طارق صالح يتوعد عبدالملك الحوثي بمصير بشار ويقول أن ''صنعاء ستشهد ما شهدته دمشق'' تطورات مفاجئة… الجيش الروسي يطوق قوات أوكرانيا بلينكن يحدد شروط اعتراف الولايات المتحدة بالحكومة السورية الجديدة دعوة إلي عقد مؤتمر مانحين عاجل لدعم اليمن وقف النار في غزة واتصالات سرية لإنجاز الصفقة شرطة كوريا الجنوبية تدهم مكتب الرئيس... ووزير الدفاع السابق يحاول الانتحار دول عربية تبدأ بإرسال مساعدات لدعم الشعب السوري بعد سقوط الأسد روسيا تطلق تصريحات جديدة حول الاسد وتجيب عن إمكانية تسليمه للمحاكم الجيش السودانى يجبر قوات الدعم السريع على الانسحاب من شمال الخرطوم رسائل نارية من الرئيس أردوغان بخصوص سوريا وأراضيها وسيادتها خلال لقائه بقيادات حزب العدالة والتنمية
بدلاً من لوحة إعلانات الأفلام، التي ستعرضها سينما "سبأ"، كانت صورة الفنان أبو بكر سالم حديث الناس في صباح ذلك اليوم من أيام تعز، منتصف الثمانينات.
استيقظت المدينة على حدث مختلف وغير مألوف: أبو بكر سالم بلفقيه في تعز، وسوف يغنِّي لجمهوره في قاعة سينما "سبأ".
لا أتذكر البدلة التي ارتداها، مع ذلك علِقَت في ذهني بدلتان بألوان صافية: واحدة حمراء والثانية زرقاء، ارتدى إحداهما في ذلك الحفل الشهير، والأخرى ظهر بها في مقابلة تلفزيونية مع المذيع عبدالملك السماوي.
لم تكن تعز تعرف مثل هذه الحفلات الغنائية، حين حضر الفنان الأكثر شعبية في اليمن، أبو بكر سالم، ليلتقي بجمهوره في حفلة أقيمت في قاعة سينما وسط شارع التحرير.
كان حضور الإسلاميين في المدينة مُلاحظاً ولافتاً في بداياته آنذاك. أتذكر أن أستوريو صغيرا -يبيع أشرطة الكاسيت- بجانب سينما "سبأ" اعتاد على بث بعض الأغاني عصراً كلما زاره زبون، فإذا بقارئ أعمى للقرآن وضع وسط الشارع مقابل الأستيريو، يسند ظهره إلى شجرة ثُبت أعلاها مكبر صوت، وكلما فتح الأستريو أغنية، صدح القارئ مجلجلا وسط زحام شارع تجاري، حتى إن بعض المتدينين من التجار -كبار السن- كانوا ينفرون من هذا المشهد، إذ بدا وكأنه مماحكة أكثر منه تديناً.
كنت حينها طفلاً، في الصف الخامس الابتدائي، أسكن عند أقاربي في عمارة تقع أمام السينما مباشرةً، أدرس وأعمل معهم في معرض يبيع الأقمشة.
بقدر فرحة الناس بوجود الفنان أبوبكر سالم في مدينتهم، كانت سينما "سبأ" ضيِّقة وغير مناسبة لإقامة حفلة كهذه.
لحظة تاريخيّة كهذه كان مكانها المناسب هو ميدان الشهداء. في سينما "سبأ" تحوّلت الحفلة إلى مكان مكتظ بالبشر، من تمكنوا من الحصول على تذاكر وحضروا الحفلة الغنائية خرجوا مثلما دخلوا، وكأنهم لم يشاهدوا فنانهم المفضل، ومن تكدسوا جوار السينما وحولها اكتفوا بالاقتراب من بوابة سينما "سبأ" يتلصصون على نغمة فنانهم المفضل، وكأنها لحظة تاريخيّة تسجِّل الجميع في قائمتها.
لم أتمكن يومها من حضور تلك الحفلة.
في 2004 كنت في صنعاء حين حضر أبوبكر، وأقام فيها حفلاً غنائياً.
كان شغفي بفنه وأغانيه وتنغيمات صوته ما يزال متقداً، غير أن لهفة الطفل الفضولي لم تعد موجودة. تُركت هناك في تعز في الجهة المقابلة لبوابة سينما "سبأ".
أستبدل الفضول برفقة ثرية مع أغاني أبوبكر، أحلق معها، وأستقصي أبعادها؛ دون حاجة إلى عناء الحضور في حفلة طارئة، وغير اعتيادية، في مدينة اتسعت المسافة بينها وبين طقس الحفلات الغنائية للفنانين، رغم أن تاريخها يفوح برائحة الغناء، وتحليقاته العالية.
-محاولة للإمساك بفنان شاسع
أبو بكر سالم بلفقيه شاسع وعصيٌّ على أن تحيط به. هو هذا الحضور الطاغي عند الناس؛ الفنان الذي وصل إلى وجدانهم كما لم يفعل أحدٌ غيره.
وأبو بكر هو الصوت الذي لا شبيه له، يتلاعب بطبقاته، ويغيِّر نغماته وكأن إمكانياته أكبر من كل أغنية أداها، وأكثر انطلاقاً من أن تحتويها، أو توضع تحت سقفها.
السمة الأساسية لأبو بكر ليست فحسب صوته المتميّز بطبقاته الثلاث، التي أجاد التنقل بينها وأدهش بها مستمعيه وجمهوره. ما يميِّزه هو أنه جمع بين فرادة الصوت وثراء الشخصية الوجداني والنفسي، وسمة ثالثة هي تميّزه كشاعر ومثقف.
صحيح أن الفنان يحددهُ صوته وموهبتهُ وأداؤه، لكن شخصيته يمكنها أن تكون رافعة لموهبته أو أداة لإهدارها.
حمل أبو بكر فن الغناء اليمني، بثرائه وتنوع ألوانه، وحلَّق به بعيداً خارج حدود اليمن في الجزيرة العربية والوطن العربي.
هذا هو أبو بكر سالم بلفقيه؛ فنان اليمن والجزيرة العربية، الذي ترك إرثاً غنائياً شاسعاً وثرياً ومتميِّزاً، يضعه في مرتبة أهم الفنانين العرب في القرن العشرين.
أبو بكر سالم هو الفنان الذي لا يشبهه أحد:
الشخصية المتفردة، مدرس اللغة العربية، الشاعر، المثقف، المعلم الذي يعطي اللحن والكلمات والأغنية لفنان آخر، أو شاب يتدرب على الغناء، متحرراً من "الأنانية" وغير آبهٍ بمنافس يتهدد مكانته؛ ولا يفعل ذلك إلا فنان يدرك جيداً أنه يتكئ على موهبة لا يخفت ضوؤها، وقدرة على الإبداع لا ينضب مخزونها.
جاء أبو بكر من تريم الغَنَّاء متشكلاً بوجدان صوفي ووعي ثقافي ثري، اكتسبه من بيئتَي أسرته ومدينته، وكلاهما بيئة علم وتصوّف وثقافة فقهية ولغوية في تريم، التي تناظر زبيد في تهامة.
صُقلت موهبته الغنائية في هكذا مناخ من الأناشيد الصوفية، وامتزجت بقدراته اللغوية كمدرس لغة عربية وشاعر يكتب القصيدة ويتذوق الكلمات، ويفجِّر مكنوناتها الطربية.
بدايته الفنية كانت في إذاعة عدن في العام 1956؛ بأول أغنية من ألحانه وكلماته:
"يا ورد محلى جمالك بين الورود .. يا ورد محلى جمالك لما تنود".
وبعدها: "أقبلت تمشي"، "كانت لنا أيام"، "خاف ربك"، وغيرها.
غير أن بدايته ثانية -إن جاز التعبير، إذ ذكر في مقابلة قديمة أن بداياته تعود إلى تاريخ أقدم من ظهوره في إذاعة عدن وحفلات مسرح "البادري".
وهو يشير بهذه الإحالة إلى نمو موهبته الغنائية في مجالس حضرموت وأدائه الأناشيد الصوفية والأغاني الحضرمية القديمة فيها.
أغلب أغاني أبو بكر من كلمات الشاعر حسين أبو بكر المحضار، وبعده تأتي الأغاني التي كتب كلماتها بنفسه.
غناؤه لشاعر عدن الأنيق، لطفي جعفر أمان، واحدٌ من الاستثناءات القليلة خارج قصائد المحضار، وقصائده كشاعر.
"وصفولي الحب"، "زمان كانت لنا أيام": أغنيتان تلمسا طابع لطفي جعفر أمان العاطفي، استطاع أبو بكر أن يمزجها بصوته العذب، ولحنِه الجميل في بداياته الغنائية.
-إعادة خلق الأغنية الحضرمية، وتجديد الأغنية الصنعانية
أبو بكر سالم لم ينشر الأغنية الحضرمية لتحلِّق في سماء اليمن والجزيرة فحسب، ولكنه أعاد خلقها من جديد في عنوان ملتصق به، وبنغمة صوته، وأسلوبه المتميِّز.
هي أغنية قديمة وجذورها ضاربة في تاريخ حضرموت، لكنها كانت تنتظر صوت أبو بكر سالم لترى ألقها ودفقها العذب في تجليات صوته.
بإمكاننا القول إنه جدد الأغنية الصنعانية، أما الأغنية الحضرمية فأخذها بعيداً معه، وصب فيها جُل موهبته.
عندما تكون التجربة شاسعة وثرية لا يكون بمقدورنا سوى الوقوف على أطرافها في مقالة عابرة كهذه.
من بين 300 ألبوم في مسيرته الغنائية، تقدَّر قصائد المحضار ب200 أغنية من بين هذه الألبومات:
منجز فني هائل، وهو عدد حقيقي وليس مبالغاً فيه، هو نفسه في مقابلة مع المذيع عبدالملك السماوي -منتصف الثمانينات- قدرها بمئة أغنية آنذاك، وكان حينها في منتصف مسيرته الفنية.
"يا زارعين العنب"، "يا رسولي توجه بالسلامة": هاتان الأغنيتان كانتا أول تعاون له مع المحضار نهاية ستينات القرن الماضي.
في مقابلة له مع عبدالملك السماوي؛ يقول أبو بكر إن المحضار قطف زهرة شبابهُ، وساعده على نشر الأغنية الحضرمية، وتجديدها.
تزامنت بداية تعاونه مع المحضار مع إدراكه الواضح لمهمته: تجديد الأغنية اليمنية، ونشرها خارج اليمن.
يقول أبو بكر: "حسيت حينها ان الأغنية اليمنية ثرية، ولكنها تعيش مغمورة إعلاميا، وتعاني من ضعف الإنتاج الموسيقي، وتعتمد على آلة أو التين؛ رغم أنها أغنية في نغماتها وإيقاعاتها وشعرها الغنائي الجميل".
غادر أبو بكر عدن، بعد منتصف الستينيات "1967"، متجهاً إلى بيروت؛ وفي رأسه ووجدانه هذه المهمة.
هناك التمع نجمه خارج اليمن، وبدأ ظهوره في سماء الفن العربي.
يقول: "هناك أختلطُ بالفنانين، فرقة كبيرة وموسيقيين، عشت بلغتهم، تعلمت منهم الكثير، موسيقي ملحن مغني".
من تريم إلى عدن، ومنها إلى بيروت، ومنها إلى الرياض والقاهرة والخليج. تنقل كثيرا، وبقي ساكناً في فنه، ومعلقاً به، وكرَّس له حياته كلها.
لا أجرؤ على ذكر أجمل أغانيه مع المحضار. عشرات الأغاني في هذا التمازج الحضرمي بين الفنان والشاعر، وكل واحدة أجمل من الأخرى. لنقُل؛ لكل أغنية طابعها الجمالي الخاص، ومن الخفة ذكر أخرى وتجاهلها.
جدد أبو بكر سالم التراث اليمني، ونشره وغنَّاه موسيقيًا دون أن يشوّهه أو يعبث به. نقله إلى خارج اليمن، وتغنَّى به بالنوتة الموسيقية.
كسر الحاجز أمام الأغنية الصنعانية، وأخرجها من المقيل إلى الفرقة الموسيقية؛ تعزفها خارج الحدود.
الأغنية الصنعانية كانت قد تحوَّلت إلى أغنية مقيلية؛ رغم ثرائها وجمال نغماتها وإيقاعاتها، وذلك بسبب الكسل الذي أصاب الفنانين الذين يتغنَّون بها.
ثم جاء أبو بكر، ومعه الموسيقار الشاب أحمد فتحي، ونقلها إلى الحفلات والتوزيع الموسيقي، وأدخل عليها آلات أخرى تواكب النَّغم نفسه، ولا تكون شاذة على النَّغم الشرقي.
أعاد صياغتها، وأوصلها إلى فضاءات أرحب خارج اليمن.
اكتست الأغنية الصنعانية ألواناً جديدة من خلال توظيف آلات متعددة، وتنويعات لحنية مبتكرة، مع بقاء آلة العود عموداً فقرياً لها في هيئتها الجديدة.
من أبرز الأغاني، التي حملت هذا الطابع الجديد:
"وامغرد بوادي الدور"، "رسولي قوم بلغ لي إشارة"، "أحبة ربى صنعاء"، "وا معلق بحبل الحب".
-ذهب إلى أقصى الغناء.. وبقيت اليمن إنتماءه والروح الساكنة في أعماقهُ
من بداية الألفية إلى قبل رحيله بعامين، كانت الحفلات الغنائية الجماهيرية في المدن الخليجية، التي تبثها القنوات الفضائية وقنوات "روتانا"، مرحلة جديدة لتألق أبو بكر وانتشاره بين جمهور غنائي واسع في زمن البث الفضائي والإنترنت ومنصات التواصل.
أبدع الكثير، وأعاد قديمه وجدده.
وحده أبو بكر يعيد أداء أغنية قديمة بأسلوب مختلف، ويضيف إليها دون أن يفقدها جوهرها وطابعها الخاص.
ذهب أبو بكر سالم إلى أقصى الغناء، حيث صار الفن اليمني حالة عربية على نغمات صوته المتدفق إحساساً وطرباً.
ليس في وسعنا أن نجد فناً أكثر ألقاً وانتشاراً من أغانيه.
موهبته وإجادته للغناء تفصحان عن قدرة فنان حرر الغناء من كل تصنُّع وإدِّعاء.
لديه حركاته التلقائية النابعة من القلب، وخروجاته في الحفلات، ولا أحد غيره يفعلها، متحكماً بالأغنية والجمهور في آنٍ واحد.
وحدها النَّغمات الدافقة في صوت نقي وآسر تحفظ إحساسنا ولحظاتنا الباهية من التلاشي في النسيان.
سلام على أبو بكر سالم بلفقيه في ذكرى رحيله الثانية، التي توافق العاشر من ديسمبر القادم.
سلام على أنجب أبناء هذه البلاد، وصوتها الخفَّاق في الأعالي، مترنماً وصادحاً بانتمائه الأصيل "أمي اليمن":
أنتِ الحضارة
أنتِ المنارة
أنتِ الأصل والفصل والروح
والفن
من يشبهك من؟
أمي..
أمي اليمن
أمي..
في داخل القلب حبك
في الفؤاد استبان
من قبل بلقيس وأروى
والعظيمة سبأ
يا كاتب التاريخ
سجل بكل توضيح
أنتِ الأصل والفصل والروح
والفن
من يشبهك من؟
من يشبهك من؟