ماذا تغيّر في اليمن؟
بقلم/ د. عمر عبدالعزيز
نشر منذ: 12 سنة و 4 أشهر و 24 يوماً
الأحد 08 يوليو-تموز 2012 05:00 م

توجيهات صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة بمنح اليمن مساعدة عاجلة تقدر بنصف مليار درهم إماراتي، وما تبع ذلك من حملة شاملة لمساعدة اليمنيين على تجاوز الضائقة التي يواجهونها هذه الأيام.. كل تلك المبادرات الأخوية الصادقة، تدل على أن الإمارات كانت وما زالت نعم الشقيق في وقت الضيق.

لكن هذا ليس نهاية المطاف، فالمُشكلة القائمة في اليمن لا علاقة لها بأسباب منطقية، ناجمة عن كوارث طبيعية، أو فقر في القابليات والإمكانات، ولكنها وبكل بساطة، ناجمة عن المنطق الذي ساد في إدارة أمور الدولة على مدى عقود ثلاثة من الظلم والحيف وسوء توزيع الدخل القومي، والإصرار على تجفيف منابع التنمية من خلال تغوُّل النهب والسلب، وتعميم بؤس الحال، من خلال التطلع غير السوي للمعونات الخارجية، كما لو أنها المخرج من الحالة القائمة.

لقد أوصل النظام السابق البلاد إلى حافة الفشل، وكانت إدارة الحروب الداخلية المُترادفة مع تجارة السلاح، بالإضافة إلى منطق إدارة الأزمات بمزيد من التأزيم، والعمل على شراء الذمم والولاءات من خلال المال العام المُستباح، وتطويع الأنظمة والقوانين لإرادة وتقديرات الحاكم الفرد.. كل هذه التصرفات غير المسؤولة، أفضت إلى ما آلت إليه الأحوال في بلد كان يمكنه أن يكون رافداً كبيراً لنماء مُتعاظم..

وأنا لا أقول هذا جزافاً، بل من خلال ثقافة عالمة بالاقتصاد ومقدماته، والتنمية وأسبابها. والشاهد أن اليمن الذي يمتد على 555 ألف كيلومتر مربع، ويسعد بأكثر من 300 جزيرة بحرية واعدة، ويتوفّر على عدد من السكان يصل إلى 25 مليون نسمة، وإلى حضور مهجري مُترع بالمال والخبرات الثمينة، بالإضافة إلى تنوُّع كبير في الجغرافيا الجيولوجية، قادر على الصعود إلى ذرى التاريخ الذي يستحقه هذا الشعب الكريم.

فاليمن تطل على 4 بحار، هي المحيط الهندي، وبحر العرب، والبحر الأحمر، وخليج عدن، بطول ساحل متنوع في بيئاته البحرية يصل إلى حوالي 2000 كم؛ كما تنتشر سلاسل الجبال العالية التي تقدم مناخاً سياحياً استثنائياً، وأمطاراً موسمية لا تتوقف طوال أيام الصيف، ويمكنها أن تنتج سلة فواكه وخضراوات مستقبلية لعموم الجزيرة العربية.

وبالتوازي تمتد وديان الحضارات التاريخية الكبرى، ابتداءً من مأرب وحتى المهرة في أقصى الشرق، لتقدم بيئة استثمار مهملة، لا تقل عن 300 ألف كيلومتر مربع، ثم هنالك السواحل المفتوحة على شرق إفريقيا وامتداداتها، والهند والجزيرة العربية، ومدن البحار كافة. ولا ننسى في هذا الباب، الثروات الجيولوجية الواعدة التي طمرتها القرون، وتُركت على حالها منذ الحضارات القديمة.

ومع ذلك، تشير كافة المؤشرات إلى أن متوسط دخل الفرد يتناقص بمتوالية عددية مُخيفة، كما تنتشر الأمّية التي كانت معدومةً يوماً ما في الشطر الجنوبي من الوطن، ويزداد تفاوت الدخول، حتى يصبح الغنى الفاجر ترميزاً بائساً للفقر الأسود الذي يحيق بالملايين، وتنعدم الخدمات الرئيسة.

ومن المؤسف أن المعالجات القائمة لهذه المسائل تختلف جوهرياً عن الظفر الرفيع في أبين، حيث أثبتت الإرادة السياسية تخرصات وخرافات القائلين بأن الإرهاب القاعدي قوة لا تُقهر، وفي المقابل، تبدو الأمور مُفارقة على خط مُناجزة المجرمين المأجورين الذين يعْتدون على شرايين الحياة في البلد.

عهود الأوليغاركيا العسكرية المالية تُعيد تجديد خرائبها، لتُثبت للقاصي والداني سقوط التوافقية السياسية، وعجز حكومة الوفاق الوطني، ولتحقق استيهاماتها بإسدال الستار على المبادرة الخليجية برمتها، وليدخل الجميع في نفق التنافي العدمي، وصولاً إلى اليأس المطبق. وعلى خط مُتّصل، وبعد مرور شهور ثمينة من عمل حكومة الوفاق الوطني، ما زالت المُكايدات السياسية سيّدة الموقف، وما زالت الآليات الخائبة هي ذاتها؛ فبدلاً من الشروع الفوري في التخلّي عن تلك الآليات المُكبّلة للمبادرة والإبداع، ما زلنا نعيش ذات الحالة، وما زالت المركزية المالية والإدارية سيدة الموقف، وما نسمع عنه من اتجاهات لتسيير الخدمات في بعض المحافظات ما زال حبراً على ورق، لم يلمس المواطنون ثماره حتى اللحظة.

لا أعرف شخصياً ما الذي يمنع تحرير التجارة، وإلغاء نظام الوكلاء الحصريين في بلد لا يحتمل هذا النمط من تدوير الاستيراد والاستهلاك؟ وما الذي يمنع تحرير النقل الجوي في بلد يتّسع لعشرين مطاراً داخلياً على الأقل، فيما يفتقر حقاً إلى خدمات نقل بري تجابه الطبيعة الجبلية المعقدة، مع توفر عمق جوي مناسب لتسهيل تنقلات الأفراد والسلع المختلفة؟ وما الذي يمنع تحرير النقل البحري الذي سيشكل رئات تنمية حقيقية في تلك البحار المتعددة؟ وما المانع من وضع النقاط على الحروف حول الوضع الماثل في حالة النفط والغاز؟

ولماذا الإصرار على عدم توضيح الكميات المستخرجة ومصائرها؟ وكيف يمكننا تفسير استمرار الحال في الوضع المائي المتردي، رغماً عن أمطار الصيف الغزيرة التي تهطل على مدى ستة أشهر.. يومياً ودون توقف؟! وكيف يمكن تبرير ما يسمى بالميزانيات الخاصة، غير المعلنة حصراً، بعد أن تكشّفت فداحات السطو غير القانوني على مليارات الريالات شهرياً؟

هذه الأسئلة وتلك الأوضاع ليست وليدة اليوم، لكنها كانت وما زالت تنوء بكلكلها على اليمن، ولم تتخذ حكومة الوفاق الوطني إجراءات جذرية في مواجهتها..

في ظل غياب رؤية استراتيجية تنموية مشفوعة بإرادة سياسية يدعمها القانون والنظام، وما زالت نظريات التبرير القائلة بضخامة الاستحقاقات عطفاً على العمق السكاني الذي يصل إلى 25 مليون إنسان تطل برأسها، مُتناسية أن هذا العمق السكاني هو الضمان الأكيد والمضمون لتنمية أُفقية شاملة.

على هؤلاء وأمثالهم أن يتأمّلوا في ما يجري في الصين والهند، اللتين تمثلان نصف سكان العالم، حتى يعرفوا معنى التنمية المعاصرة.

إن الاحتضان الخليجي المحمود للشأن اليمني، ابتداءً من المبادرة الحكيمة التي رصفت الطريق للتّسوية السياسية، مروراً بالمخصصات المالية المليارية لمؤتمر المانحين الأخير، وحتى المساعدت الناجزة لدولة الإمارات العربية المتحدة.. كل هذه محطات تمثل حقاً وفعلاً قيمة معنوية ودلالية ومادية مؤكدة، غير أنها لن تجدي نفعاً إذا لم يتغيّر الوضع الداخلي باليمن، ويتم الشطب على سيئات الماضي القريب.

بروفة «أبين» خير مثال للإرادة السياسية الواعية القابضة على جمرة الحقيقة. اليمن ليس بحاجة إلى من يمنحه، بل إلى فن اصطياد الفرص. حكومة الوفاق الوطني بحاجة الى تفتيح آفاق التنمية بدلاً من مذلة الشكوى لغير الله، فاليد العليا خير من اليد السُفلى.