مصر والجزائر: اعتراف متأخر
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 15 سنة و 6 أيام
الإثنين 07 ديسمبر-كانون الأول 2009 04:35 م

الدكتور مفيد شهاب وزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية المصري فاجأنا، مثلما فاجأ الكثيرين، عندما اعترف يوم امس بان مشجعين مصريين كانوا وراء الاعتداء الذي تعرضت له حافلة كانت تقل لاعبي فريق الجزائر لكرة القدم قبيل مباراتهم مع نظرائهم المصريين على استاد القاهرة، للتأهل للتصفيات النهائية لكأس العالم الصيف المقبل في جنوب افريقيا.

هذا الاعتراف 'المتأخر'، الذي نقلته وكالة انباء الشرق الاوسط الرسمية، وادلى به اثناء مخاطبته اجتماعا للحزب الوطني الحاكم، جاء ردا على محطات تلفزة مصرية 'خاصة' اصرّت على ان لاعبي المنتخب الجزائري هم الذين قاموا بالاعتداء على الحافلة، وحطموا نوافذها من الداخل، وشجّوا رؤوس زملائهم بقضيب حديدي كان في حوزتهم لحث الاتحاد الدولي لكرة القدم على الغاء المباراة، او نقلها الى عاصمة اخرى، وهي رواية صدقها الكثيرون للأسف.

الدكتور شهاب، الذي اعرفه شخصيا حيث كنت احد تلاميذه، ودرست على يديه مادة المنظمات والقوانين الدولية، لم يتردد في توجيه اللوم الى الدور الذي لعبه الاعلام المصري في الأزمة مع الجزائر، وخطورته. واشار باصبع الاتهام الى قنوات تلفزيونية خاصة، مؤكدا ان العلاقات الدولية لا تحكمها الانفعالات، وان المصالح ابقى من العواطف.

هذه خطوة جيدة، تعكس توجها تصالحيا من قبل الحكومة المصرية لطي صفحة الخلاف مع الجزائر، واعادة الامور الى سيرتها الاولى، ولو بشكل تدريجي، الامر الذي يتطلب توجها مماثلا من الحكومة الجزائرية، او هكذا نأمل، لان استمرار التوتر في العلاقات لا يخدم الا ذوي النوايا السيئة في البلدين.

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن صمت الدكتور شهاب، والعديد من المسؤولين المصريين الآخرين، طوال فترة الأزمة، وتجنبهم ذكر كل هذه الحقائق، حيث مارس بعض قنوات هذا الاعلام الخاص، المعزز بكتيبة من الفنانين ومقدمي البرامج المشهورين، كل انواع الكذب والدجل، والتحريض ضد شعب شقيق، بل وضد روابط الدم والعقيدة والتاريخ التي تربط مصر بأشقائها العرب والمسلمين.

فظهور مسؤول مصري كبير في وزن الدكتور شهاب على شاشات التلفزة في ذروة الأزمة ساردا الحقائق، ومطالبا بلجم 'حالة السّعار' التي سادت قنوات تلفزيونية معينة، وبعض الوجوه الحاقدة على العرب والمسلمين، كان سيؤدي حتما الى التهدئة، وتجنب الكثير من الخسائر، ان لم يؤد الى منعها، وقطع الطريق على هذه الجوقة، والاضرار التي الحقتها بمصر ومصالحها، وعلاقاتها مع اقرب اشقائها.

' ' '

بعض القنوات التلفزيونية المصرية، بل وبعض مقدمي البرامج فيها بشكل اصح، ينفذون، ونقولها بأسف، اجندات خاصة، ليست لها علاقة بمصر ومصالح شعبها، ويفتقرون الى الحد الادنى من الثقافة السياسية، وفهم طبيعة العلاقات الدولية، وكل رصيدهم محصور في توجيه معلقات من الشتائم لخصومهم، او خصوم من يقفون خلفهم، الذين يحركونهم عن بعد بالروموت كونترول، هؤلاء الذين نهبوا ثروات الشعب المصري وعرقه، واقاموا دولة داخل الدولة.

ولا بد من التسجيل هنا، بانه مقابل هذه الحفنة الحاقدة في الاعلام المصري، ونعترف بانها حفنة مؤثرة، هناك مخزون كبير من العقلاء في صحف ومحطات تلفزة مصرية، كانوا صوت العقل، بابرازهم الوجه المشرق والمسؤول لمصر وهويتها الوطنية العربية والاسلامية.

نعم.. بعض اوساط الاعلام الجزائرية خرجت عن الاصول، وتطاولت على الشعب المصري، وحرضت ضده بطرق بشعة، وروجت لاكذوبة تعرض بعض المشجعين الجزائريين للقتل في القاهرة، ولكن هذه الاوساط الاعلامية الجزائرية محدودة التأثير، ولا تقارن مطلقا بالمدافع الاعلامية المصرية الثقيلة في المقابل، التي جيشت كتائب وفرقا من الفنانين المعروفين، لنفث السموم وحفر جروح غائرة في نفوس الاشقاء الجزائريين، مثل قول احدهم 'انها ليست ثورة المليون شهيد.. بل المليون لقيط'، وهي كلمات معيبة لا يمكن الا ان تمثل قائلها ومستواه الاخلاقي، المتدني، وليس الشعب المصري الاصيل المعطاء الذي عانقت دماؤه دماء اشقائه الجزائريين اثناء حرب التحرير، وقدم آلاف الشهداء في خدمة قضايا امته وعقيدته.

هذا الاعلام نفسه يخوض حاليا حملات تشويه، وان كانت اقل حدة لانها في بداياتها، ضد الدكتور محمد البرادعي الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، لانه 'فكر'، مجرد 'التفكير'، بالترشح لمنصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة منافسا للرئيس مبارك او نجله جمال.

' ' '

مشكلة الدكتور البرادعي من وجهة نظر المجموعة المهيمنة على معظم اوساط الاعلام الخاص، وجميع صحف الدولة وتلفزيوناتها، انه رجل مؤهل، يحظى بسمعة دولية، وقرر ان يوظف خبراته العلمية والادارية في خدمة بلاده.

الدكتور البرادعي ارتكب خطيئة كبرى عندما دخل 'المنطقة المحرّمة' على جميع ابناء الشعب المصري، باستثناء الرئيس مبارك ونسله، ولمّح، مجرد التلميح، الى نواياه بدخول المعترك السياسي ولكن بشروط. الامر الذي فتح عليه حملة تحريض 'مدبرّة' يقودها بلطجية اعلام رجال الاعمال المرتبطين بالمؤسسة الحاكمة في البلاد، والمتحالفين مع لجنة السادات، ويتمتعون بعضوية الحزب الحاكم ودعمه.

قالوا انه يحمل جنسية اجنبية، وعندما تبين لهم عكس ذلك، اشاروا الى انه يفتقر الى التجربة السياسية والحزبية، التي تؤهله لتولي منصب رئيس الدولة، مثله مثل علماء اجلاء كأحمد زويل، وفاروق الباز وغيرهما. فجائرة نوبل تتواضع امام جائزة الرئاسة.

فإذا كان الدكتور البرادعي يفتقر الى الخبرة السياسية، وهو الذي تعامل مع اكثر القضايا السياسية العالمية خطرا وتعقيدا، مثل الملفين النوويين الايراني والكوري الشمالي وقبلهما العراقي، وقابل وتعامل مع جميع زعماء العالم الفاعلين والمؤثرين مثل جورج بوش الابن وباراك اوباما (امريكا)، وانجيلا ميركل (المانيا)، وغوردون براون (بريطانيا)، ونيكولاي ساركوزي (فرنسا) وديمتري ميدفيدف وفلاديمير بوتين (روسيا)، فمن هم الزعماء العالميون الذين قابلهم السيد جمال مبارك، وما هي المنظمات الدولية التي تولى زعامتها، والملفات الخطيرة التي تولى ادارة ازماتها؟

' ' '

ربطنا بين التحريض الاعلامي ضد الشعب الجزائري والدكتور البرادعي ليس من قبيل الصدفة، لان القصد من وراء هذا التحريض واضح، وهو مسألة الوراثة، وكيفية تسهيل تمريرها بأقصر الطرق واكثرها سلامة.

فالذين صعّدوا ضد الجزائر ارادوا ان يوظفوا النصر الكروي في خدمة هذه المحصلة في حال انجازه، وهذا ما يفسر تصدر نجلي الرئيس المشجعين في المباراتين الحاسمتين في القاهرة والخرطوم، او افتعال ازمة مع الجزائر لتحويل الانظار عن مشاكل مصر الداخلية المتفاقمة، بتصديرها الى عدو خارجي، وهذا ما حدث.

والذين يصعّدون حاليا حملاتهم ضد الدكتور البرادعي، ونحن لسنا من اصدقائه او مريديه على اي حال، يجدون انفسهم امام 'بلدوزر' تتمثل فيه كل الصفات التي تؤهله للمنافسة من موقع قوة، على منصب الرئاسة في حال ما قرر خوضها.

مصر وباختصار شديد، امام مخاض حقيقي، بدأت ارهاصاته بارتباك اجهزة اعلام الحكم وحوارييه في افتعال ازمات، وقطع علاقات مع معظم الدول العربية، وحالة الحراك السياسي التي بدأت تتفاعل قبل الازمة الكروية الاخيرة مع الجزائر، واطلق رصاصتها الاولى السيد محمد حسنين هيكل، بمطالبته بمجلس امناء يحكم مصر، لفترة مؤتقة، ويشرف على انتخابات رئاسية نزيهة، واطلق رصاصتها الثانية السيد عمرو موسى عندما لم يستبعد نزوله الى حلبة المنافسة في اي انتخابات رئاسية مقبلة، ولكن قنبلة الدكتور البرادعي التي انعكست في بيانه الاخير، واستعداده المشروط لخوض معترك الرئاسة، 'جبّت' كل ما قبلها، ووضعت مصر امام عملية التغيير، وهي قادمة لا محالة.