نور الدين زنكي.. الهمة المضيئة
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: أسبوعين و يومين و 21 ساعة
الأحد 24 نوفمبر-تشرين الثاني 2024 04:45 م
     

الهمة العالية مُجنّحة، تتجاوز أسوار الواقع، لا تثنيها قسوة الحاضر عن التطلع إلى المستقبل واستشراف النجاح، ومن ثَمّ تُلهم الآخرين وتضيء لهم الطريق.

ومعنا في هذه العجالة شخصية من الشخصيات الفريدة في التاريخ الإسلامي، ارتقت همتها حتى لامست الثريا، لم يلتفت صاحبها إلى الواقع المر وسطوة الباطل، فتجاوزت همته ذلك وتعامل مع النصر في المستقبل كأنه رأي عين، فألهم غيره وأضاء لهم الطريق.

إنه نور الدين محمود زنكي، الملقب بالملك العادل، حاكم الشام وموحد أقطارها، المعروف بجهاده المستمر ضد الصليبيين لتحرير بلاد الشام من دنسهم.

تشبع نور الدين برؤية التحرير من خلال والده عماد الدين زنكي ومراحل نضاله المختلفة، والتي وطد خلالها الأوضاع في إمارة الموصل ثم فتح حصن الأثارب وقلعة حارم، وكان فتح الرها من أعظم إنجازاته.

استكمل نور الدين الطريق بعد وفاة أبيه، وكانت عينه دائما على تحرير الشام من الصليبيين، وقام بتوحيدها تزامنا مع الإصلاحات الداخلية التي أجراها، وواجه الصليبيين في العديد من المعارك، كان من أهمها في مصر، والتي كانت خاضعة لحكم الدولة العبيدية، فاجتاحها الصليبيون، فأرسل نور الدين جيشا بقيادة أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي لكسر شوكة الصليبيين وطردهم من مصر، فألحقوا بهم هزيمة نكراء، ثم توفي أسد الدين بعد توليه منصب الوزارة، فعين نور الدين مكانه صلاح الدين الأيوبي.

لست هنا بصدد عرض سيرة هذا الملك الصالح المجاهد، لكن ما يهمني هو تسليط الضوء على همته العالية في تحرير المسجد الأقصى في خضم الواقع القاسي الذي كان العلو فيه للصليبيين بينما يمر العالم الإسلامي بفترة حالكة من فترات الضعف والتفرق.

لم يكن تحرير الأقصى مجرد حلم للرجل، بل كان رؤية، شكلتها همته السامية، وبكل يقين وثقة في نصر الله، استدعى نور الدين أمهر النجارين وأمرهم ببناء أعظم منبر تشهده الخلائق، وأشرف بنفسه على بناء هذا المنبر، واستغرق ذلك خمسة أعوام، وعندما كان يُسأل عن المنبر يقول: «مستقره في بيت المقدس إن شاء الله».

يبني المنبر ليضعه في المسجد الأقصى ويخطب عليه، بينما كان الأقصى أسيرا في أيدي الصليبيين، فأي همة هذه، وأي يقين هذا!

يصف العماد الأصفهاني حال نور الدين ومنبره فيقول: «فكان حاله وهو يأمر بالبناء ويصنعه، كحال نوح عليه السلام وهو يصنع الفلك، كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه».

خاض نور الدين المعارك العديدة مع الصليبيين في طريقه إلى تحرير القدس، فوحد بلاد الشام، وطهر مصر من الصليبيين وأعادها إلى حظيرة السنة، إيمانا منه بأن تحرير الأقصى يمر بمصر.

عاجلته المنية قبل أن يحقق حلمه، لكنه قد أضاء بهمته ورؤيته الطريق لغيره، فاستكمل تلميذه صلاح الدين الأيوبي الطريق نفسه، وتحررت القدس على يديه، ويدخل الأقصى فاتحا، ويأمر بالمنبر الذي صنعه نور الدين ليضعه في المسجد، ليصبح شاهدا على تلك الهمة الملهمة المضيئة.

إن العبرة في هذا المشهد التاريخي الجليل، تتمثل في أهمية تجاوز المحن والواقع الأليم وعدم التقوقع في مآسيه، إلى آفاق المستقبل والعمل على التغيير بكل طاقة ممكنة، وضرورة أن يكون للإنسان همة عالية نحو هذا التغيير، وذلك يتطلب إيمانا راسخا وثقة في موعود الله بالنصر وأن العاقبة للمتقين.

هذه الهمة التي تتحدى بأس الواقع، وتكون نقطة مضيئة في الظلام، حتى إن لم يصل صاحبها إلى مرامه، فهي حتما سوف تضيء الطريق للآخرين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون