أمريكا وحصاد الفوضى الخلاقة في اليمن
بقلم/ حسن الحاشدي
نشر منذ: 14 سنة و 11 شهراً
السبت 16 يناير-كانون الثاني 2010 04:13 م

«مشكلة بلادي أنها قريبة كل القرب من أمريكا ، وبعيدة كل البُعد عن الله» .

كانت تلك هي الإجابة على سؤال وجه إلى (روجارس) رئيس المكسيك في ثلاثينات القرن الماضي بعد أن غرقت بلاده في فوضى داخلية على مختلف الصُعد .

إن الدارس للتكوين الأولي للولايات المتحدة الأمريكية أرضاً وإنساناً ، ومراحل الأنماط السياسية والنفسية لذلك التكوين ؛ يستطيع وبسهولة تفسير الأنانية والذاتية العدائية التي انعكست على نفسية الساسة الأمريكيين ، ومن ثم على القوانين الأمريكية ، وخصوصاً الموجهة إلى الدول الأقل فقراً ، ومن ثم دول العالم الثالث ، والتي منها الدول العربية والإسلامية .

فكما نعلم أن أمريكا هي في الأصل موطن (الهنود الحمر) البدائيين في مقابل الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا العظمى) حيث تميزت بعراقتها ونظمها وقوانينها . ولكبر توسعها وكثرة مستعمراتها ؛ فقد كانت الجرائم منتشرة بمختلف المسميات ، وتكونت عصابات إجرامية بدا تناميها يقلق الإمبراطورية العظمى ؛ ولذلك تبنت سياسة النفي للمجرمين إلى ما وراء البحار ، ولذلك أيضاً كانت السفن الملكية تتولى عمليات النقل المتتالي لأولئك المجرمين ، قاذفة بهم إلى شواطئ بلاد الهنود الحمر (أمريكا) الأرض الجديدة .

وبتتالي السنين استطاع أولئك المجرمون تكوين أنفسهم وتنظيم حياتهم التي ابتدأت بالإغارات المتتالية على السكان الأصليين .

ويحدثنا التاريخ عن جرائم الإبادة التي تعرّض لها سكان أمريكا الأصليون (الهنود الحمر) حيث انتهى بهم المطاف إلى إبادتهم إبادة جماعية واقتلاعهم نهائياً .

فالغزاة الجدد لم يستطيعوا معايشة السكان الأصليين بسلام جنباً إلى جنب ، بل حتى فيما بينهم البين ، فقد طغت الأنانية والعدوانية على الإنسانية ؛ فالولايات الأمريكية لم تتوحّد في كيان واحد بسهولة ، بل توحدت بعد حروب دامية استمرت لأكثر من أربعمائة عام .

وبحسب علماء النفس والتحليل النفسي ؛ فإن ما سبق ذكره هو الذي يفسر لنا نفسية وعقلية الساسة الأمريكان ، والتي تميل إلى الأنانية ، وتقديس الذات ، وتضخم الأنا ، والرغبة في التملك ؛ وهو ما يبلور في الإستراتيجيات والسياسات التي تنطلق منها أمريكا تجاه مختلف الأمم والشعوب . فالمسألة ليست حمائم وصقور ، بل تاريخ ممتد لخصه (روجارس) بعبارات يتناقلها ضحايا أمريكا جيلاً بعد جيل ، وهو ما يفسر التستر الأمريكي (بورقة التوت) عبر الترويج لأمريكا بأنها راعية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، و.. و.. إلخ . كل ذلك تكشّف وإنهار مع أنهيار (برجي مركز التجارة العالمي) ويوم بعد يوم كشفت (ورقة التوت) سوءة الساسة الأمريكيين ، وأزالت القناع عن الوجه الكالح الذي عاد لحقيقة أصله ، وهو ما جسده المحافظون الجدد . فخلال عقد من الزمان عاثوا في مختلف أرجاء المعمورة فسادا ، ولعل جرائمهم شاهدة للعيان ، وخصوصاً في العراق وأفغانستان وباكستان ، وليست غزة بآخر المطاف ؛ فقد فاقوا في بشاعة جرائمهم كل تصور فأهلكوا الحرث والنسل ، ولم تردعهم حرمة الأعراض والمقدسات ، بل انتهكوا كل عرض ودنسوا كل مقدس ، وهو ما لم يقترفه التتار في إغارتهم على بغداد عام 656هـ ..

إن ما لم تستطعه أمريكا بالسياسة السادية تمارسه بـ(الفوضى الخلاقة) التي تصل بالمجتمعات إلى نفس النتيجة المرجوة ، ولكن عن طريق الطابور الخامس !! وما لم تستطعه بـ(الفوضى الخلاقة) تمارسه بسياسة (العصا والجزرة) كل بحسبه!!

إن المتتبع لمتوالية الساسة الأمريكان ، وخصوصاً بعد (11 سبتمبر) والإعلان عن الدول المارقة والدول الداعمة للإرهاب بحسب التقييم الأمريكي طبعاً- يجد أن الحديث آنذاك ، عن توجيه ضربات جوية أو غيرها بعد أفغانستان ، كان وشيكاً على اليمن ، ولعل المقاومة العنيفة والشرسة للآلة العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان ، إضافة إلى النمو النووي المتحدي لأبرز الدول المارقة (كوريا الشمالية وإيران) قد حدَّ من الغطرسة والإجرام الأمريكي ، الذي ظنَّ أن العراقيين سوف يستقبلونه بالزهور والرياحين .

كما أن اليمن استطاعت تفادي الضربات أو قل التدخل المباشر آنذاك عبر الاستجابات المتتالية لبرامج واتفاقيات مختلفة المسميات ، والتي منها الأمنية .

وعلى مستوى الداخل اليمني بدا للعيان أن (الفوضى الخلاقة) قد بدت أجندتها تُنفذ على محاور عدة ؛ فقد أصبحت السفارة الأمريكية (قبلة) يرتادها كثير من الصحفيين والوجهاء والمسئولين والمنظمات المدنية المختلفة المسميات والعديد من قادة الأحزاب السابقين واللاحقين . كلٌّ ينفذ الأجندة الخلاقة بحسب الآلية المناسبة له عبر لافتات مختلفة التسميات ، كما أضحى سفير أمريكا سابقاً يمارس دواماً ميدانياً متنقلاً بين القبائل والمنتديات والمنظمات المحلية في مختلف المحافظات اليمنية ، وهو ما أشارت إليه وحذّرت منه آنذاك العديد من الصحف ، ومنها صحف الحزب الحاكم .

ومؤخراً بدت التقارير الأجنبية الصادرة والمتحدثة عن اليمن تتدرج في تقييمها لليمن ، فمن الأشد فقراً وفساداً و ... و ...إلخ ، حيث وصل الأمر بها وبالصحافة الأمريكية خاصة والغربية عامة ، بوصف اليمن بأنها على حافة الإنهيار ، ثم وصفها بأنها دولة فاشلة تسودها الفوضى ، وتهتك الحقوق والحريات ، وتفتقد الأمن ، وينتهي الأمر بأنها محور جديد للقاعدة ، ولا يعني كل ما سبق ذكره أنه غير صحيح كما تروج وسائل إعلام الحزب الحاكم والموالية لها ، بل فيها الصحيح ، ولكن لا يُستغل ليُبرر ويعزز (الفوضى الخلاقة) التي تريدها أمريكا .

وفي قضيتي (حوثي الشمال) و (حراك الجنوب) في حين تبدو الحكومة اليمنية منحدرة في الضعف نتيجة كثير المشاكل المحدقة بالبلاد وتشابكها ، والتي أدت إلى خلخلة العقد والسلم الاجتماعي . ولقد حاولت اليمن مراراً وتكراراً وعبر ساساتها ورسائلها المتتالية طلب أمريكا بإدراج (حركة الحوثي) . كمنظمة إرهابية ، ولكن الساسة الأمريكان لا يرون ذلك ، وفي الشأن نفسه يؤكد العديد من الساسة اليمنيون أن لديهم دلائل وقرائن على دعم إيران للحركة الحوثية ، إلا أن الساسة الأمريكان لا يعتقدون بتلك الدلائل التي يروج لها الساسة والإعلام في اليمن ...

وفي (الحراك) نجد أن مصالح أمريكا أن تمسك العصى من الوسط ؛ حتى تتضح لها الرؤية ، فمرة هي مع وحدة اليمن ، وأخرى تخشى من تطور مسار الحراك ، وثالثة قلقة بشأن انتهاك حقوق الإنسان .

على الرغم من انحراف الحراك السلمي -الذي كُنا نؤيده- جميعاً إلى مسار آخر أضحى يهدد وحدة اليمن أرضاً وإنساناً ، وينتهي المطاف للفوضى الخلاقة إلى التدخل المباشر أو غير المباشر للأمريكان ليعيثوا قتلاً وفساداً واستباحةً كما في معجلة أبين التي تُعد مفتتح لما بعدها ، وما نخشاه حال كحال أفغانستان وباكستان -لا قدر الله- ولكن لابد أن نتفاءل بعام جديد ، فبحلوله ربما يصحوا حكماء اليمن وعقلاؤه من قادة أحزاب وساسة وعلماء ووجهاء يتمكنون من إنقاذ اليمن .

فحصاد السياسة الأمريكية واضح للعيان ، أنها لا دين يردعها ولا أصل غدت إليه تعود .

*مدير تحرير مجلة المنتدى -رئيس اللجنة الإعلامية للملتقى السلفي العام