدافع عنه أحد على الإطلاق، ويكون في أيدي معذبيه خارج نطاق حماية القانون، وإنكارا لما يتمتع به الشخص من كرامة ووجود، بل وتجرده من صفته الإنسانية، وغالبا ما يتعرض للتعذيب وتبقى الضحية في خوف دائم على حياتها، كما أن الأسر التي تجهل مصير أحبائها المختفين تظل في ترقب وتساؤل مستمر وانتظار دائم لسنوات طويلة أحيانا، لسماع خبر قد لا تأتي.

 

ينتهك الاختفاء القسري سلسلة من القواعد العرفية في القانون الدولي الإنساني، وعلى الأخص حظر الحرمان التعسفي من الحرية، وحظر التعذيب والمعاملة الأخرى القاسية أو اللاإنسانية، واعتبرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية كوبريسكيتش عام 2000 أنّ الاختفاء القسري يمكن وصفه "جريمة ضد الإنسانية"، مع أنه لم يُدرج على هذا النحو في النظام الأساسي للمحكمة. وأخذت المحكمة حقيقة أنّ الاختفاء القسري يرافقه عدة انتهاكات ضد حقوق الإنسان، ولأنه محظور بمقتضى إعلان الأمم المتحدة بشأن الاختفاء القسري في العام 1992م، وتعتبر الممارسة الممنهجة للاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية بحسب القوانين والاتفاقيات الدولية ونظام روما الأساسي والقواعد العرفية كونه جرماً خطيراً وبغيضاً ضد الكرامة المتأصلة في الجنس البشري، وينتهك العديد من حقوق الإنسان الأساسية.

 

كما يتسبب الاختفاء القسري بمعاناة وآلام قاسية لأقارب الشخص الذي تعرض للاختفاء، فالانتظار الذي لا نهاية له لعودة الشخص المختفي والغموض المستمر الذي يكتنف مصيره، وغموض المكان الذي يتواجد فيه الشخص المختفي، ويمثل شكلاً من أشكال العذاب الوحشي المتواصل لأمهات وآباء وزوجات وأبناء الشخص المتعرض لحالة الاختفاء القسري ولجميع أقاربه ومجتمعه، وجزء لا يتجزأ من الأساليب الاستراتيجية التي تهدف لنشر الخوف في المجتمع، فالشعور بعدم الأمان الذي تولده هذه الممارسة لا يقتصر على الأقارب المقربين للشخص الذي تعرض للاختفاء فحسب بل يمتد ليصل إلى المجتمع كأداة من وسائل الإرهاب ضد المجتمع.

 

تتضاعف مآسي ومعاناة أهالي الضحية جراء العواقب المادية للاختفاء القسري، إذ أن الشخص المختفي قسريا غالباً ما يكون العائل الرئيس للأسرة، بالإضافة إلى المعاناة النفسية والأعباء المالية الإضافية التي تتكبدها الأسرة إذا قررت البحث عن فردها المختفي، وتضطر المرأة في كثير من الأحيان البحث عن مصدر رزق للأسرة في غياب العائل المختفي والمختطف، وقد يلجأ الأطفال إلى ترك مقاعد الدراسة والبحث عن عمل لسد حاجة أسرته التي غاب وأختفي عائلها.

 

تمارس مليشيا الحوثي الإرهابية الانقلابية هذه الجريمة بشكل ممنهج ضد المدنيين السياسيين والناشطين والأبرياء، وعلى رأسهم السياسي المدني محمد قحطان المخفي منذ عشر سنوات، وموظفي الامم المتحدة والمنظمات الدولية التي تخفيهم في سجونها لابتزاز المجتمع الدولي، وهذه الممارسات تعد انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان خاصة الحقوق المدنية أو السياسية مثل حق الفرد في الاعتراف بشخصيته القانونية، و الحرية والأمن على شخصه؛ وعدم التعرض للتعذيب أو ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وأيضاً الحق في الحياة، في الحالات التي يقتل في الشخص المختفي، والحق في الهوية، والحق في محاكمة عادلة والضمانات القضائية.

 

لا يزال العشرات مخفيين قسراً في سجون مليشيا الحوثي في أماكن مجهولة يعانون أصناف التعذيب، ويتم ابتزازهم أقاربهم بدفع مبالغ مالية كبيرة فقط للكشف عن مصير الضحايا، وتتكرر هذه الوعود دون جدوى بل وتستخدم مليشيا الحوثي الاختفاء القسري كمورد للتكسب وجني المزيد من الأموال، دون الالتفات للحالة الاقتصادية والظروف الاجتماعية الصعبة التي تمر بها تلك العائلات، وهي دعوة للجهات الحقوقية والمنظمات الدولية والصليب الأحمر وكافة الهيئات الحقوقية الوقوف بجدية وحزم أمام استمرار هذه الجريمة التي تؤرق المجتمع بشكل عام. 

 

يحتاج جميع ضحايا الاختفاء القسري الذين تم الكشف عن مصيرهم إلى عون طبي سواء على مستوى تسجيل أي إصابات جسدية أو أضرار صحية تعرضوا لها خلال فترة اختفائهم قسريا، من أجل تقديم المساعدة الطبية اللازمة وكذلك لأغراض إثبات الادعاء الجنائي أو المطالبة ضد المسؤولين عن ارتكابها، ويحتاج الضحايا وأسرهم إلى دعم نفسي لمساعدتهم على تخطي الآثار النفسية السلبية الناتجة عن الاحتجاز القسري، وتعويضهم والكشف عن مرتكبي هذه الجرائم حتى يقدموا للمساءلة القانونية وينالوا جزاءهم الرادع وحتى لا تتزايد ظاهرة الإفلات من العقاب.

 

**مدير عام مكتب حقوق الإنسان بأمانة العاصمة*