حزب الإصلاح والهوية اليمنية
بقلم/ فيصل علي
نشر منذ: 3 سنوات و شهرين و 29 يوماً
الأحد 12 سبتمبر-أيلول 2021 06:53 م
 

 ثلاثة عقود مضت على خروج التجمع اليمني للإصلاح إلى الجماهير اليمنية ليعبر عن تطلعاتها، ويُشكل مع غيره من الأحزاب السياسية علامات دالة على وجود توجه مدني في مجتمع قبلي - إن جاز التعبير - أو في تنوع مجتمعي مُحافظ غير متقبل للتغيير بسهولة كطبيعة المجتمعات المحافظة. جاءت انطلاقة الحزب في الفترة الذهبية للحراك السياسي اليمني الناشئ بحسب الواقع اليمني الذي أحدثته الوحدة اليمنية في عام 1990

. ومع ابتهاج جموع الشعب اليمني بعودة الوحدة السياسية للبلاد إلا أن المتغيرات الجديدة لم تكن مقبولة كلية عند الناس، الديمقراطية والحزبية والعمل السياسي والتنافس الحزبي كلها مصطلحات معقدة بالنسبة للخارطة الذهنية للمجتمع، صحيح أن الجمهور اليمني قد سمع عن وجود توجهات سياسية منذ منتصف القرن العشرين، إلا أن السماع شيء والتطبيق شيء آخر.

كسر الإصلاح - كحزب ناشئ - مُسلمات العقل الجمعي والعقل السياسي والحزبي اليمني وسجل سابقة خطيرة، حزب جديد ينتزع مقاعد في أول انتخابات برلمانية تشهدها دولة الوحدة، ويتجاوز نسبة مقاعد الحزب الاشتراكي اليمني الذي يسبقه في العمر التنظيمي، والعمل السياسي، وينافس المؤتمر حزب الرئيس.

لم يكن يومها الإصلاح يُدرك أنه يثير كل من حوله ويوجه الأنظار إليه دون أن يكون لديه استعداداً سياسياً تقتضيه المرحلة. كلما لديه خطاب ديني تناسب بشكل كبير مع المجتمع المُحافظ، وأحاديث متفرقة عن أنه ليس حزباً سياسياً بل تجمعاً خيرياً، دينياً، إسلامياً، مهمته أن ينصح الحاكم ويُرشده إلى الدين القويم والشريعة، لا أن يُنافسه ويُطيح به ويحل محله في حكم البلاد.

لماذا خرج هذا الحزب إلى الوجود إذاً؟ ولماذا يُتعب الدعاة - الذين يُشكلون النواة التنظيمية والحركية للحزب - أنفسهم في خوض مجال لم يسبق لهم الخوض فيه؟ الكثير من الجدل السطحي الذي دار وقيل في تلك المرحلة لم يخرج بنتيجة أو إجابة واقعية على سؤال النشأة والوجود. وفي الواقع لابد لكل حزب من فكرة وفلسفة ينبثق منها، ونموذجاً مناسباً إن لم يتخلق عند قائد ومجموعة تحيط به فإنه يلزمه أن يقلد نموذجاً ناجحاً في الإقليم أو في العالم. فما النموذج الذي اختاره التجمع اليمني للإصلاح وقادته لينشأ هذا الحزب على غراره؟ إن كان مجرد تقليد للأحزاب المحلية فلا يوجد حزب سبق وأن نشأ على أساس ديني في البلاد بهذا الشكل.

وإن كان مجرد تقليد لأحزاب نشأت في المنطقة العربية تحمل نفس التوجه الإصلاحي والديني فهو تقليد لما لم يثبت نجاحه في الميدان. فمن أراد النموذج الأفضل فليقلد نموذجاً ناجحاً مع الحفاظ على الخصوصية المحلية. ومع ذلك وبشكل أو بأخر فإن التجمع اليمني للإصلاح عبّر عن نبض الشعب، فحصل على مكانة جعلته حاضراً في المشهد السياسي للبلاد. وعرضته لأن يكون محل مراقبة الأوصياء على البلد والوحدة - المؤتمر والاشتراكي- واللذان تشاركا الحكم بناء على اتفاقية الوحدة. إن قراءة سريعة لمسيرة الحزب تجعلنا نتوقف عند نشأته ومساءلة قادته لماذا صنعتم هذا الحزب؟ لا مذكرات سياسية لصناعه الحركيين تُجيب عن التساؤل المطروح، ولا نظامه الداخلي يشير بوضوح لماذا وجد وظهر على الساحة.

مسألة الشريعة والحفاظ على بيضة الدين والإسلام، وشعارات إيصال الحكم إلى قلوب الحاكمين إلخ إلخ مجرد قضايا شائكة، وهي أبعد ما تكون عن فكرة نشوء حزب جماهيري ينتمي إلى العصر الحديث. ببزوغ شمس 26 سبتمبر 1962 كانت الثورة بأهدافها تعني وجود تحول فكري ومنهجي ونظمي وقيمي في مجتمع يتوق للحرية ولعودته لمكانته الطبيعية قبل عصر العزلة التي فرضها الكهنوت الطائفي السلالي، من المفترض أن كل كيان يمني أتي بعد سبتمبر، كان منظمة أو حزباً سياسياً، أو نقابة أو اتحاداً..

. يضع نصب عينيه المرجعية الثورية، كي يكتسب شرعية ومدخلاً فلسفيا لوجوده. ففي هذا اليوم "ولد اليمن مجده"، ولذا يُفترض أن تكون الثورة اليمنية هي مرجعية كل الأحزاب السياسية في البلاد، بغض النظر عن الانتماء الأيديولوجي يمين يسار وسط الخ إلخ، فالانتماء للثورة والجمهورية يعني الانتماء للعهد اليمني الجديد. صحيح أن الثورة مرت بمراحل مخاض وصراع وجدل إلا أنها شكلت روح المجتمع بغض النظر عن قرب وبعد الأنظمة الحاكمة منها. فالأحزاب هي المعبرة عن الجماهير لا عن الأنظمة المتغيرة، وجماهير سبتمبر للأسف لم تجد من يقودها، لا أنظمة، ولا أحزاب، ولذا وصلت اليمن لمرحلة وجود انقلابات. هل كانت صدفة أن الحزب ولد في 13 سبتمبر؟ لا مجال للصدف في الواقع السياسي، لذا فالحزب سبتمبري مرتين. فللتاريخ دلالته وهذا ما يجب أن تتمسك به نخب الحزب وجماهيره.

كما أن التسمية التي وضعها قادته منذ نشوؤه لها بُعد يتسم بالتزام فكرة الحزب وقادته بالهوية اليمنية -التجمع اليمني- وهي دلالة على الالتزام بالهوية والخصوصية اليمنية بغض النظر عن النموذج الذي نشأ على غراره الحزب. ومن التسمية والمولد السبتمبري المشار إليه يمكن إعادة صياغة فلسفة النشأة والتطور للحزب. وفي تقديري مر الحزب بمراحل تطور ملحوظة، لم يعد جمهور الحزب اليوم ولا نخبته المثقفة تُصر على فكرة النشأة الدينية للحزب، ولم يعد هناك من يقول إنه تجمع لا حزب

. فصراع الأجيال والأفكار يسري على كل كيان مجتمعي قابل للتطور "وما لا يتطور مآله أن يذوي ويموت". وجود جدل دائم داخل أطر الإصلاح بين الديني والسياسي حفظ للحزب حيويته. وما أحدثته ثورة 11 فبراير من جدل ثقافي وسياسي. وما حدث بعدها من تغيير طرأ على المجتمع كل ذلك أثر في الإصلاح على مستوى القمة والقاعدة، خفت النظرة الأبوية، وحلت محلها المسؤولية الحزبية. في السابق كانت هناك مطالب بالتغيير ظلت حبيسة الأروقة التنظيمية، لكن مع المتغيرات الجديدة وظهور وسائل التواصل الاجتماعي صارت ظاهرة للعيان، وأخذت حقها في النقاش العام وصار من حق أصغر وآخر عضو منظم للحزب أن يقوم بعملية النقد الذاتي للحزب ولأداء قياداته، وهي عملية ضرورية لتصحيح مسار أي حزب سياسي، فقد تنوع النقد من المطالبة بالفصل بين الدعوة والسياسة إلى التحول من حزب دعوة إلى حزب مشارك في السلطة، وكذلك المطالبة بيمننة الفكر والتثقيف الحزبي، والمطالبة العلنية بتغيير قيادات الصف الأول والثاني في الحزب وغيرها من القضايا المعروفة للجمهور والتي صارت ذات اعتبار. لو لم تكن البلد في حالة حرب لحدثت تغييرات جوهرية في الحزب. نخب الحزب الثقافية والسياسية تحاول إخراج الحزب من مربع الديني إلى مربع السياسي وهما مربعين متباينين تبايناً موضوعياً، لقد آن الأوان لإعفاء الدعاة المخلصين لله الواحد من ممارسة الدعاية والسياسة، فمجال الدعوة وإصلاح أخلاق المجتمع أوسع من السياسة، وأكثر قرباً من الله والناس، كما أن مرحلة التطور الجديدة قد فرضت هذا الخيار، وهذا يتطلب صناعة فكر سياسي يسع جماهير الحزب ويخلصها من صراع ولى زمانه، ويجنبها من مغبة البقاء في نفس دائرة الصراع الذي يعود للقرن الماضي، ويُمكنها من التقدم خطوات نحو المستقبل. في إطار التغيير الذي يجب أن يخوضه الحزب هناك عدة خطوات من أهمها البحث في المجتمع الدولي عن صداقات حزبية، هذه الصداقات هي أقرب للعلاقات الدولية، وهذا يتطلب تطوير دائرة العلاقات الدولية للحزب. في لقاء سابق مع أحد قادة الحزب بوجود جمع من شباب الحزب وقياداته الوسطى، سألت عن دائرة العلاقات الدولية في حزب الإصلاح - مع علمي بعدم وجودها كدائرة بحد ذاتها - وتحدثت عن ضرورة تطوير العلاقة بين الحزب وأحزاب الدول الأخرى بحسب البروتوكولات المتبعة، فُوجئت أنه لا يعلم بعدم وجود دائرة علاقات خارجية في الحزب، وأنها مجرد شعبة في دائرة أخرى، وليست هذه المشكلة فقط، بل المشكلة أن الحاضرين من أعضاء ونخبة الحزب أيضاً ليس لديهم فكرة. لا أحاول التهويل بقدر ما أحاول لفت نظر المهتمين إلى ضرورة تطوير علاقات الحزب الخارجية بغيره من الأحزاب لتحسين صورته، ولتحسين صورة اليمن التي يعمل لأجلها الحزب، وللخروج من محاولات حصار الحزب التي دأبت عليها بعض القوى المحلية والإقليمية، وكذلك لتمدين الحزب الذي ظهر في مجتمع قبلي محافظ، فالعلاقات الدولية هي من تمنح الحزب -

أي حزب - امتلاك القدرة على النظر إلى المستقبل بواقعية، ويستفيد من تجارب الآخرين. يعمل اليوم حزب الإصلاح في وسط متغير وفي ظل ظروف حرب وصراعات متعددة في اليمن وطالت الإقليم، وبقاء الحزب متماسك ومنتشر في كل ربوع الجمهورية اليمنية يُحسب له، فهذا الوجود يساهم في الحفاظ على البلاد من الدعوات الطائفية والقروية والجهوية التي تسعى لتمزيق الجمهورية اليمنية التي وُلد معها الحزب. خروج اليمن من محنتها مرتبط بعقلانية الحزب وتفاهماته مع الأحزاب المنضوية تحت لواء الجمهورية والشرعية والدولة، وبمجمل تفاهمات الشرعية مع دول الإقليم. وهذا يحتاج إلى جهد جبار من قبل الجميع.

كل أحزاب اليمن المنبثقة عن الهوية وفكرة الجمهورية والثورة مطالبة اليوم بالقيام بدورها، وترك الصراع والتنافس الحزبي في وقت بلغت المهددات ذروتها، وطالت الجمهورية والدولة والنسيج الاجتماعي للأمة اليمنية.

لا مجال لحزب الإصلاح أن يتراجع عن النهج الجمهوري الديمقراطي، أو أن يتخلى عن نبض الجماهير اليمنية، وعن مطالبها في الحفاظ على وحدة واستقلالية وسيادة البلاد. كما أن كل هذه التحديات والظروف لا تُعفيه من إحداث تغييرات داخلية على مستويات يمننة المناهج الثقافية وتسيس قواعد الحزب بدلاً عن أدلجتها دينياً، وعلى مستوى تبني نظرية في السياسة والاقتصاد قابلة للتطبيق والقياس - فالناس ليسوا فئران تجارب - وعلى مستوى تغيير القيادات وإحداث قفزة نوعية نحو المدنية التي تتلاءم مع نبض الشارع الذي لم يعد يقبل بأطروحات ما قبل ثلاثين عاماً خلت.