من الاغتصاب الصهيوني إلى الامتداد الصفوي: كيف دُمرت شعوب المشرق
بقلم/ فضل حنتوس
نشر منذ: شهر و 29 يوماً
الثلاثاء 01 أكتوبر-تشرين الأول 2024 07:47 م
 

على مدار القرن الأخير، شهد المشرق العربي تحولات جذرية تركت آثارًا عميقة في نسيجه الاجتماعي والسياسي، بل وحتى الجغرافي. كان لهذا التاريخ المضطرب أيادٍ خارجية ساهمت في صياغة مصيره، حيث تبلورت في قلب هذه المنطقة مشروعان استعماريان عظيمان اتسمت أفعالهما بالتدمير الممنهج للشعوب، وبثّ الكراهية، وصنع العداوات بين أبناء هذه الأرض. هذان المشروعان، اللذان مثّلا قوى شريرة تسعى لتحقيق مصالحها على حساب حياة الملايين ومستقبلهم، هما المشروع الإسرائيلي الصهيوني والمشروع الإيراني الصفوي.

 

المشروع الصهيوني الإسرائيلي، الذي وُلِدَ في أروقة الصهيونية العالمية وتبنّته قوى دولية، سعى بكل وحشية إلى السيطرة على فلسطين وتهجير أهلها، وخلق وطنٍ لليهود على حساب السكان الأصليين. هذا المشروع لم يكن فقط استيلاءً على الأرض، بل كان مشروعًا للتطهير العرقي، الذي استهدف قلب الهوية الفلسطينية ووجودها التاريخي. لقد طُرِدَ الفلسطينيون من ديارهم، وأُجبِروا على العيش في الشتات، فيما امتلأت الأرض بالمسستوطنات، وتم استنزاف المقدرات الطبيعية والبشرية للشعب الفلسطيني. وعلى مدار عقود من الزمن، لم يكن الصراع مع هذا المشروع الإسرائيلي مقتصرًا على حدود فلسطين، بل امتد ليشمل دول الجوار، محولًا المشرق إلى ساحة حرب مستمرة، مدمرة للبنى التحتية، ومعمقة للجروح التاريخية بين شعوب المنطقة. أدى هذا المشروع إلى خلق حالة من عدم الاستقرار المستمر، والعداوات المستعصية بين الدول العربية، التي ورغم ما تملك من مقومات الوحدة، باتت غارقة في صراعاتها الداخلية والخارجية.

 

أما المشروع الإيراني الصفوي، فقد ظهر كقوة أخرى تسعى إلى استغلال المشرق من خلال أجندة طائفية لا تقل خطرًا عن المشروع الصهيوني. تحت ستار الدين والمذهب، استطاع هذا المشروع أن ينفث سمه في جسد الأمة، حيث عمل على تقسيم المجتمعات العربية من الداخل، مغذيًا الحروب الطائفية والاقتتال الداخلي بين أبناء الوطن الواحد. لقد كانت طهران، في إطار هذا المشروع، تسعى إلى توسيع نفوذها الإقليمي من خلال زرع الميليشيات المسلحة والجماعات المتطرفة في مختلف دول المشرق، من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن، محولة هذه الدول إلى بؤر للصراع والفوضى.

 

هذا المشروع الصفوي لم يكن مجرد تدخل سياسي، بل كان خطة متكاملة لتمزيق النسيج الاجتماعي للمشرق، حيث تغلغلت الطائفية في كل زاوية، وأصبحت العداوات الطائفية سيفًا مسلطًا على رقاب الشعوب. ما حدث في العراق وسوريا ولبنان واليمن، على وجه الخصوص، كان نتيجة مباشرة لهذه السياسة التوسعية. إيران، بمشروعها الصفوي، لم تكن تسعى فقط للهيمنة السياسية، بل كانت تحاول خلق واقع جديد، يعزز نفوذها الطائفي ويفرض هيمنتها الفكرية والسياسية على شعوب المنطقة.

 

ما يربط بين هذين المشروعين، الصهيوني والصفوي، هو أنهما سعيا بشكل مشترك إلى تحقيق مصالحهما الضيقة على حساب شعوب المنطقة. كان الهدف دائمًا هو السيطرة والهيمنة، سواء من خلال الاستيطان والاحتلال كما هو الحال مع المشروع الصهيوني، أو من خلال التغلغل الطائفي والسيطرة الأيديولوجية كما هو الحال مع المشروع الصفوي. كلا المشروعين كان لهما تأثيرات كارثية على حياة الملايين من الناس، حيث أراقا الدماء، ودمّرا الأوطان، وأدخلا المشرق في دوامة لا تنتهي من الحروب والصراعات.

 

وإذا نظرنا إلى نتائج هذه المشاريع على الأرض، نجد أن المشرق الذي كان يومًا ما منبع الحضارات، ومهد التعددية والتنوع الثقافي، قد تحول إلى ساحة للفوضى والدمار. شعوب كانت تتعايش منذ آلاف السنين رغم الاختلافات الدينية والعرقية، أصبحت اليوم غارقة في بحر من الكراهية والعداوات المصطنعة. الحكومات باتت ضعيفة، والمجتمعات ممزقة، والثروات منهوبة، والشباب مشردون بين المنافي والقبور.

 

إن ما فعله المشروع الصهيوني الإسرائيلي في فلسطين، وما يفعله المشروع الإيراني الصفوي في دول المشرق، هو جريمة في حق الإنسانية، وجريمة في حق شعوب المنطقة التي دفعت وما زالت تدفع الثمن الباهظ من دمائها وأراضيها ومستقبلها. بات واضحًا أن هذه المشاريع، رغم تباين أهدافها الظاهرة، تتقاطع في استراتيجياتها المدمرة، حيث تلتقي في نقطة واحدة: تحويل المشرق إلى منطقة ضعيفة، غير مستقرة، يسهل السيطرة عليها واستنزاف خيراتها.

 

من هنا، لا يمكن النظر إلى المشرق بمعزل عن هذه المشاريع الاستعمارية التي تسببت في انهيار بنيانه الاجتماعي والسياسي. إن ما يحتاجه المشرق العربي اليوم ليس المزيد من الانقسامات والحروب، بل هو العودة إلى جوهره الحقيقي كمنطقة تجمع بين الشعوب، وتوحدهم رغم اختلافاتهم. هذا لن يتحقق إلا من خلال وعي جمعي يقف في وجه هذه المشاريع التدميرية، ويدرك أن الحل يكمن في وحدة الصف، واستعادة الهوية الوطنية الجامعة التي لا مكان فيها للكراهية والتفرقة.

 

فإذا كان القرن الماضي قد شهد بزوغ هذين المشروعين وتسببهما في معاناة لا توصف، فإن المستقبل يتطلب مقاومة هذه الأفكار المدمرة، والعمل على بناء شرق أوسط جديد، قائم على العدل والمساواة والتعايش. هذا هو التحدي الأكبر أمام شعوب المنطقة، وهو السبيل الوحيد لإنقاذ ما تبقى من روح المشرق، وإعادة الحياة إلى هذا الركن من العالم الذي لطالما كان منبعًا للنور والحضارة.