اليمن.. من الفشل في الشراكة إلى القبول بالوصاية
بقلم/ كاتب/لطفي شطاره
نشر منذ: 18 سنة و شهر و 4 أيام
الأربعاء 25 أكتوبر-تشرين الأول 2006 10:46 م

" مأرب برس - خاص "

عندما تساءلت في مقالي الأخير " ماذا لو مات الرئيس ؟ " بعد أن وضع الرئيس علي عبد الله صالح من نفسه ضمانة لبقاء اليمن وشعبه في الوجود ، وصلتني ولأول مرة رسائل شتم وتخوين عبر بريدي الاليكتروني ، والسبب لأني ذكرت الرئيس بالموت وماذا سنفعل لو حصل ذلك له في أية لحظة .. الذين أرسلوا هذه الرسائل بالتأكيد مستفيدين من بقاء الرئيس حيا وفي السلطة فقط ، لم يناقشوا فحوى الموضوع ، ولم يكذبوا الأدلة التي سردتها لاستشراء الفساد ، او نماذج المشاريع التي قلت أنها دلائل لتبديد ثروة شعب .. بل أن أحدهم اتهمني بأني " كلب " أنبح ضد قافلة الرئيس " التائهة " منذ 28 عاما.. في المقابل بعث لي قارئ أخر برسالة هذا نصها : " تريد الصدق ما عدنا نتحمل العيش في بدل اسمه اليمن أصبح مجرد مقبرة لأهله فقط ، فساد عارم ازكم الأنوف وسلطة عصابة تهبر المال العام  وتتسلط على الشعب بأمواله " .. ما ورد في الرسالتين دفعني إلى كتابة هذا المقال .

لقد أثبتت 28 عاما من حكم الرئيس علي عبد الله صالح وحزبه " المؤتمر الشعبي العام " لليمن أنه لم يحقق إلا الإخفاق ، ولم يجني إلا الفشل الدريع في إحداث أي نمو حقيقي للاقتصاد في البلاد رغم الفرص الكثيرة التي أتيحت له ، ومن يكابر أو يكذب ما أطرحه عليه الرجوع إلى الشارع في اليمن الذي وصل معدل الفقر بين السكان إلى حد خطير ومقلق مع انهيار واضح للعملة وغياب استثمارات حقيقية لتقليص معدلات البطالة التي تشكل قنبلة موقوتة ستنفجر يوما ما في وجه النظام إذا لم يقبل حلولا لنزع فتيل انفجارها .. بل أن الوضع ينذر بكارثة على المدى المنظور إذا ترك الحبل على الغارب لهذا النظام الذي فقد مقومات بقاؤه ، فالفوز بالانتخابات على الطريقة " المؤتمرية " في اليمن لا يعني بالضرورة أن الشعب ملتف حول قيادته أو سياسات الحزب الذي لم ينتج إلا الفشل ، ومن يريد التأكد من حالة القلق التي يعيشها النظام الحاكم في اليمن عليه التركيز على خطابات رئيسه " علي عبد الله صالح " الأخيرة ومدى ركونه وتشبثه بالنتائج التي سيخرج بها مؤتمر لندن للدول المانحة .. و تعليق الرئيس كل آماله على مؤتمر المانحين لمواجهة الوضع الخطير الذي صنعه بيده في اليمن أكبر دليل على فشل سنوات حكمه في الـ 28 عاما الماضية ، واستمرارية بقاؤه في السبع السنوات القادمة أضحى مرهونا بما سيسفر عنه مؤتمر لندن للمانحين ، ولعل اللهث وراء استجداء الخليجيين ماليا وسياسيا يعني القبول بشروطهم ، ودولة بحجم اليمن حبباها الله بثروة في باطنها وبحارها ومناخها وطبيعتها الخلابة وتاريخها العريق تتحول إلى دولة متسولة ، يؤكد أن اليمن أكبر ممن يحكمها ألان ، وأعرق وأغنى من جميع دول الخليج مجتمعة إذا وجد للعقل فرصة لاستنهاض كل الطاقات في اليمن عوضا عن سياسة إفقار الشعب والتسول العالمي من اجل البقاء في السلطة .. ووصول رئيس دولة بعد هذه الفترة الطويلة من الحكم إلى الاستنجاد بأموال جيرانه وابتزازهم بترحيل كل مشاكل اليمن من فقر وبطالة وإرهاب وتهريب سلاح وأطفال للتسول إلى أراضيهم إذا لم يساعدوه في الخروج من المأزق الذي يواجهه ، هو إعلان صريح بالفشل ، بل وتذكرني محاولة الابتزاز اليمنية هذه بالطريقة نفسها التي أبتز فيها طاغية العراق السابق صدام حسين جيرانه الخليجيين بأنه " حامي البوابة الشرقية " من المد الإيراني بعد مجيء آية الله الخميني إلى الحكم في طهران ، فنهب أموالهم بقوة جيشه ورعب نظامه ، في الوقت الذي يستخدم النظام في اليمن ضعفه الداخلي ومشاكل الفقر والبطالة والإرهاب وتهريب السلاح كورقة قوة لابتزاز الجيران .

يبدو أن اليمن والوضع الصعب الذي وصل إليه الشعب في ظل حكم فردي فاسد " الرئيس علي عبد الله صالح " ومجموعة من المطبلين " المؤتمر الشعبي العام " جعله أمام خيار وحيد ، وهو القبول بفرض" الوصاية " لتنفيذ ما قد يخرج به مؤتمر لندن للدول المانحة والضامنة ، وخيار كهذا هو مطلب سيقبله الشارع اليمني بترحاب ، وهو الذي شاهد وعانى من ضياع المليارات من القروض والمساعدات التي ذهبت من صناديق الدول والمنظمات المانحة إلى جيوب شلة من المتنفذين الذين استولوا على المناقصات والتهموا القروض ، كما أن " فرض الوصاية " على تنفيذ المساعدات ومراقبتها من قبل الدول المانحة والضامنة ، يجب أن تكون شرطا أساسيا اذا كان الهدف من مؤتمر لندن إنقاذ الشعب اليمني وليس النظام ، الذي وباعتقادي سيقبل بأية شروط بعد أن أصبح في موقف ضعيف ولا يملك خيارات بديلة للتفاوض ، وكل ما يقوم به نظام الرئيس صالح ألان هو الدفاع عن بقاؤه فقط ، لان رفضه لخيار " الوصاية " يعني بداية حقيقية لانهياره السريع .   

وما يجعلني أدعو إلى " فرض الوصاية " على المشاريع والمساعدات وحتى إدارة المناقصات لتنفيذ برنامج الخطة الخماسية المزمع مناقشتها في مؤتمر لندن ، هو أن النظام الذي أوصل البلد إلى مؤتمر عالمي للاستجداء بسبب استفحال الفساد وصعوبة تصديق أن من لا ذمة له سيشرع وسيطبق قانونا للذمة .. أو أن النظام الذي أطلق العنان للمتنفذين لنهب كل مؤسسات ومصانع الجنوب بعد حرب 94 ، ونفر بالمستثمرين عربا وأجانب من مشاريع الخصخصة ، او في الفوز بمناقصات نزيهة رغم العروض الكبيرة التي قدموها كما حدث مع شركة : كيه جي ال " الكويتية التي دفعت مبلغا يقترب من المليار دولار لإدارة ميناء عدن ، أو شركة " الكون " التي قدمت عرضا يصل إلى 160 مليون دولار جرى الكذب عليها ومنحت مناقصة الهاتف النقال لشركة أخرى تتناصف حصتها مع المتنفذين في السلطة .  

للأسف فقد أتيحت للنظام في اليمن فرص كثيرة للشراكة في بناء اقتصاد مؤسسي قوي ونهضة تنموية غير عادية عبر برامج شراكة بين اليمن والبنك الدولي ، والاتحاد الأوربي ، ولعل أكثرها مباشرة وجدية كانت بين اليمن والمملكة المتحدة .

ففي عام 1997 وصل الرئيس علي عبد الله صالح إلى المملكة المتحدة في أول زيارة رسمية لرئيس يمني الى بريطانيا ، ووفقا للإعلام اليمني حملت عنوان " الشراكة مع بريطانيا " ، كنت حينها مرافقا صحافيا لتغطية زيارة الرئيس التاريخية تلك ، للصحيفة التي كنت أعمل فيها وقتذاك " الشرق الأوسط " .. وكان كل من في الوفد المرافق للرئيس من مسئولين ورجال أعمال وعدد كبير من الصحفيين الذين تعرفت عليهم لأول مرة هنا في لندن مجمعين بأن اليمن التي خرجت من حرب عام 1994 بين الشمال والجنوب ، على أعتاب مرحلة جديدة من التغير في سياستها مع العالم ، وانطلاقا من لندن العاصمة المحورية والأساسية لأية دولة شرق أوسطية تريد بالفعل الدخول في علاقات بناء صحيحة وتعاون اقتصادي واسع مع جميع الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية .

فتحت بريطانيا للرئيس علي عبد الله صالح كل أبوابها، بدء من 10 داوننغ ستريت حيث أستقبله رئيس الوزراء توني بلير ، و مرورا بقصر باكنجهام الذي استقبلت فيه ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية الرئيس صالح وعدد من الوزراء المرافقين له ، و إنتهاءا بحفل الغذاء الذي أقامه جورج روبتسون وزير الدفاع البريطاني وقتذاك للرئيس صالح ، وقيام وزيرة التجارة والتعاون الخارجي مارجريت بيكيت حينها " وزيرة الخارجية البريطانية حاليا " بإجراء سلسلة لقاءات مع الرئيس شخصيا في مقر إقامته في فندق كلاريدج الفخم في قلب العاصمة لندن ، لبحث تفاصيل التعاون الاقتصادي المزمع إقامته بين البلدين .

في أحد أجنحة ذلك فندق كلاريدج استقبلني وزير الخارجية اليمني وقتذاك عبد القادر باجمال وأجريت معه لقاءا صحافيا أعلن من خلاله أن اليمن في طريقها لتأسيس علاقة شراكة واسعة مع بريطانيا ، وعندما طلبت منه توضيح معنى كلمة " شراكة " ، أكد باجمال بأن اليمن لا يريد من الشركات البريطانية أن تكون مقاولة في بناء مشاريع التي تتم بقروض ، بل مالكة لها لتأسيس علاقات أقوى بين البلدين ، وأن اليمن من جانبه سيقدم كل " التسهيلات والضمانات المطلوبة " لتأمين هذه الشراكة وجذب الشركات البريطانية إلى اليمن .. هذه عبارات وزير الخارجية اليمني الأسبق ورئيس الوزراء الحالي " عبد القادر باجمال " فيها ضمانات وتسهيلات .. واليوم يردد نفس العبارات للدول المانحة والضامنة ، ولكن السؤال أين هي الشركات البريطانية في اليمن اليوم وبعد مرور 9 سنوات على تصريحات باجمال تلك وتأكيدها من جانب الرئيس ؟ ، وأين هي " الشراكة " التي " لعلع " بها الرئيس و باجمال وقتذاك ؟ ، أليست هذه الحقيقة تأكيد على أن النظام في اليمن يمارس تضليلا على العالم ؟ ، حيث يقدم كل الوعود عندما تعترضه أزمة ، واليوم يقدم نفس الوعود ونفس الشعارات ولكن للمانحين الخليجيين والضامنين الأوربيين والصناديق الدولية .

بدا الرئيس علي عبد الله صالح إثناء زيارته تلك متفائلا عبر لقاءاته مع وسائل الإعلام العربية التي أجرت معه أحاديث صحافية ، بل سعى إلى استخدام تلك الزيارة لتلميع صورته بعد حرب 94 من خلال تأكيده لوسائل الإعلام أن اليمن وبعد القضاء على " الانفصاليين " سيعمها الخير وستفتح أبوابها أمام كل الشركات الأوربية والبريطانية تحديدا ، بعد أن ذهب من يعيق ذلك كما قال ، ويقصد بمن اسماهم بالانفصاليين .. ألان تسع سنوات مرت على تصريحات الرئيس تلك، و 12 سنة على انتهاء الحرب فأين الشركات وأين الشراكة والاستثمارات البريطانية والأوربية ؟ .

في عام 2004 وبعد مرور 7 سنوات على تلك الزيارة التي أقامت اليمن الدنيا فيها ولم تقعدها بفرقعات نارية تصريحات وخطابات المسئولين اليمنيين ببدعة " الشراكة " بين البلدين ، عاد الرئيس علي عبد الله صالح ثانية إلى زيارة بريطانيا ، ومن حسن حظي كنت أيضا مرافقا صحافيا لتغطية الزيارة للصحيفة نفسها " الشرق الأوسط " حيث مقرها الرئيسي لندن ، لاقف شاهدا بين الزيارتين وإخفاق النظام في اليمن من الاستفادة منهما.

في الزيارة الثانية بدا البريطانيين أكثر فتورا ولا مبالاة بأهمية وجود رئيس دولة على أراضيهم ويقوم بزيارة عمل لها ، فأغلقت إمام الرئيس علي عبد الله صالح أبواب مقر رئيس الحكومة 10 داوننغ ستريت في وسط لندن ، ليقطع بالسيارة مسافة ساعة من الزمن للقاء رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في مقره الصيفي بمنطقة " تشيكرز " قرب مدينة أكسفورد ، وأختصر اللقاء بين الرجلين لأقل من 25 دقيقة تركزت جميعها حول نقطة واحدة وهي مطالبة اليمن الالتزام بتعهداته بمكافحة الإرهاب ، خاصة وأن سمعة اليمن دوليا قد تشوهت بين الزيارتين الأولى والثانية ، من شريك اقتصادي وتجاري جديد مع الغرب ، إلى ملاذ آمن للإرهابيين بسبب ضرب المدمرة الأمريكية " كول " في ميناء عدن في أكتوبر 2000 ولحقها العمل الإرهابي الذي أستهدف ضرب الناقلة الفرنسية " ليمبورج " في سواحل حضرموت .. ولعل المفارقة بين الزيارتين التي قام بها الرئيس علي عبد الله صالح إلى بريطانيا في أن الأولى استمع البريطانيين لرغبة ووعود الرئيس في الانفتاح الاقتصادي على الغرب ، وفي الثانية جاء صالح ليسمع من البريطانيين ما يجب عليه عمله كرجل عسكري لمكافحة الإرهاب ، ولم يعد يثقون به كرئيس دولة بعد نكثه للوعود التي قطعها في زيارته الأولى قبل 7 سنوات .. وربما يعود ذلك لكون البريطانيين اعتبروا أن النظام في اليمن غير جاد وغير مسئول أيضا .. غير جاد لأنه أضاع على نفسه وشعبه سبع سنوات في كذبة بدأها بمصطلح " الشراكة " هو أكبر من أن تلتزم به دولة تدار بمزاج رجل واحد ووزراء لا رأي لهم ولا موقف ، ولا يجيدون إلا ترديد عبارة " حفظه الله " .. نظام غير مسئول لأنه أضاع على شعبه فرصا حقيقية من النهوض الاقتصادي والتنموي الذي كان سيبرز عبر " الشراكة " والانفتاح التجاري اللا محدود بين البلدين ، وربما جنب اليمن تلك الحوادث ، وتأكد للبريطانيين أن النظام في اليمن مهووس بالكذب ويتنفس عبر القروض ولا يستطيع العيش إلا عبر طلب المساعدات .

ولذا فبعد أن فقد الرئيس علي عبد الله صالح كل فرص الشراكة التي طلبها هو من الغرب والصناديق والمنظمات الدولية ، لم يبقى عليه إلا أن يقبل " الوصاية " التي يجب فرضها من قبل الدول المانحة والضامنة في مؤتمر لندن الشهر المقبل إذا كان الهدف من المؤتمر بالفعل إنقاذ الشعب اليمني لا النظام الفاسد الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار .. ففي لندن التي اقترح الرئيس صالح منها " الشراكة " وفشل .. ستفرض عليه " الوصاية " وسيقبل .