إسطنبول التي لم تغير قبلتها
بقلم/ عزام التميمي
نشر منذ: 5 سنوات و 7 أشهر و 22 يوماً
الثلاثاء 23 إبريل-نيسان 2019 06:50 م
 

في الحلقة السادسة والأخيرة من مراجعاته معي، استأنف الدكتور محمد غورماز – الرئيس السابق للشؤون الدينية في تركيا – ما كان قد بدأ الحديث عنه في الحلقة الخامسة من دور المؤسسة التي كان يرأسها في التواصل مع مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وختم المراجعات بحديث عن ليلة الانقلاب العسكري الفاشل في منتصف شهر يوليو/ تموز 2016.

بدأت الحلقة السادسة بحكاية زيارته إلى بيت المقدس ومدينة خليل الرحمن ومحاولة الإسرائيليين إعاقة دخوله إلى قطاع غزة.

أخبرني بأنه كان قد حدث نفسه قبل مغادرة تركيا إلى فلسطين بأنه قد يُطلب منه أن يخطب الجمعة في الأقصى، فأعد خطبة مكتوبة، ثم عدل عنها لما راوده من شعور بأنها ليست بمستوى ما ينبغي أن يقال في ذلك المقام، فأعاد كتابتها. استقبله أهل القدس بترحاب شديد، وقال له الشيخ عكرمة صبري بأن خطبة الجمعة في ذلك الأسبوع كانت عليه وأنه سيرحب فيها به وسيشيد بدور تركيا في دعم المسلمين في القدس وبموقفها من قضية المسجد الأقصى. أدرك أنه لن يُطلب منه أن يخطب. ويوم الجمعة، وبعد أن صلى ركعتين بانتظار صعود الإمام إلى المنبر، جاءه الشيخ عكرمة وطلب منه أن يصعد إلى المنبر، فما كان منه إلا أن قال: "والله إن هذا لشرف عظيم لا قبل لي برده". وذكر أنه خاطب المصلين في الأقصى قائلاً لهم: "نحن في إسطنبول لم نغير قبلتنا أبداً"، ويقصد أن المسلم إذا يمم صوب البيت الحرام في صلاته فإنه في نفس الوقت يكون متجهاً صوب القبلة الأولى، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر لي أنه حتى جيل والده، كان من عادة الأتراك إذا توجهوا للحج أن ينطلقوا من مسقط رأس خليل الله إبراهيم في جنوب شرق تركيا مروراً بمرقده في مدينة الخليل في فلسطين فمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصولاً إلى مكة المكرمة. وذكرني بذلك بما كنت أشاهده في طفولتي من تدفق الحجيج من مختلف أنحاء العالم الإسلامي على مدينة الخليل التي ولدت فيها، وعلى المسجد الإبراهيمي بالذات، والذي كان منزل عائلتي مجاوراً له تماماً.

من القصص المؤثرة التي رواها في هذه الحلقة حكاية تعرفه على مسلمي أمريكا اللاتينية. قال إن رسالة وصلته من أحد سكان هاييتي يقول له فيها إنه واحد من مسلمي تلك البلاد الذين جيء بأسلافهم عبيداً من أفريقيا قبل ما يقرب من مائة عام أو يزيد. وقال إن الأمهات في ذلك الوقت كن يهدهدن أبناءهن بأناشيد يقلن فيها "لا تبتئس يا وليدي فسوف يأتي كبارنا من إسطنبول لينقذونا". ومضى يقول في رسالته: "ها قد مضت مائة عام ولم يأتنا أحد من إسطنبول. ونحن هنا بلا مصاحف ولا كتب ولا تعليم ديني، وحتى وجهة القبلة لا نضبطها. فإذا وصلتك رسالتي هذه وأرسلت إلينا ما تسعفنا به فجزاك الله عنا خيراً، وإلا فسوف أشكوك وعموم الترك إلى الله يوم القيامة."

قال محمد غورماز إنه لم يتمالك نفسه، وبكى بحرقة وهو يقرأ الرسالة. ثم اتصل بشركة الخطوط الجوية وسألهم كيف يمكن للمرء أن يصل إلى هاييتي، فقالوا له إن ذلك غير متيسر من تركيا، وأضافوا أنه لا يوجد سوى رحلة واحدة أسبوعياً من باريس، وعلى متن طائرة شحن، وذلك أن هاييتي كانت مستعمرة فرنسية، استعمرها الفرنسيون وكانت مصدرهم الرئيس لسكر القصب، ولذلك عرف أهلها بأنهم "عبيد السكر". والبديل أن يسافر إليها عبر كوبا.

تواصل الشيخ غورماز مع زميل له يعمل ملحقاً دينياً في سفارة تركيا في باريس، واتفق معه على أن يشحن مصاحف وكتباً وكمية من المال إلى هاييتي ويتأكد من توصيلها إلى صاحب الرسالة. ورتب فيما بعد لعدد من سكان البلاد المسلمين أن يحضروا إلى تركيا ليتعلموا فيها الإسلام ويعودوا من ثم إلى بلدهم ليعلموا قومهم.

كانت رحلتهم عبر هافانا، العاصمة الكوبية. وبينما كان أولئك المسلمون في قاعة الترانزيت في هافانا تعرف عليهم مسلم كوبي، وسألهم عن حالهم، فقصوا عليه حكايتهم، فأخذ منهم عنوان محمد غورماز وكتب إليه يشكو وضع المسلمين المزري في كوبا ويطلب منه عوناً مشابهاً لذلك الذي قدمه لإخوانهم في هاييتي.

وذكر لي غورماز أنه علم فيما بعد أن المسلمين في أمريكا اللاتينية، والذين يربو عددهم على سبعة ملايين نسمة، ينحدرون من واحد من أصول ثلاثة: أولئك الذين فروا من اضطهاد الإسبان بعد سقوط الأندلس، فقذفتهم الأمواج إلى سواحل أمريكا اللاتينية ومنها البرازيل، وأولئك الذين يرجعون إلى أصول تركية، وأولئك الذين هاجروا من بلاد العرب، وخاصة من بلاد الشام: سوريا ولبنان وفلسطين. أما ذوو الأصول التركية فحكايتهم عجيبة. قال لي إن سفينة تركية كانت متجهة إلى جنوب شرق آسيا في حدود منتصف القرن التاسع عشر ضلت طريقها وقادها التيار إلى سواحل البرازيل، وكان على متن السفينة داعية تركي، يلبس الجبة والعمامة، فلما نزل ركاب السفينة بالبر ورآه بعض المحليين، جاءوا إليه وألقوا عليه تحية الإسلام قائلين "السلام عليكم"، ولم يكونوا يعرفون غيرها. إنها العبارة التي بقيت لهم من جذورهم الإسلامية.

ولما تجهزت السفينة للعودة، جاء الشيخ إلى قبطانها وقال له إنه يرغب في البقاء مع هؤلاء الناس ليعلمهم دينهم، فقال له القبطان إن ذلك لا يحق له رسمياً، ولكن إذا أصر فإنه يمكن أن يكتب تقريراً يقول فيه إن الشيخ قد توفاه الله. فقال له الشيخ "إذن اعتبرني في عداد الأموات." وهكذا غادرت السفينة وبقي الشيخ، وأمضى ستة أعوام وهو يدعو إلى الله، وله في ذلك كتيب وثق فيه تجربته، أخبرني محمد غورماز أنه ترجمه إلى عدة لغات، وعدني يومها بأن يرسل لي نسخة منه بالعربية. لم يفعل حتى الآن، فقد نسي ونسيت، إلى أن شاهدت بث الحلقة فتذكرت، وعزمت على تذكيره بوعده الذي قطعه لي.

مراجعات محمد غورماز من ألطف وأخف وأجمل المراجعات، أنصح أصدقائي وكل راغب في التزود بمعلومات حول تركيا المعاصرة بمشاهدتها جميعاً. وفيما يلي روابط حلقاتها الست: