مشاهد الاحتفال بالغدير في صعدة
بقلم/ عبد الرحمن تقيان
نشر منذ: 12 سنة و شهر و 7 أيام
السبت 03 نوفمبر-تشرين الثاني 2012 09:58 م
 

بينما كانت الزيدية المعتدلة تحيى ذكرى دخول اليمنيين دين الإسلام بفعاليات عيدية يلبس خلالها الجديد وتزار الأرحام في أول جمعة من شهر رجب، وذكرى المولد النبوي والإسراء والمعراج بفعاليات الذكر والمواعظ التي لا تخرج من حدود المسجد، قرر غلاة الزيدية (الجارودية) إحياء يوم الثامن عشر من ذي الحجة باحتفالات يتجاوز نشاطها أي عيد وأي مناسبة دينية أخرى على الإطلاق. كيف لا وهي تصادف اليوم الذي يعتقدون بتصريح رسول الله لسيدنا علي كرم الله وجهه بالولاية من بعده!

الشيعة الجعفرية في إيران والعراق والبحرين وغيرها يحيون يوم الغدير بفعاليات تشابه كثيراً عيد الأضحى لدى غيرهم وتوزيع الأطعمة وتوزيع (العسب) للأطفال وزيارة الأقارب ويمكن أن يتخلله الصوم وإقامة الأعراس والمواعظ المسجدية. لكن لهذه الذكرى احتفالات لا تنسى إذا ما تحدثنا عن الجارودية المتركزة في ريف محافظة صعدة حسب ما أتذكر في منتصف التسعينات حين كنت شاباً يافعاً وإعتدت قضاء وقت طويل هناك في إجازاتي الدراسية، وكنت أشعر حينها بالكثير من المتعة والخوف في آن واحد لمعايشة هذه التجربة الفريدة في اليمن، متعة المغامرة وحماسة الشباب الباكر وخوف المدني الذي لم يعهد هكذا بارود ولا انفجارات تصم الآذان وتهز القلوب وقلق واستنكار لبعض المفردات المذهبية التي استنكرتها ثقافتي آنذاك.

وبغض النظر عن الخلاف الذي ذهبت اليه مذاهب المسلمين في صحة كل حديث غدير خم أو جزء منه وتفسيره وتأويله، إلا أنني هنا لن أتحدث هنا إلا عن وصف فعاليات الحدث في ريف صعدة وحضرها في منتصف التسعينات تلك الفترة التي أتذكرها تماماً في صعدة كونها مهد الإمامة وفيها قبر الإمام المرجع الهادوي المؤسس "يحيى بن الحسن الهادي".

تقيم قبائل صعدة التجهيزات لتلك الاحتفالات الكبيرة في القرى خارج مدينة صعدة والقليل منها داخلها. ومن التجهيزات عقد حلقات عمل تتولى كل منها إعداد المطويات، والملصقات المختلفة التي تتناول المناسبة ومناقب رسول الله وعلياً وآل بيته، يرافق ذلك التكثيف من دعوة الناس على المشاركة وعقد الدروس والحلقات وتعليق الدعوات لشرح أهمية ذلك اليوم والاحتفال به. وفي تلك الأثناء يتم صناعة وطلاء ونحت أجسام عملاقة مصنوعة من الخشب ومادة الفلين أو البلاستيك وغيرها وهي أعلام وأجسام عظيمة الحجم تحمل جميعها دلالات دينية بالكاد توضع على سيارات النقل (الشاص) ويركبها أيضاً شباب يؤدون مشاهد تمثيلية متحركة تتناول التعليم الديني وبعض الممارسات الحياتية المختلفة.

وعند الخيوط الأولى ليوم الذكرى الذي يسمونه (يوم العيد) تحتشد القبائل المختلفة بصعدة كبارها وصغارها في كثير من القرى للاجتماع في مكان بالقرب من المدينة، ومن هناك يتحرك الجميع في شكل قوافل بشرية عظيمة تنهب الأرض نهباً على أقدامهم وهم يلقون الزوامل ويرقصون البرع الصعدي المميز، ويلتقون أحياناً بقبائل أخرى تأتي من قرى أخرى من داخل المحافظة وأحيانا من خارجها، وتفضي بهم إلى جبل لا يبعد كثيراً من مدينة صعدة. وما أن يشرف الجمع على هذا الجبل الذي كان قد أعد مسبقاً بوضع علامات كأهداف كثيرة جداً، حتى تسمع إطلاق كافة أنواع النيران في الجو باستخدام الذخيرة الحية (الكلاشنكوف والمعدل والاسرائيلي ورشاش 12-7 وهذا وصف فقط للأسلحة التي كنت أعرفها حينها بخلاف ما عرفتها هناك) إيذاناً ببدء المعركة الاحتفالية الغديرية.

وترى سوقاً قد انتصب عشوائياً وبشكل ذاتي لترتفع فيه أصوات أهازيج وزوامل وأشعار دينية لم أسمع بها طوال عمري الشاب وتقوم الطبول الضرب وترقص رقصة البرع. وكان من الحضور من كان يصدح بأشعاره المداحة للذكرى وأبطالها والمنتقدة لبعض المذاهب الأخرى أو القائلة بعدم شرعية ما دون معتقدهم. وكان منهم من يقيم خطبة على حلقات. يحدث كل هذا والنيران لا تهدأ أبداً ولا ترحم أحضان ذلك الجبل من نيرانهم المتواصلة والمتقطعة. والرائي للمنظر من بعيد يخيل له أن جيشاً عرمرمياً يتم تحميسه للإيذان ببدء معركته الحربية الشرسة. والعجيب في الأمر أني لاحظت وجود مئات الأطفال المسلحين وكنا أخال أن أباءهم قد أعاروهم اسلحتهم، إلا أني أدركت بعدها أنهم كانوا برفقة آبائهم المسلحين أيضاً بأحدث أو أعتى الأسلحة. ودخلت بينهم لأرى أن كثيراً من أولئك الأطفال يتفاخرون بينهم بما أعطاه والده من الذخيرة أو المال لشراء الذخيرة وصدمت من سماعي منهم مقدار الآلاف من الريالات التي كان الكثير منهم يحصلونها من أجل شراء الذخيرة. وكانت مصيبة ذلك اليوم هو عشرات من القتلي والجرحى بالخطأ في التصويب أو الرمي نحو الجو.

أما المقيم الجديد في بيوت بمدينة صعدة فيخيل إليه أن جموعاً غاضبة آتية إلى المدينة بقضها وقضيضها عازمين على حرب ساحقة وهزيمة ماحقة كما كان يخيل لي في أولى تلك التجارب. أما الأجهزة الحكوميو وقواتها في المدينة فقد اعتادت على مثل تلك النشاطات على ما يبدو ولا تتحرك إلا لنجدة مصاب بالخطأ. أما القتلى فلا أحد يطالب بحق ولا قصاص لأنه ببساطة شديدة لا يعرف من قتل ابنه أو قريبه ولأن كل منهم لا يدخل هذه المعركة إلا وقد استيقن أنه إما أن يخرج على رجليه أو على نقالة أو داخل كفن..