قراءة في مظاهر أزمة الخطاب الديني
بقلم/ أمين طاهر الصلاحي
نشر منذ: 11 سنة و شهرين و 21 يوماً
الخميس 19 سبتمبر-أيلول 2013 06:16 م
يكاد يُجمع النقاد والباحثون في قضايا الفكر الإسلامي على وجود أزمة حقيقية يعيشها الخطاب الديني السائد، وهو ما يعني وجود أزمة في الوعي الديني، وفي التدين، وفي تنزيل قيم الدين على الواقع، وكم يحز في النفس أن يتصدر الخطاب الديني المأزوم المنابر الدينية والإعلامية، وفي الوقت الذي تشتد فيه الحملة المغرضة على الإسلام من قبل بعض الدوائر المعادية، فإن الخطاب الديني التقليدي لا يعجز عن تصحيح الصورة السلبية عن الإسلام فحسب، بل هو ـ مع الأسف الشديد ـ يشارك في تنميط الإسلام وتشويهه، ثم لا يكتفي بذلك، بل يُعلن النفير على كل المحاولات المخلصة الرامية إلى تصحيح صورة الإسلام، وإبراز جوانبه الحضارية.
وأول مظاهر الاختلال والاعتلال في الخطاب الديني السائد فقدانه التوازن، فهو في غالبه خطاب عاطفي، يقوم على تحريك العواطف، وتجييش المشاعر، ولا مكان فيه لصوت العقل، ومن الطريف أن العقل أصبح سبة عند أصحابه، فهم يلمزون المخالف لهم بأنه عقلاني.!، ولله في خلقه شئون..!
ومن فقدان التوازن في الخطاب الديني السائد أنه يكاد يختزل الإسلام في الحدود والعقوبات، وكأن الإسلام لم يأتِ إلا ليقتل ويجلد ويرجم ويقطع ويصلب.!، وهذه هي الصورة التي تحاول الدوائر الحاقدة على الإسلام تنميط الإسلام بها، وهي صورة مغلوطة وزائفة؛ لأنها تتجاهل المقاصد الكلية والأبعاد الحضارية للرسالة الإسلامية كالشورى والحرية والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان، وتركز على الجانب العقابي وتعطيه أكبر من حجمه، مع فصله عن سياقه التشريعي والمقاصدي.
قضية المرأة هي الأخرى دليل على فقدان التوازن في الخطاب الديني السائد، إذ هو يركّز على الحجاب والتحصين والحماية من الوافد الغريب، وكل ذلك على حساب حقوق المرأة، فهو يهمّش المرأة فكريًّا، ويدعو إلى محاصرتها وإقصائها وتهميش دورها في عمارة الأرض والنهوض بالمجتمع، وقد خرج علينا في الأيام الماضية أحد دعاة الخطاب الديني التقليدي، وهو الداعية السعودي الشيخ يوسف الأحمد بدعوته إلى هدم المسجد الحرام، وإعادة بنائه من جديد بطريقة تمنع من الاختلاط بين الرجال والنساء..!
وهذه الدعوة إلى هدم المسجد الحرام من أجل خرافة الاختلاط التي تلوكها ألسنة دعاة الخطاب الديني التقليدي، تُعد مؤشرًا خطيرًا جدًّا على مدى الأزمة الحادة التي يعاني منها الخطاب الديني في أيامنا هذه، وعلى المآلات التي يمكن أن يؤول إليها. ومن مظاهر عدم التوازن في الخطاب الديني تركيزه على فقه العبادة وإهماله لفقه العمارة، مع أن القرآن يقرر بوضوح أن الله خلق الإنسان للعبادة ولعمارة الأرض، ولكن الخطاب الديني القاصر أوجد قطيعة بين فقه العبادة وفقه العمارة، ولا يخفى حاجة المسلمين إلى فقه العمارة لانتشالهم من واقع التخلف.
مظهر آخر من مظاهر أزمة الخطاب الديني يتمثل في غياب فقه المقاصد، فالخطاب الديني ما زال منشغلًا بالجزئيات والفرعيات عن المقاصد، ومن السهل عليه أن يضحي بالمقاصد الشرعية المعتبرة من أجل قضية جزئية، أو مسألة فرعية اجتهادية.
غياب لغة الحوار وعدم فقه الاختلاف إشكالية أخرى يعاني منها الخطاب الديني التقليدي، وتتجلى أزمته في عجزه عن فهم سنة الله في الاختلاف والتنوّع الفكري والديني والثقافي، ولذلك فهو بدلًا من أن يستحضر حكمة الله في ذلك الاختلاف والتنوّع نراه يضيق ذرعًا بالخلاف وإن كان في مسائل اجتهادية ظنية، ويشحن الجمهور بثقافة الحقد والعِداء والكراهية لكل مخالف.
آفة أخرى يعاني منها الخطاب الديني، وهي اعتقاد بعض رموزه أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، ومنشأ هذه الآفة من التعصب والتقليد الأعمى للأسلاف وعدم الإيمان بنسبية المعرفة، مع أن القرآن الكريم يندد أشد التنديد بذوي العصبية والتقليد الأعمى الذين يرفضون ما لا يعرفون وما لا يألفون، وليس لهم من مستند في رفضهم إلا قولهم: ((إنا وجدنا آباءنا ...))..!
كذلك القرآن يكبح جماح المغرورين بالعلم بتقريره لنسبية المعرفة، كما في قوله تعالى: ((وفوق كل ذي علم عليم))، وقوله: ((وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا))، وقوله: ((وقل ربّ زدني علمًا)).. ومن مظاهر التأزم في الخطاب الديني تخندقه وراء المذهبيات، ولذلك فهو بدلًا من أن ينتصر للإسلام كما في كتاب الله والصحيح الثابت من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينشغل بالانتصار للمذهب، وفي سبيل ذلك يتم اجترار الصراعات التاريخية، وإثارة الأحقاد المذهبية.
وفي سبيل تجاوز أزمة الخطاب الديني نحن بحاجة ماسة إلى تعظيم فقه المقاصد، وإلى تجاوز الخطاب الوعظي الإنشائي بخطاب علمي يُنمّي فينا التفكير، ويدعونا إلى تحليل الظواهر، واكتشاف الأسباب، واكتناه الأسرار.
ونحن بحاجة إلى مناهج تُنمّي فينا الإحساس بالجمال، وتُعلّمنا أدب الحوار، وفقه التخاطب، وفن الجدال بالتي هي أحسن، وتغرس فينا التسامح والتواضع والاعتراف بالآخر.
كذلك نحن بحاجة ماسة إلى تجديد البعد العقلي في الخطاب الديني، وإلى إقامة التوازن الدقيق بين العقل والعاطفة، وهذا هو منهج القرآن في خطابه، ومنهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته وبلاغه.
........................
تقول العرب: إن الخطابة في المحافل الحاشدة تحتاج تدريبًا منذ الصغر وموهبة خاصة, والعرب كان لهم اهتمام خاص بالفصاحة والقدرة على هز المنابر وحشد الجماهير أو تأديبهم كما في خطبة زياد بن أبي سفيان في العراق والمسماة (البتراء)؛ كونه لم يبدأها بـاسم الله، حسب عادة الخطباء, بل افتتحها بالتهديد الشديد والوعيد المخيف، وكذلك خطبة الحجاج حين ولاه عبدالملك على العراق فجمع كبار القوم في المسجد واعتلى المنبر وتلثّم وصمت طويلًا حتى ظنوا أنه (حصر) أي خاف وعجز عن الكلام، وكان - فوق ذلك - قصيرًا، فهمّوا بأن يحصبوه (أي يرمونه بالحصى)، وهي عادة أهل العراق في التعامل مع الخطباء في المنابر الذين لا يُحسنون الحديث, عند ذلك أزاح لثامه وألقى العمامة وصرخ بصوت قوي جليّ، وقد طال الانتظار وحصل جدل شديد بين الناس وارتفعت الأصوات.. فقال:
«أنا ابن جلا وطلاع الثنايا     ***   متى أضع العمامة تعرفوني»
ثم ألقى خطبًا نارية جعلت أوصال الحاضرين ترتعد..
وكلاهما (زياد والحجاج) قالا وفعلا، وقد أخمدا الفتن في العراق.. وسفكت دماء كثيرة في عهدهما.
وصعد عبدالله بن عامر منبر البصرة - يريد أن يخطب وقد أُمِّر عليها - فاشتد جزعه وأصابه الحرج فأمر مساعده (وازع بن مسعود) أن يقوم فيخطب مكانه، فكان أسوأ منه اشتد حرجه وغضبه على زوجته، فقال: ما أدري ما أقول لكم، لكن زوجتي أجبرتني على الحضور فأشهدكم أنها طالق!! ونزل, فارتج المكان بالسخرية والضحك..
وصعد أعرابي المنبر فرأى العيون تحدق فيه، ورأى الصلعات تُبرق فارتج عليه وغضب وصرخ: لعن الله هذه الصلعات..!!، ونزل فأشبعوه ضربًا.
وعكس هذا عتاب بن ورقاء تخلّص من حرجه بما أفرح الحضور، فقد اعتلى منبر أصفهان يوم النحر - وهو أميرها - فارتج عليه، فقال:
«لا أجمع عليكم عيا وبخلاً، ادخلوا سوق الغنم فمن أخذ منكم شاة فهي له وعليّ ثمنها»!
فتسابقوا لسوق الغنم يضحكون ويقولون: «ليت كل الخطب والخطباء هكذا»!!
وتقول العرب: «يجب أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، فصيح اللفظ، جهير الصوت، قوي الحجة، بليغ البيان».
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطيبًا قويًّا موجِزًا، وكان يقول: (لا يتصعدني شيء كما تتصعدني خطبة النكاح)، أي لا يُتعبني ويحرجني، وعلّل الجاحظ قول الفاروق بقرب الوجوه من الوجوه، وكان من السائد أن يقوم - أثناء التقدم لخطبة امرأة - كبير القوم فيخطب في مجلس والد المرأة، وهو مجلس صغير مزدحم الحضور.
وحضر أعرابي خطبة نكاح فأطال الخطيب وغضب الأعرابي فنهض وقال، والرجل يخطب، مقاطعًا له ومشيرًا إليه:
- عندي شغل، فإذا خلص هذا فبارك الله لكم.!!
وصعد يزيد بن المهلب منبر البصرة فارتج عليه، وكان فارسًا شجاعًا، ولا يجيد الخطابة فنزل كما صعد، ثم قال:
«فإن لا أكن فيكم خطيبًا فإنني  *** بسيفي إذا جد الوغى لَخطيبُ»..  فقيل: لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب العرب..!