قيادة العالم بالأزمات..الأزمة المالية نموذجا
بقلم/ عبد المجيد الغيلي
نشر منذ: 15 سنة و 5 أشهر و يومين
الثلاثاء 14 يوليو-تموز 2009 08:37 م
 
فن جديد من فنون القيادة، تزامن مع التبشير بنظام عالمي جديد. هذا الفن هو قيادة العالم بالأزمات، إما من خلال افتعالها، أو توفير البيئة المناسبة لها، ثم تركها تنمو وتكبر حتى تؤتي أهدافها. إنه من الغفلة بمكان أن يقال أن أزمة ما جاءت عفوية، أو كانت وليدة الصدفة، بل الحقيقة أن هناك أيادي خفية تلعب وراء الأزمات لتحقق أهدافا ما. وهذا الفن الجديد هو الذي يناسب التعقيد التقني والمعلوماتي والاقتصادي الذي وصل إليه العالم، ومن ناحية ثانية، فإنه يناسب الوضع الأحادي الذي تنفرد من خلاله الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة الأرضية. وهي استراتيجية جديدة تتميز بها أمريكا في زمن ما بعد الحرب الباردة، وعلى العالم أن يعرف كيف يتعامل مع الإستراتيجيات الجديدة زمنا ومكانا وأسلوبا. 

قد يكون في هذا الكلام بعض التنظير الذي لا يرضاه البعض، ولكن دعونا في هذا المقال نعرض شكلا واحدا من أشكال الأزمات، لنعرف الحدث وندرك الهدف، ولولا خشية الإطالة لتطرقنا لأشكال أخرى من الأزمات، كأزمة القرصنة الصومالية، وأزمة الاحتقانات الداخلية في بعض دول العالم وخصوصا العالم الإسلامي. ولكن ربما نتطرق لها في مقالات لاحقة، لندرك الأهداف من ورائها.

* الأزمة المالية العالمية

ظهرت الأزمة المالية إلى السطح أوائل عام 2007م، حين عجز مليونان من الشعب الأمريكي عن سداد ديون الرهن العقاري التي بلغت تقريبا (6 . 6) ترليون دولار أمريكي.

وقد أدى هذا إلى انهيار قيمة العقارات، وأسهم الشركات العقارية، كما أدى إلى تضرر المصارف الدائنة، ونقص السيولة، وبعد ذلك أدى إلى تضرر المؤسسات المالية الأمريكية مما أثر بدوره على قيمة الأسهم في البورصة الأمريكية. وبمجرد انخفاض المؤشر في وول ستريت انخفض المؤشر العام في كبريات البورصات العالمية، وأدى إلى زلزال هائل في مختلف الأسواق المالية العالمية، وقد سبب هذا الانهيار في التأثير السلبي على الاقتصاد العالمي.

وكنتيجة مباشرة للأزمة فقد خسرت الأسواق المالية ترليونات الدولارات، ووقعت مصارف وشركات عملاقة في براثن الإفلاس، ليس أولها مصرف (ليمان براذرز)، و(بيرشترن)، مرورا بشركة التأمين العملاقة (إي آي جي) التي أممتها الحكومة الأمريكية، وليس آخرها الشركة العملاقة (جنرال موتورز). وهذا غير عشرات الآلاف من الشركات المتوسطة والصغيرة التي أعلنت إفلاسها.

ومن نتائجها المباشرة أيضا أن ملايين من الناس دخلوا في كهف البطالة الموحش، بل أعلنت الأمم المتحدة في تقرير صدر عنها يناير 2009 أن عدد الذين سيفقدون وظائفهم آخر هذا العام سيتجاوز 50 مليونا، وأكثر من 105 مليون سيدخلون بوتقة الفقر؛ جراء الأزمة. وقد ارتفعت نسبة البطالة في كثير من دول العالم المتقدم لتصل إلى 10%.

وهذا كما يؤكد بعض الخبراء أن الأزمة ما زالت في بدايتها، ولم تأخذ أعماقها بعد. والسؤال الذي يضع نفسه الآن: هل فعلا أن سبب الأزمة الحقيقي هو عجز السداد في الرهن العقاري؟ أم أن هناك أيادي خفية هيأت المناخ للوصول إلى هذا الأمر؟ إن الجواب يتطلب منا الرجوع قليلا إلى السنوات الست السابقة للأزمة؛ حتى نعرف الهدف الحقيقي لهذه الأزمة.

* التسهيلات الهائلة للتسليف

في أول عام 2001م قام محافظ البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (آلان غرينبسان) بخفض سعر الفائدة من 6% حتى وصل إلى 1% عام 2003م. مما أغرى الأسر الفقيرة بالاستدانة لشراء المنازل، ثم الاستدانة لتأثيث المنازل، ثم ... وهلم جرا. كما أغرى كثيرا من المستثمرين بدخول السوق العقاري؛ نظرا لارتفاع أسهم الشركات العقارية المسجلة بالبورصة، حتى بات شراء العقار أفضل أنواع الاستثمار. ثم بعد ذلك بحلول عام 2005م كان (آلان غرينبسان) قد رفع الفائدة لتصل إلى 5 . 4%؛ مما أدى إلى بدء ظهور أزمة الرهان العقاري، حتى انفجرت في عام 2007م.

إن التسهيلات الهائلة كانت ذات نوعين، الأول: خفض سعر الفائدة، والثاني: قيام البنوك بقرض أناس تعرف من البداية أنهم غير قادرين على الوفاء بالتزاماتهم المالية، ثم تنتظر منهم خلال ثلاث سنين دفع الدين وفوائده! إننا نعلم حرص مثل هذه المؤسسات على التحري ومعرفة مدى قدرة العميل على الوفاء بدينه، حيث تستند على قاعدة الحذر وتقييم المخاطر ـ فلماذا تتغاضى عن هذا الأمر، وهي تعلم مسبقا أنه لن يفي بدينه؟!

ثم نتساءل مرة أخرى: أليس خفض سعر الفائدة يعد بمثابة كمين لاستدراج أكبر عدد من الناس إلى الاستلاف والاستثمار في هذا القطاع، ثم رفع سعر الفائدة بعد ذلك ثلاثة أضعاف من أجل عجز أولئك عن سداد الديون، ومن ثم تكون السقطة هائلة بحجم أزمة مالية عالمية نشهدها الآن!! ثم نتساءل: لماذا لم تقم الإدارة الأمريكية في بداية الأزمة باحتواء الموقف، وسداد ديون أولئك المتعثرين حتى لا تحدث الأزمة؟ وحتى نعرف أكثر فإن خطة أمريكا للإنقاذ جاءت متأخرة، واستهدفت إنقاذ بعض الشركات والمصارف من الإفلاس.

* أهداف الأزمة الحقيقية

إذن، فإذا كانت الأزمة مخططا لها بإتقان ـ فما الأهداف الحقيقية من ورائها؟

هناك أهداف عديدة، تجتمع كلها في أن الهدف النهائي للأزمة هو الإفقار: إفقار الأفراد، والشركات، والدول.

أما إفقار الأفراد والشركات فقد ذكرنا بعض الأرقام سابقا، وهي أرقام مفزعة، وخصوصا إذا علمنا بأن الأزمة ما زالت في بدايتها. فتخيل معي حجم الأرقام التي ستدخل نفق الإفلاس حين تأخذ الأزمة عمقها. وأما إفقار الدول فسأقف عند ثلاث نقاط، لنرى إلى أي مدى تستهدف الأزمة إفقار الدول، وهذه النقاط هي: ديون الحكومة الأمريكية، والدول النفطية، والدول ذات الاقتصادات الناشئة.

* ديون الحكومة الأمريكية

تجاوزت ديون الحكومة الأمريكية (9) ترليون دولار في عام 2008م، ومعظم هذه الديون تتم من خلال سندات الخزينة الأمريكية، فالصين مثلا مستثمرة في الخزينة الأمريكية ما يقارب ترليون دولار، (اليابان: 700 مليار دولار، دول الخليج: 186 مليار دولار، البرازيل: 127 مليار دولار)...الخ. وبرغم هذه الديون الهائلة فليس أمام الدول الدائنة إلا الاستمرار في شراء سندات الخزينة، وتجديد المنتهي منها بأذون جديدة، رغم تدني نسبة الفائدة إلى 16 . 0%؛ لأن المقابل هو انهيار سعر الدولار، ومن ثم انهيار صادرات الدول، وحدوث انكماش اقتصادي بها. ولا يوجد حد واضح لليوم الذي ستسدد فيه تلك الديون.

إن هذه الأزمة ستعطي الإدارة الأمريكية الفرصة لمزيد من الاقتراض؛ لتعويض السيولة الناقصة، وفي اللحظة المناسبة ستخفض الإدارة الأمريكية القيمة الحقيقية لأصول سندات الخزينة الأمريكية، إما من خلال ارتفاع نسبة الفوائد بالدولار الأمريكي؛ بسبب عدم وجود السيولة في الأسواق العالمية، وهذا يؤدي إلى انخفاض سعر السندات، وإما أن ينخفض سعر الدولار، مما يؤدي إلى انخفاض القيمة الحقيقية للأصول المالية. وعلى كل فستنهار قيمة السندات. وعندئذ فإن ترليونات من الدولارات تذهب أدراج الرياح، وتفقد الدول احتياطيات هائلة، ولا تستطيع أن تتفوه بكلمة واحدة سوى عض الأصابع والأيدي.

وها هي الصين اليوم تعرب عن قلقها المتنامي وتخوفها من استثماراته في الخزينة الأمريكية، وما ذلك إلا لأنه بدأ يتبين لها بعد فوات الأوان المصيدة التي وقعت فيها.

* الدول النفطية

شهدت الدول النفطية طفرة ثالثة استمرت من عام 2002م إلى عام 2008م، حتى وصل سعر برميل النفط في 2008 إلى ما يقارب 150 دولار أمريكي. وقد ارتفعت صادرات النفط في دول الخليج من (4 . 123) مليار دولار أمريكي عام 2002م إلى (1 . 421) مليار دولار أمريكي عام 2007م وفقا لتقرير المعهد الدولي للمالية. أي أنها ارتفعت بنسبة 341% خلال ست سنوات، وهو ارتفاع هائل. وقد حققت فوائض مالية وصلت عام 2007م إلى (159) مليار دولار أمريكي. وقد أربكت هذه الطفرة الدول المصدرة للنفط، فازدادت السيولة بشكل كبير، مما أدى إلى التضخم وارتفاع الأسعار.

والسؤال المهم: أين تم استثمار تلك الفوائض المالية الهائلة؟

لقد أهدرت كثير من تلك الأموال في صفقات التسلح، وبذلك أنعشت شركات الأسلحة الأمريكية بالدرجة الأولى. وخصوصا مع ظهور البعبع الإيراني، وخطره النووي، وقد أجادت أمريكا العزف على هذا الوتر، من أجل العوائد المالية الهائلة. كما أن الحرب على الإرهاب والحرب على العراق ـ كل ذلك أعاد الحياة لشرايين شركات السلاح الأمريكية، وأنقذ بعضها من الانكماش والتقهقر.

وذهب قسم آخر من تلك الفوائض إلى الاستثمار في الأصول الخارجية، حتى إن هذه الاستثمارات وصلت في عام 2008م إلى (2) ترليون دولار تقريبا، و(5 . 56%) من هذه الاستثمارات في الولايات المتحدة الأمريكية. أي حوالي ترليون دولار، وهذا المبلغ مع الأزمة أصبح مهددا بالتبخر، إن لم يكن قد تبخر معظمه على أرض الواقع. وقسم ثالث من هذه الفوائض ذهب إلى المضاربات في البورصات، وقد تبددت هذه الثروات بفعل الأزمة المالية العالمية!!

لقد كان ارتفاع أسعار النفط بمثابة فخ وقعت في شراكه الدول النفطية، وعندما رأت القيادة العالمية التي تجيد القيادة بالأزمات أنه آن الأوان لتبديد تلك الثروات، فقد نجمت الأزمة المالية. ولم يكن من نتائجها ذهاب مليارات الدولارات من جيوب الدول النفطية فحسب، وإنما أدت إلى انهيار سعر البرميل إلى ثلث قيمته أي 50 دولار للبرميل، [وذلك في مقابل ارتفاعه ثلاثة أضعاف سعره بحلول عام 2008م]، نظرا لقلة الطلب والانكماش الاقتصادي العالمي، مما أدى إلى مزيد من البطالة والإفقار.

وهذه الأمر يلقي بآثاره السيئة على بلدان لم تتأثر مباشرة بالأزمة، كاليمن، التي ستتأثر حتما بالانكماش الاقتصادي في دول الخليج، خصوصا وأن اليمن تستفيد من تحويلات المغتربين، ومن الجمارك الحدودية، كما أن الخليج تمثل سوقا إلى حد ما للعمالة اليمنية، وكل تلك ستؤثر سلبا على الاقتصاد اليمني. ولا ننسى أن نقول أن الطفرة النفطية استفادت منها اليمن كبلد مصدر للبترول، فقد ارتفع احتياطيها من 300 مليون دولار إلى 8 مليار دولار، وبالتأكيد أن النكسة النفطية أثرت على اليمن، ولهذا أعلنت عن خفض موازنتها لهذا العام إلى 50%.

ولقد تحملت الدول النفطية جزءا كبيرا من عبء الأزمة؛ لتخفف من خسائرها، وتحافظ على استثماراتها في الخارج، ولقد كانت تلك مصيدة أخرى لها، تقوم من خلالها الإدارة الأمريكية بدفع فاتورة الأزمة، وتعويض الشركات الخاسرة، وتأميم الأصول المتهالكة بأموال العرب. وعلى حد تعبير الدكتور مصطفى الفقي أن العرب دفعوا فواتير أحداث 11 سبتمبر، وسيدفعون فواتير الأزمة المالية.

* الدول ذات الاقتصادات الناشئة

هذه الدول كالصين والهند وغيرها من الدول الآسيوية ـحققت نموا اقتصاديا متقدما خلال السنوات السابقة، ومع بداية الأزمة المالية بدأ انخفاض النمو الاقتصادي، فالصين مثلا وفقا للإحصائية التي أصدرتها الحكومة الصينية لعام 2008م، هبط نموها الاقتصادي من 13% في عام 2007 إلى 6.8% في أواخر عام 2008م.

إن ارتفاع النمو الاقتصادي في هذه البلدان كان نتيجة للتصدير الكبير إلى دول العالم المتقدم، وخصوصا السوق الأمريكية التي تستورد سنويا ما يقارب من (2)ترليون دولار، أي ما يعادل 15% من الصادرات العالمية، وهي أكبر سوق مستوردة عالميا. وقد أدى ارتفاع وتيرة الاستهلاك والتصدير إلى ارتفاع أسعار المواد الخام كالنفط، مما أدى إلى استفادة تلك الدول من ذلك.

ولكن مع الأزمة الحالية فقد تراجع النمو الاقتصادي لكل هذه الدول؛ نتيجة لانخفاض الطلب العالمي على الصادرات، وخصوصا السوق الأمريكية، وهذا أدى إلى انكماش في اقتصاديات تلك الدول، ومن ثم عجز في موازناتها. فالصين مثلا، هبطت صادراتها بنسبة 17%، وكوريا الجنوبية بنسبة 21%، وتايوان بنسبة 36%.

إذن فقد جاءت الأزمة كنكبة تصحيحية تهدف إلى إيقاف النمو لهذه الدول، وإيقاعها في هاوية الفقر، وكي تقطع الطريق أمامها، فلا تندفع إلى مزيد من التقدم والازدهار والرخاء على حساب الدول المتقدمة، وبالأخص على حساب الطبقة الرأسمالية في أمريكا.

* وأخيرا

فهناك أهداف أخرى للأزمة، أهداف غير اقتصادية، منها أن ازدياد الفقر والبطالة في المجتمعات سيدفعهم إلى الخروج إلى الشوارع، مما يؤدي إلى قمعهم من قبل السلطات، وتبدأ الأوضاع عندئذ بالانفجار. ومنها ما أشار إليه الخبير الاستراتيجي عبد الحكيم الحميد في المقال الذي ترجمناه عنه سابقا، بقوله: (إن الأزمة المالية الحالية هدفها الرئيسي تغيير العديد من الحكومات في العالم. وبحسب وحدة الاستخبارات الاقتصادية، فإن (95) دولة في العالم وضعت في قائمة تغيير حكامها خلال 2009م/2010م).

إذن فهل حقيقة أن الأزمة المالية جاءت عفوا، وولدت بمحض الصدفة؟ أو أن وراءها أيادي خفية، تقود العالم بأسلوب جديد، وبإدارة جديدة؟.

abdmajidyemen@hotmail.com