قراءة في سلوك الثورات
بقلم/ مراد العزاني
نشر منذ: 11 سنة و 3 أشهر و 22 يوماً
الإثنين 19 أغسطس-آب 2013 06:05 م

إن المتأمل في متون السجل التاريخي العربي سيدرك ببساطة أن الإشكاليات التي ما زالت تواجه أمتنا وتعرقل تقدمها حضاريا هي ذاتها التي واجهت أوروبا وعرقلت تقدمها قبل القرن الثامن عشر.

تتمثل تلك الإشكاليات عامة في إشكاليتي التخلف والاستبداد اللتين أخذتا في الاتساع والتراكم حتى استعصتا على كل الحلول التي كانت تظهر عبر مشاريع التنوير العربية من وقت لآخر، لتصبَّا جام تراكماتهما المعقدة أمام هذا الجيل.

بدأت تلك الإشكاليات في التشكل منذ اللحظة التي تم فيها اختطاف واحد من أهم مبادئ أنظمة الحكم التي يمارسها العالم المتمدن اليوم وإن بمسميات جديدة تندرج ضمن مكونات النظام الديمقراطي، وهو مبدأ الشورى.

منذ تلك اللحظة، والشعوب العربية ترزح تحت القمع والاستبداد واغتصاب الحكم بأدوات مختلفة تشكلها عامة عوامل العصبية والفئوية.

وبين لحظة اختطاف ذلك المبدأ ولحظة انبلاج أحداث الربيع العربي لا شك أن وعي الشعوب العربية وحتى الإسلامية قد أخذ يتراكم وينمو مقابل الاستبداد والتخلف، وما الربيع العربي إلا مؤشرا هاما على ذلك الوعي الذي أنضجته القرون، ومعطيات الحضارة الإنسانية ومخرجاتها المختلفة اليوم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.

إن مؤشر الربيع العربي يدل دلالة واضحة على قدرة الشعوب العربية على ابتكار آليات جديدة في اختيار حاكمها وفرض إرادتها. أبرز هذه الآليات تجلت في ثورات الربيع السلمية التي تعتبر بمثابة إعلان عن انتهاء حقبة الاستبداد، وإيذانا بفتح بطريق جديد نحو الحرية والكرامة والنهوض والانبعاث الحضاري.

بل إن بعض المفكرين ذهبوا أبعد من ذلك ليؤكدوا أن ذلك الحدث سيختصر على العرب مائة عام من العزلة الحضارية ليتسنى لهم اللحاق بالغرب وركب حضارته. مستندين في ذلك على حقيقة أن التحولات الحضارية الكبرى للشعوب تبدأ بتغير ثوري في فكرها ووعيها الإنساني عادة ما يتبعه تصاعد للتقدم والتطور في العلوم الطبيعية.

بيد أن الربيع العربي والمشهد الذي آل إليه بدا مكتنفًا بالغموض على ضوء المتغيرات التي شابت ربيع الثورة المصرية، وتتداعى باتجاه الثورة التونسية، وينتظر المجهول بقية ثورات الربيع وإن تفاوت ذلك من دولة إلى أخرى.

فانقلاب الجيش المصري على رئيس منتخب مثل حالة معقدة لذلك الربيع. فمع تزايد حالة الاستقطاب الحاد والاعتقالات التي طالت رموز الإخوان والاقتحام لساحات اعتصاماتهم وفضها بالقوة، الذي تسبب في قتل المئات وإصابة الآلاف منهم أصبحت الدولة المصرية قابلة للانفجار والدخول في أتون حرب أهلية.

والمشهد في سوريا قاتم وأقرب ما يكون إلى حرب أهلية. يزداد المشهد قتامة مع تقارير تتحدث عن أن الحالة السورية قد تستمر لأكثر من عشر سنوات.

وأيضا الوضع ليس بأحسن حال في ليبيا التي لم تتعاف بعد، ولا اليمن التي يخوض الفرقاء السياسيون فيها حوارا لا يوجد ضامن حقيقي لتنفيذ نتائجه.

سؤالنا إزاء هذه الأوضاع: هل ما زالت تلك الحالات التي آلت إليها أحداث الربيع العربي تمثل حالة ربيعية (مصطلح نستخدمه للتفاؤل بما هو قادم)؟ أم أنها تمثل حالة شتوية لتنذر بأن القادم سيكون أسوأ؟

علي الرغم من سوداوية المشهد السياسي الذي أنتجه الربيع والذي بطبيعته يفرض علينا قراءة تشاؤمية، فإننا لا نستطيع أن نطلق أحكامًا نهائية أو مصطلحات ثابتة لتوصيف ذلك المشهد.

نحتاج قبل ذلك إلى إلقاء نظرة عميقة ومقارِنة للتجارب الثورية التي قامت في العصر الحديث، وذلك لمعرفة العوائق التي واجهتها والأزمات التي مرت بها. ليس الغرض من ذلك إسقاط تلك التجارب بحذافيرها على بلدان الربيع العربي، فحتما لكل بلد تجربته وخصوصياته، ولكن قد يساعدنا ذلك على فهم واقعنا وإدراك التحديات والعوائق التي تواجه ثوراتنا.

فهذه الثورة الفرنسية -التي تعتبر مثلا الأقرب إلى الحالة المصرية- قام بها الشعب الفرنسي في عام 1789م ضد الملكية المطلقة، فحطموا سجن الباستيل وأعطوا الجمعية العمومية الثقة لصياغة دستور مؤداه قلب نظام الحكم في فرنسا إلى ملكية مقيدة.

وما إن نجحت الثورة في تحرير الفرنسيين من الاستبداد والقضاء على الطبقية ونشر قيم العدل والمساواة حتى احتدم الصراع بين الثوار لينقسموا إلى ثلاث فصائل: عرفت حينذاك بالجيرندين، وحزب السهل، واليعاقبة.

وأصبح -على إثر ذلك- لكل فصيل رؤيته لشكل النظام وما يتعلق بالملك السجين وعلاقة فرنسا مع الممالك الأوروبية.

وبسبب الصراع بين الفصائل الثورية وجدت فرنسا نفسها مطوقة لا سيما بعد إعدام الملك، ونتيجة لخشية الدول الأوروبية من انتشار المبادئ الثورية انقضت هذه الدول من النمسا إلى إنجلترا إلى إسبانيا على فرنسا ملحقة بجيشها هزائم متتالية.

استخدم اليعاقبة هزيمة الجيش الفرنسي أمام الحلفاء ذريعة للقضاء على شركائهم الثوريين (الجيرندين) متهمين إياهم بالتساهل والتواطؤ ضد مصلحة الوطن. فأقاموا لجنة الأمن العام التي خولت سلطة دكتاتورية مطلقة لتتولى كيفما تشاء أمر المحافظة على السلام في الداخل ودفع خطر الحلفاء في الخارج، فنصبت المحاكم الثورية ليتم تصفية الخصوم السياسيين واعتقالهم ومن ثم انحصرت السلطة فيهم.

تمكن كثير من الجيرنديين المعتقلين من ترك سجونهم لينتشروا في أنحاء فرنسا يثيرون الرأي العام على الفظائع التي كان يرتكبها اليعاقبة فثارت عدة أقاليم.

ولكن اليعاقبة استطاعوا تنظيم صفوفهم من جديد ليحرروا الأرض الفرنسية من سطوة الجيوش الأجنبية وليقمعوا الحركات الداخلية.

وعلى الرغم من إحراز ذلك الانتصار فإن الحكومات المتعاقبة ظهرت عاجزة عن معالجة المشاكل التي واجهتها، وعن نقل الفرنسيين إلى واقع أفضل.

فكان التفاوت الاقتصادي بين طبقات الشعب ماثلا للعيان, وكثرت الخروقات للدستور, واشتد ضيق الشعب واستنكاره لبذخ الهيئات الميسورة، واصطدمت الحكومة بالمساكين الذين واجهتهم أدوات القمع لمطالبتهم بالمساواة، واصطدمت أيضا بالملكيين وأصبحت بين ضغط اليسار واليمين.

طرحت على بساط البحث بحكم الضرورة مسألة حكم عسكري يؤمن لفرنسا هدوءا داخليا وليدفعها على طريق التوسع الاستعماري، فكان ذلك على يد نابليون الذي كان قنصلا ثم ما لبث أن أصبح إمبراطورا متوجا سنة 1804م.

وهكذا عادت الحكومة في فرنسا سيرتها الأولى، وانتهت مقاليد الحكم في فرنسا إلى يد رجل واحد، وانهزمت أمام الإمبراطور مبادئ الحرية والإخاء والمساوة وامتلأت مناصب الحكومة بشيعته وأنصاره.

وبذلك انتهى عهد الجمهورية الفرنسية الأولى رسميا واستمر الحال على ذلك حتى قامت ثورة الثلاثة الأيام عام 1930.

مثال آخر لسلوك الثورات، الثورة الروسية التي تشبه إلي حد كبير الثورة السورية من حيث اتسامهما معا بالعنف، ومن حيث حجم الدمار الهائل الذي خلفته كل منهما.

ففي اليوم الأول من انطلاقها عام 1905, يفتح حراس قصر الشتاء النار على المتظاهرين من العمال لاعتقادهم أنهم جاؤوا للانقلاب على الملك فيردون ألفًا منهم قتلى.

لم يتوقف العنف عند ذلك وإنما أفضت تلك الأحداث إلى مواجهة دامية بين الأعراق أدت إلى مذابح الأرمن والتتار عام 1905- 1906.

وهي الأحداث التي ألحقت أضرارا بالغة بالمدن والحقول الزراعية، وعلى إثرها أجبر القيصر على توقيع وثيقة تم بموجبها منح الحقوق المدنية الأساسية وسمح بتشكيل الأحزاب السياسية.

تسببت تلك الوثيقة في انقسام حاد بين الفصائل الثورية الروسية، فبينما أعرب الليبراليون الروس عن ارتياحهم لقرار القيصر, دعا الاشتراكيون الروس إلى انتفاضة مسلحة حتى الانتهاء من القيصرية.

تخللت تلك الانتفاضة التي دعا إليها الاشتراكيون بعض الأعمال الإرهابية والاضطرابات العمالية، ورفْض الفلاحين دفع الضرائب، ثم تمرد عسكري.

ولقمع تلك الانتفاضات أرسل القيصر كتيبة موالية له على طول سكة حديد سيبيريا وقوات خاصة إلى موسكو، وتم استخدام المدفعية، واحتدمت حرب شوارع في موسكو أدت لقتل نحو ألف شخص، فضلا عن الدمار الذي لحق بأجزاء من المدينة، وبحلول أبريل/نيسان 1906 كان قد تم إعدام أكثر من 14000 شخص، وألقي 75000 في السجون.

تلك الأحداث تركت روسيا في حالة من الاستقرار المتوتر، الذي بدوره سمح للروسيين بالمضي قدما في التطلع للدولة الوطنية.

في النهاية آلت تلك الأحداث إلى ثورة 1917 التي كان لها الدور الأبرز في تغيير مجرى التاريخ.

إن العموميات أو الدروس التي يمكن استخلاصها من سلوك الثورات -علما بأنها قامت في ظروف مغايرة زمانا ومكانا- هي أن سقوط الأنظمة المستبدة لا يمثل المحطة الأخيرة لتعلن الثورات منها انتصاراتها.

فهدف إسقاط الأنظمة عادة ما يوحد الفصائل الثورية، ولكن لما كانت الفصائل الثورية لا تمثل شريحة جماهيرية واحدة, اقتضت السنن الثورية أنه ما أن يكتب النجاح لأي ثورة في إسقاط النظام, حتى يدب الخلاف والصراع بين فصائلها, وذلك لاختلاف دوافعها الثورية، ولتباين رؤاها حول مرحلة ما بعد الثورة.

تزامنا مع ذلك تبدأ بقايا الأنظمة المتهاوية في التعافي والخروج من حالة الارتباك التي تعيشها ومن ثم تقوم بإعادة ترتيب صفوفها وتقوية تحالفاتها لتشن حربا مضادة على القوى الثورية وبأساليب جديدة وتكتيكات مختلفة.

فالقوى الرجعية التي كانت قد توارت تستطيع العودة من جديد بأسماء قديمة أو جديدة, وتستطيع تكريس نفسها في مؤسسات راسخة، كما تستطيع أن تبني تحالفات داخلية وأخرى إقليمية.

والأغرب أن بعض تلك التحالفات قد يتم بناؤها مع بعض من القوى الثورية بدافع النكاية بالشركاء الثوريين، أو الخوف من نجاحهم في إدارة شؤون البلاد.

ولكن ثمة أمر يمكن أن نستنتجه وهو -أن نتائج الثورات تكون خطيرة وعظيمة بقدر ما تكون كلفتها أليمة وكبيرة. والنجاح لا يكتب للثورات إلا بعد أن تشق بجهودها المتواصلة طريقا طويلا في الكفاح والتضحية.

كما أن نجاحها الكبير مرهون بصلابة الإرادة لدى القائمين عليها, والتزامهم بالقيم التي ثاروا من أجلها, ودرجة وعيهم بالمخاطر التي يواجهونها, ومدى استعدادهم للتضحية في إزالة تلك المخاطر والتغلب عليها. فالتحولات الكبرى والنهوض بالأمم لا تصنعها إلا شعوب مؤمنة إيمانا عميقا بقضيتها ومستعدة للتفاني في سبيلها.

ومما لا شك فيه أنه ما قام شعب بثورة ضد من يستبد به ويسلبه حقوقه وهو مؤمن بعدالة قضيته ومخلص لها إلا نجح في تحقيق هدفه والوصول إلى ما يصبو إليه وإن عانى في سبيل ذلك أشق الأهوال.

*الجزيرة نت