آخر الاخبار

مليشيات الحوثي تُدرج مادة دراسية طائفية في الجامعات الخاصة. اللواء سلطان العرادة: القيادة السياسية تسعى لتعزيز حضور الدولة ومؤسساتها المختلفة نائب وزير التربية يتفقد سير اختبارات الفصل الدراسي الأول بمحافظة مأرب. تقرير : فساد مدير مكتب الصناعة والتجارة بمحافظة إب.. هامور يدمر الاقتصاد المحلي ويدفع التجار نحو هاوية الإفلاس مصدر حكومي: رئاسة الوزراء ملتزمة بقرار نقل السلطة وليس لديها أي معارك جانبية او خلافات مع المستويات القيادية وزير الداخلية يحيل مدير الأحوال المدنية بعدن للتحقيق بسبب تورطه بإصدار بطائق شخصية لجنسيات اجنبية والمجلس الانتقالي يعترض إدارة العمليات العسكرية تحقق انتصارات واسعة باتجاه مدينة حماةو القوات الروسية تبدا الانسحاب المعارضة في كوريا الجنوبية تبدأ إجراءات لعزل رئيس الدولة أبعاد التقارب السعودي الإيراني على اليمن .. تقرير بريطاني يناقش أبعاد الصراع المتطور الأمم المتحدة تكشف عن عدد المليارات التي تحتاجها لدعم خطتها الإنسانية في اليمن للعام 2025

نقمة الاستقرار!
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 17 سنة و 6 أشهر و 11 يوماً
الأربعاء 23 مايو 2007 07:31 م

قال إن الاستقرار نعمة دائما؟ ليس صحيحا أبدا. فهو قد يكون نقمة وبلاء في أحيان كثيرة. يقول الله عز وجل في سورة البقرة : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". وهناك مثل شعبي يقول: " في الحركة بركة" ، ولو ساد الاستقرار لخربت الدنيا. ولو تكاسل الجسد عن التحرك لضمرت بعض أعضائه، وكلنا يعرف ما يحدث للمياه مثلا عندما تستقر وتركد ، إنها تصبح آسنة . ومصطلح المياه الراكدة يُستخدم عادة للدلالة على وضع جامد متعفن لا ينفع معه إلا رميه بالحجارة والصخور كي يتحرك ويتخلص من جموده المقيت. طبعا لن أمضي في شرح طبائع المياه الآسنة الفاسدة كي لا تظنوا أنني بصدد كتابة مقال كيميائي ، فقد قصدت من سوق هذا المثال كي يكون مقدمة للحديث عن آفة الاستقرار التي تنخر جسد الوطن العربي منذ زمن بعيد ، وأصر على وصف حالة السكون التي أصابت عالمنا العربي بأنها بلاء عظيم أدى إلى تحول منطقتنا إلى ما يشبه البركة الساكنة التي لا تحوي في جوفها إلا المياه الثقيلة الداكنة والحيوانات والديدان والطحالب المائية القذرة، والتي أصبحت بأمس الحاجة إلى التحريك بأي طريقة كانت كي تخرج من صمتها الرهيب وتغير ماءها الخامد القبيح.

يؤكد علماء السياسة والاجتماع أن أهم عنصر للتقدم الإنساني عامة وتحقيق الديموقراطية خاصة يكمن في الحراك الاجتماعي ، أي أن الديموقراطية لا يمكن أن تولد إلا من رحم الصراعات والاشتباكات حتى لو كانت عنيفة ودموية في أغلب الأحيان، فالوضع المزدهر الذي آلت إليه أوروبا وأمريكا مثلا لم يأت فجأة، بل كان نتيجة لقرون من التطاحن والمعارك والدماء. وكلنا يعرف كم خسر الأوروبيون من الأرواح حتى وصلوا إلى حالة الرخاء والتقدم ولاستقرار ومن ثم الديموقراطية التي ينعمون بها الآن. فقد قتلوا من بعضهم البعض الملايين في حروب مدمرة أتت على الأخضر واليابس ناهيك عن التقاتل داخل الدول نفسها، فالمجتمعات الغربية لم تتناحر مع بعضها البعض فقط بل شهدت أيضا حروبا وصراعات داخلية أشد وأعتى ، فأمريكا مرت بحرب أهلية دونها التاريخ. أما بريطانيا ، كما يجادل المفكر الفلسطيني بشير موسى نافع، " فلم تكن الديموقراطية فيها ممكنة لولا انتهاء الصراعات الدموية منذ القرن السادس عشر... لقد ولد الإجماع البريطاني في نهاية مائتي سنة من الحروب الأهلية الطاحنة، وولد هذا الإجماع في ألمانيا من أتون هزائم مدمرة" واضطرابات وتحولات كبيرة. ولا ننسى ثورات فرنسا وإسبانيا وغيرهما. أما إيطاليا فلم تصل إلى بر الأمان الداخلي إلا في وقت متأخر، فقد عاشت كغيرها من الدول الأوروبية فترات عصيبة من الصراعات والمشاحنات الداخلية قبل أن تستقر فيها الأمور وتصل إلى مبتغاها.

بعبارة أخرى فإن حالة الاستقرار والرفاهية والديموقراطية كانت نتيجة نضال عسير ليس فقط ضد الآخرين بل أيضا بين أبناء البلاد أنفسهم ، فكانت الجماعات والأحزاب والفصائل تشتبك وتتناحر وتقاتل بعضها البعض حتى وصلت إلى الإجماع الوطني المطلوب، فمن أهم مقومات بناء الديموقراطية كما يرى بعض المفكرين، هو الإجماع الداخلي والتوصل إلى وضع مشترك يحسم الأمور ويتفق عليه الجميع، فمن دون ذلك تظل البلاد في حالة مخاض. وكلنا يعرف أن المرأة لا تلد مولودها إلا بعد أن تنتهي من مرحلة المخاض المعروفة بالطلق.

وكي يحدث الحراك الاجتماعي والسياسي لا بد من توفر المجال وحرية الحركة حتى لو أدت هذه الحركة إلى صراعات دامية داخل الأوطان ، فحجر الصوان لا يحدث شرارة إلا إذا احتك بقوة بحجر صوان آخر . صحيح أن العرب ناضلوا طويلا وضحوا بملايين الشهداء من أجل التحرر من نير الاستعمار الأجنبي. ولا أحد يستطيع أن ينكر بطولات وتضحيات معظم الشعوب العربية، فالجزائريون خسروا أكثر من مليون شهيد لطرد الفرنسيين من ديارهم . الجميع ناضل وقدم الدماء كي يتحرر من ربقة الغاصبين . لكن كان على الذين حققوا الاستقلال في البلدان العربية أن يعرفوا أن التحرر من المستعمر الخارجي ليس نهاية المطاف، فهو مجرد استقلال أولي، لهذا دعا المفكر التونسي منصف المرزوقي مثلا في كتابه الرائع بنفس العنوان إلى تحقيق "الاستقلال الثاني" ، ويعني بذلك الاستقلال الوطني، أي تحرير الوطن من أعداءه الداخليين الذين ما لبثوا يخنقون حريته ويغتصبون حقوقه وتقدمه ويدوسون كرامته.

ما الفائدة أن نحرر الأراضي العربية المغتصبة من براثن العدو الأجنبي لتسقط بعد فترة في براثن المستعمر الداخلي الذي تحدث عنه شاعر اليمن الكبير عبد الله البردوني عندما قال:" ومن مستعمر غاز إلى مستعمر وطني". والدليل على أن التحرر من الاستعمار الخارجي ليس آخر المطاف أن كل الدول العربية تجمدت وتدهورت في عهد الاستقلال إلى حد أن البعض راح يترحم على أيام المستعمر الغربي بعدما عانى الأمرين على أيدي أبناء جلدته وشاهد أوطانه تنتقل من سيئ إلى أسوء.

لقد كان حرياً بالأحزاب والجماعات التي قادت حركة الاستقلال أن تطلق العنان للشعوب فيما بعد كي تتفاعل وتتصارع بعد أن تلتقط أنفاسها من منافحة الاستعمار كي تصل إلى مبتغاها. لكن الذي حصل أن النخب التي تولت مقاليد الحكم في البلاد العربية بعد التحرير والاستقلال لم يكن في نيتها سوى الاستيلاء على السلطة ومصادرتها وقمع الشعوب وإذلالها بطريقة أبشع من تلك التي اتبعها الاستعمار في اضطهاده لأهالي البلاد التي استعمرها . لقد بدا قادة التحرير ومن والاهم وحل محلهم فيما بعد وكأنهم كانوا ينازعون الاستعمار ليس ليطردوه من ديارهم ويحققوا الاستقلال والكرامة لشعوبهم، بل ليحلوا مكانه، فقمعوا كل صوت حر وشلوا حركة الناس سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، لا بل جمدوا حركة المجتمع وفرضوا عليه استقراراً زائفاً بالحديد والنار حتى تجمد كل شيء وفسد ليصبح تماما كالمياه الآسنة الراكدة التي تحتاج للرمي بالحجارة والطوب إن لم نقل بالنار كي تتحرك وتموج .

إن حالة الاستقرار المزيف التي فرضتها الأنظمة العربية منذ عشرات السنين على أوطانها كانت في واقع الأمر حقا يُراد به باطل . فقد صدعت هذه الأنظمة رؤوسنا وهي تتشدق بالحديث عن نعمة الاستقرار والأمن وضرورته لبناء الأوطان والنهوض بها، لكننا اكتشفنا بعد طول انتظار أن الهدف من فرض حالة من السكون على البلدان العربية لم يكن من أجل البناء والتقدم كما كانوا يدعون ، بل من أجل أن تستتب الأمور للأنظمة الحاكمة و يحلو لها الجو كي تسلب وتنهب وتعبث بمقدرات الشعوب والأوطان وتبقى مسيطرة على زمام الحكم دون إزعاج من أحد، فبحجة الحفاظ على الاستقرار وصون ما يُسمى بالوحدة الوطنية مارست هذه الأنظمة أبشع أنواع الكبت والقمع بحق البلاد والعباد. وماذا كانت النتيجة؟ طبعا تقهقر وتراجع على مختلف الأصعدة. وقد سمعت معلقاً عربياً يقول ذات مرة إن بعض الأنظمة العربية وضعت شعوبها وأوطانها في الثلاجة منذ اللحظة التي وصلت فيها إلى السلطة . وقد جاء كلامه هذا تعبيراً عن حالة التجمد التي وصلت إليها الدول العربية في مختلف المجالات. فلا اقتصاد يزدهر، ولا تجارة تتحرك، ولا حراك سياسي أو اجتماعي، ولا ومن يحزنون، فكل من يحاول أن يرفع رأسه يٌقمع بوحشية عز نظيرها تحت حجج الأمن والاستقرار.  

 

  يحاجج بعض المتفلسفين والمنظرين لأنظمة القمع والاستبداد أن بناء دولة القانون والمؤسسات لا يمكن أن يتم إلا بعد المرور بما يسمونه بمرحلة القمع، وكأن الشعوب عبارة عن قطيع من الحمير والبغال أو حيوانات متوحشة كما وصفها المفكر السياسي هوبز تحتاج للتأديب والتطبيع كي تصبح أليفة لا تتجرأ على المعاكسة والمشاكسة أو الخروج على النص. ويستشهد هؤلاء المتفلسفون بفوائد الأمن والاستقرار وآثاره الإيجابية على البلدان الغربية. ويستشهدون بالمثل القائل إن الحجر المتدحرج لا ينبت عليه العشب. وأن لا تقدم وازدهار من دون استقرار داخلي، وهذا صحيح جزئياً، لكنهم يتعامون قصداً عن الحقيقة القائلة إن الاستقرار الذي وصلت إليه أوروبا والبلدان المتقدمة لم يكن مفروضاً، بل جاء نتيجة طبيعية لحالات طويلة وعصيبة من النضال والصراع. وهو أمر مفقود تماما في تاريخنا السياسي والاجتماعي العربي . والدليل على بطلان نظريتهم أن الاستقرار المزعوم الذي فرضوه على الشعوب والأوطان لم يحقق أي تقدم، بل كما قلت، أدى إلى حالة من الكساد السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الديني في البلاد العربية.

أما الوحدة الوطنية التي تتفاخر الدول العربية بتحقيقها فهي وحدة زائفة ومؤقتة ومرتبطة أولا وأخيراً بزمن فترة القمع والاستبداد ، فما أن يولي زمن الاضطهاد والكبت حتى تنهار تلك الوحدة الوطنية المزعومة، لأنها كانت قائمة على أسس باطلة ومفروضة، وكل شيء يُفرض لا بد وأن ينهار بعد أن تزول العوامل التي أدت إلى فرضه، فقد تمكن النظام الشيوعي من فرض سطوته على الاتحاد السوفيتي لحوالي سبعين عاماً، لكن ما أن سقط النظام حتى سقطت معه الوحدة الوطنية المفروضة، فتشرذمت البلاد إلى ملل ونحل وقوميات وأعراق. وكذلك الأمر بالنسبة ليوغسلافيا السابقة، فقد استطاع زعيمها الراحل جوزيف بروس تيتو أن يلم شمل البلاد بالحديد والنار، لكن ما أن رحل حتى شهدنا ما شهدناه في يوغسلافيا من تقاتل وتطاحن وتفكك وانهيار، ولن يحدث الاستقرار الحقيقي في مثل تلك البلدان إلا عندما تتعارك وتشتبك الشعوب مع بعضها البعض وتصل بعد طول صراع إلى صيغة وإجماع وطني يحقق لها الوحدة الحقيقية والاستقرار الدائم . بعبارة أخرى فإن للاستقرار أوانه، وظهور الاستقرار في غير أوانه هو نقمة لا نعمة، تماما كالنباتات التي لا تنمو ولا تنضج ولا تـُُقطف إلا في وقتها ، ومن يستعجل قطاف العنب يأكل حصرماً حامضاً.