القضية الجنوبية .. حقائق وأرقام(5 - 5)
بقلم/ احمد طلان الحارثي
نشر منذ: 12 سنة و 4 أشهر و 6 أيام
الإثنين 06 أغسطس-آب 2012 12:11 ص

تمثل القضية الجنوبية حجر الزاوية في نشاط كثير من القوى السياسية والأنظمة المختلفة ، ليس على المستوى الوطني والإقليمي فحسب ، ولكن على المستوى الدولي أيضاً ، إلاّ أن النظر إلى جوهرها ومنطلقاتها الأساسية يختلف من جهة لأخرى ، وهذا الاختلاف مبني على كثرة الجوانب التي تظهر بها هذه القضية بين الحين والآخر من جهة ، ومن حيث تعدد الأشخاص والتيارات الحاملة لها من جهة ثانية ، ومع هذا كله فإن القضية لا تخرج عن كونها قضية حقوق فردية خاصة في حدها الأدنى ، أو أن تكون حقوق جماهيرية عامة في حدها الأعلى ، أو ربما مزيج من هذا وذاك وهو الأغلب والأعم.

وعلى هذا الأساس وجب علينا أن نعيد إلى الأذهان كل ما يتردد من المفردات الكلامية التي تندرج في إطار الحديث عن هذه القضية لكي يتسنّى لنا الغوص في أعماق المشكلة من خلال العودة بها إلى جذورها التاريخية وبالتالي بيان حجم الأضرار التي نجمت عنها ومن ثم الانطلاق إلى آفاق واسعة لوضع المعالجات الصائبة وفق رؤية وطنية شاملة تضمن لكل ذي حقٍ حقه وبما يضمن عدم العودة إلى الوراء بعد أن وصلنا إلى القمة العالية والتي دفعنا في سبيل الوصول إليها تضحيات جسيمة لا يستهان بها ومن هذه المفردات : الإقصاء والتهميش والضم والإلحاق ونهب الأراضي ونهب المساكن والمواطنة غير المتساوية والاحتلال والتقاعد القسري والطرد والإبعاد ... الخ .

وإذا كان لمستخدمي هذه المفردات ما يبرر لهم استخدامها كوسائل وحجج يعتمدون عليها لإثبات حقهم في طلب الانفصال أو فك الارتباط أو التمسك بمبدأ حق تقرير المصير والعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990م كما يقولون ، فإن هناك من مورست ضدهم هذه الوسائل ذاتها خلال العقود الماضية من عهد الثورة والجمهورية ، وبات من حقهم التمسك بما تحقق لهم من إنجازات وحدوية باعتبارهم طرف أساسي يجب أن تؤخذ وجهة نظرهم بعين الاعتبار.

وبالاستناد إلى معايشتنا لفترة طويلة من عمر هذه القضية وعلى ما حفظته ذاكرة الوثائق عن تلك الفترة ، سوف نقدم بعض الشواهد على عمق المشكلة وامتدادها على مدى زمن طويل وعبر سلسلة من الصراعات والأحداث التي شهدها الشطر الجنوبي من الوطن ، وذلك من خلال نصوص منقولة كما جاءت عن مصادرها ومعبرة تعبيراً صحيحاً عن ذاتها وفق منطقها المطابق لواقع حدوثها ، ونعتذر سلفاً لكل الجهات والأفراد على السواء ، فليس غرضنا الإساءة أو التشهير إطلاقاً ، ولكن الغرض هو توضيح الحقائق وسرد الوقائع المتعلقة بموضوعنا هذا ، وسنبتعد عن ذكر الأسماء بقدر المستطاع ـــ وإن كان في ذكرها فوائد كبيرة ــــ ولن نذكرها على الإطلاق إلاّ ما تحتم ضرورة السياق ذكره ، لأن شاهدنا هنا الأحداث بمجملها وليس الأشخاص ، ولكي تسهل عملية الإعداد والمتابعة سوف يكون النشر على شكل حلقات متتالية وهذه هي الحلقة الأخيرة تحت عنوان :

(الجذور التاريخية للقضية)

ربما يعتقد البعض أن المقصود من هذه الكتابة هو التشهير والإساءة من خلال نبش الماضي والتذكير بمآسيه ــــ ولكل عذره فيما يذهب إليه ــــ والحقيقة التي نعيد التأكيد عليها أننا لا نقصد ذلك أبداً ، ولكن ضرورة الحاضر ودواعي المستقبل أوجبت علينا أن نعود للماضي لكي نخلص من عبره وتجاربه إلى حلول أو موجهات عامة تقودنا نحو الهدف الحقيقي وتحقيق النتائج المرجوّة من مجمل الجهود والإمكانات التي نصرفها على طول خط السير في هذه الحياة.

ولمّا كانت القضية ذات أبعاد مختلفة وزوايا معقّدة فإنه من الصعوبة بمكان النظر إليها ببصيرة ثاقبة وإحاطة شاملة ما لم تحظى بالتجرد التام عن جميع المؤثرات الشخصية والمكاسب الذاتية وجعل المصالح العامة قاسم مشترك يتوجب الالتقاء عنده والتكاتف لتحقيق ما يمكن تحقيقه قبل النظر إلى ماذا سيتحقق على الصعيد الشخصي.

واستخلاصاً لما أسلفناه في الحلقات الماضية تقررت لدينا الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى:أن القضية: (جنوبية جنوبية) في المقام الأول وأن جذورها التاريخية تتغذى من أنهار الدماء المتدفقة من روافد الصراعات والمواجهات الدموية التي بدأت قبل حصول اليمن الجنوبية على الاستقلال السياسي في 30 نوفمبر 1967م ، ولهذه الحقيقة ما يسند حجة الاتكاء عليها من خلال الأرقام التالية:عزل أربعة رؤساء للجمهورية ومعاقبتهم ما بين السجن المؤبد والإعدام والنفي خارج البلاد ، وعزل ثلاثة رؤساء حكومات ومعاقبتهم ما بين السجن والإعدام والنفي خارج البلاد ، وعزل أمين عام وعزل أمين عام مساعد في مرحلة التنظيم السياسي الجبهة القومية ، وعزل أمينين عامين في مرحلة الحزب الاشتراكي اليمني ومعاقبتهم ما بين السجن المؤبد والإعدام والنفي خارج البلاد ، وعزل المئات من القيادات الحزبية العلياء من أعضاء القيادة العامة واللجنة التنفيذية للجبهة القومية واللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني ومعاقبتهم ما بين السجن والإعدام والنفي خارج البلاد ، وممارسة حالات الإقصاء والتهميش لأعداد أخرى ، وقيام حربين أهليتين قبيل الاستقلال خلفت آلاف من القتلى والجرحى وتدمير ممتلكات عامة وخاصة ، وتنفيذ ستة انقلابات دموية خلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين والمنفيين خارج البلاد ، بالإضافة إلى تدمير أعداد كبيرة من مرافق البنية التحتية والممتلكات العامة والخاصة والمعدات العسكرية التي تجاوزت قيمتها النقدية عشرات المليارات من الدولارات ، وتخيلوا كم تترك مثل هذه الأعمال من آثار تدميرية مادية ومعنوية في نفوس مئات الآلاف من المتضررين من هكذا أحداث وحشية وتراكماتها على طول الزمن.

الحقيقة الثانية:عدم التوافق بين النظرية والتطبيق ، الأمر الذي ترتب عليه خلل كبير في منهجية الحكم التي قامت على أساس (حرب الطبقات ومصادرة الممتلكات) وشغل المجتمع بعضه ببعض تحت مسميات واهية خلاصتها أن يفتقر الشعب وتغنى الطبقة الحاكمة ، وما تأميم الشركات الاقتصادية وتأميم المساكن ومصادرة ونهب الأراضي الزراعية إلاّ مظهر من مظاهر الحماقة والطيش المغامر بمصير الدولة والشعب على حد سواء ، تحت جملة من الشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، حيث انتهت جميع الأطروحات الزائفة وتراجعت الخطوات المتسارعة وخفتت الشعارات البراقة الداعية إلى تحقيق الطور الأعلى للاشتراكية بمجرد سقوط النظام الاشتراكي ومواراته جثة هامدة في مسقط رأسه (الكرملين السوفييتي) ، كما أن الإدعاء بالعمل لمصلحة الطبقات الكادحة قد بانت مساوئه وكشفت عوراته تصرفات القيادات المتناحرة ، حيث ثبت بما لا يدع مجالاً للشك عدم الجدية والإخلاص والصدق في هذا المضمار ، بعد أن ظهرت الطموحات الفردية للاستحواذ على السلطة والثروة على حساب السواد الأعظم من الناس.

الحقيقة الثالثة:أن لا وجهة محددة لسير القضية ، فهناك من ينادي باسم الجنوب العربي وهناك من يرفع علم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وهناك من ينادي بتصحيح مسار الوحدة وهناك من يريد فك الارتباط وهناك من يطالب بنظام الفدرالية ... الخ ، فأما من ينادي بعودة عهد دولة الجنوب العربي فيجب أن يعلم علم اليقين أن الجنوب العربي كان مقسم إلى أكثر من واحد وعشرين مسمّى ، ما بين (سلطنة ومشيخة وإمارة) وإذا علم هذا فيجب عليه حتماً إفساح المجال أمام أصحاب تلك الدويلات الصغيرة ليعودوا إلى سلطاتهم بحدودها الجغرافية وسكانها الحائزين على هويتها وبما تحتويه من ثروات ظاهرة وباطنة ، وهذا ما لا يرضاه أصحاب الطمع والنفوذ الذين سعوا ويسعون إلى تحقيق مآربهم الدنيئة ولو على حساب الغالبية العظمى من الناس ، لأن في هذا سقوط جميع أوراق المزايدة التي يصمّون بها الآذان استناداً إلى ما يدّعونه من تاريخ نضالي في تحرير الجنوب وتحويله إلى دولة ثورية ديمقراطية على أنقاض العهد الاستعماري والسلاطيني المستبد.

وأما من ينادون بفك الارتباط أو الفدرالية فهذه دعوة إلى الانفصال وعودة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، وليعلم هؤلاء أن هذه الجمهورية قامت على أنقاض دويلات ذات سيادة تم ضم وإلحاق بعضها ببعض بدون رضاء أو قناعة من أسيادها أو حتى عن طريق اتفاقيات ولو شكلية تمنح هذا الضم والإلحاق شيء من الشرعية والتبرير ، وليعلم هؤلاء أيضاً أن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حُكمت بنظام شمولي لا يؤمن بالتعددية السياسية والحزبية وظلت تعيش تحت حكم الحزب الواحد بقوة الحديد والنار ، وهذا ما لا تطيق العودة إليه جماهير الشعب بعد أن تنفست الصعداء وشمّت روائح الحرية الزكية بعد عقود زمنية من حياة الكبت والحرمان ، وأما مطلب تصحيح مسار الوحدة فهو مطلب عقلاني يستفاد منه عند مناقشة الأسباب والعوائق التي تعترض سير العملية الوحدوية وأخرت قيام الدولة المدنية الحديثة التي ينشدها الشعب اليمني وضحى في سبيل قيامها بالغالي والنفيس.

وتبعاً لهذا التوصيف فإن هناك من يرى عدم اهتمام أبناء الجنوب بقضيتهم الأساسية وأنهم غارقون في خلافاتهم ومنازعاتهم وتطاول بعضهم على بعض طلباً للزعامة فقط ، وفي هذا الاتجاه نسجل شهادة أحد أبناء الجنوب حيث يقول: (مشكلة الجنوب أن أبناءه الساسة لم يعطوه حق قدره وراحوا في خلافاتهم واتهاماتهم وتركوه وحيداً بلا أب شرعي !! بالأمس القريب كان مؤتمر القاهرة للخروج برؤية موحدة للقضية الجنوبية ، وتمت مقاطعته من قبل أطراف مؤثرة ، وبالأمس شهد لقاء بروكسل ــــ الداعي إلى فك الارتباط ــــ غياباً للاعبين أساسيين لرسم المشهد الجنوبي الوضّاء ، في وقت الجنوب أحوج فيه لتلاحم وتماسك الأبناء أكثر من أي زمن مضى).

الحقيقة الرابعة:عدم أهلية القيادة ، لأن معظم الأشخاص الذين يتبنون القضية الجنوبية في الوقت الحاضر ، هم الذين شاركوا وباركوا جميع الإجراءات الثورية التقدمية وتلطخت أيديهم بدماء الأبرياء وتنفخت بطونهم من أكل أموالهم وتضخمت ثرواتهم بعد مصادرة وتأميم ممتلكات الناس والعبث بها ، فأي منطق قويم أو عقل سليم سيقول بأن تلك الوجوه الكالحة التي هدمت بالأمس يمكن أن تكون أدوات بناء في هندسة اليوم أو الغد الذي تنشده الجماهير في ظل وحدتهم المباركة ، وإنه من الحمق والسخافة أن نسلم زمامنا من جديد ونضعه في تلك الأيادي السوداء بعد أن أنقذنا الله منها.

ولكي نضع النقط على الحروف نورد هنا شهادة أحد أبناء المحافظات الجنوبية التي نشرتها صحيفة جنوبية للدلالة على صدق ما ذهبنا إليه عن عدم صلاحية القيادة التي تتبنى تحريك القضية الجنوبية ، وقد سجلت هذه الشهادة قبل أن نسمع بشيء اسمه "الحراك الجنوبي" وإليكم نص تلك الشهادة : (ذاكرة الشعوب لا تنسى مهما مرت سنوات الزمن ، فكيف يكون الحال إذا كان الزمن لم يتجاوز 25 عاماً ؟! ربع قرن من الزمن حُكمت خلاله المحافظات الجنوبية والشرقية بالحديد والنار من نظام شمولي شيوعي ضرب عرض الحائط بكل المقدسات والتقاليد العربية والإسلامية ، وراح يستورد قيماً وعادات ونظريات وقوانين بعيدة كل البعد عن واقع هذه الأمة وزج العلماء ورجال الدين والشخصيات الاجتماعية في السجون ، وسحل من سحل وقتل من قتل وهرب من هرب ، وعاشت تلك المحافظات كابوساً أسود وجحيماً لا يطاق ، واليوم ونحن نعيش أجواء الديمقراطية والتعددية في ظل دولة الوحدة ، نرى بعض أبطال ذلك الزمن الأسود يتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والاضطهاد والملاحقة والسلب والنهب الذي تمارسه دولة الوحدة ضد المواطنين والشخصيات الاجتماعية ، ولنا أن نسأل ذلك البطل الاشتراكي "حسن أحمد باعوم" عن تلك الأعمال التي كان يقوم بها شخصياً في نهاية الستينات وبداية السبعينيات في محافظة شبوة .. أليس هو من قام بربط الشيخ الحداد بالحبال وسحبه في مدينة نصاب ؟؟ أليس هو الذي دفع الكثير من الفتيات من الشابات الشريفات بنات الأسر الكريمة إلى رمي أنفسهن في الآبار مفضلات الموت عن الملاحقات التي كانت تهدف إلى تجميعهن في ما كان يسمّى "بالمجمّع" والدعوة إلى السفور والفجور تحت شعار"تحريق الشياذر واجب" ؟! وغيرها من الأعمال الإرهابية التي طالت الكثير من الشخصيات الاجتماعية الفاعلة ، ورجال العلم والدين ، ونوضح ذلك لأن العديد من الشباب لا يعرفون تلك الأفعال المشينة والمهينة والغوغائية التي ربما لا يعرفون أن "حسن أحمد باعوم" ورفاقه هم الذين ارتكبوها في فترة العنف الثوري . إن الذين جعلوا الحياة مستحيلة أمثال "حسن أحمد باعوم" ، مكانهم الطبيعي هو مزبلة التاريخ والسجون والمحاكم لإدانتهم على ما اقترفوه في حق الشعب والوطن ، لأن الذي يقتل ويسحل ويشرد لا يمكن أن يكون ديمقراطياً بل ديكتاتورياً ، فكيف له أن يتحدث عن حقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة وغيرها من القيم النبيلة).

ومما يؤسف له أن البعض من تلك القيادات الانفصالية يتبوؤن مناصب في الهيئات القيادية العلياء للحزب الاشتراكي اليمني ، متجاوزين الأسس والمبادئ والضوابط التنظيمية ، مستغلين بذلك الصبر الجميل والنفس العميق الذي تعاملهم به القيادة الوحدوية وقواعدها الحزبية ، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على المواقف الشجاعة والحكمة البالغة لدى تلك القيادة الوحدوية ومدى تفهمها للأوضاع العامة التي تعيشها البلاد بشكل عام وأضاع الحزب الاشتراكي اليمني بشكل خاص ، ونحن إذ نقدر الظروف والمشاكل التي تواجه القيادة الوحدوية لا زلنا نعلق آمالاً كبيرة في هذه القيادة استناداً إلى أدوارها النضالية عبر تاريخ طويل وعمل جاد من أجل قيام دولة الوحدة اليمنية والحفاظ على مكتسباتها برغم ما تعانيه من تعنت وصلف من كافة الأطراف. 

الحقيقة الخامسة:عدم صوابية قرار الانفصال ، لأنه صدر من أشخاص تضررت مصالحهم المادية والشخصية بعد دخولهم في إطار شعب واحد ـــ موحد منذ الأزل ـــ وتحت علم دولة واحدة ذابت فيها كل الامتيازات والفوارق الحزبية والسياسية والطبقية ، وأصبح من حق الشعب أن يختار من يريد في ظل التعددية السياسية والحزبية التي أفرزت واقعاً جديداً لم يخطر ببال أولئك الأشخاص ولم يدخل في تصوراتهم ، ولهذا كانت أفضل الطرق لديهم أن يلجأوا إلى قرارات انتحارية قاومها الشعب بكل فئاته وأطيافه المختلفة وكان في مقدمتهم أبناء المحافظات الجنوبية الذين ألجأتهم الصراعات إلى مغادرة مواطنهم الجغرافية ومواقعهم السياسية والوظيفية طلباً للنجاة التي امتدت حبالها من جذور العروة الوثقى لدولة الوحدة المباركة ، فكان من الصعب أن يقطعوا تلك العرى التي أمدتهم بطوق النجاة وأوصلتهم إلى بر الأمان بعد أن سامتهم الصراعات سؤ العذاب وأذاقتهم ويلات الطرد والإبعاد والحرمان من العيش في ديار آبائهم وأجدادهم عشرات السنين ، بالإضافة إلى مشاركة أعداد لا يستهان بها ممن ذاقوا مرارة الحكم الشمولي وضلوا صابرين على ويلاته ومآسيه حتى أذن الله بالفرج بقيام دولة الوحدة المباركة.

ولا يفوتني أن أشير إلى أن جماهير الشعب قد بلغت (سن الرشد) ، ولم تعد لديها حاجة لوجود وصاية من أي كان ، وقد كان بإمكان أولئك النفر ــــ الأوصيا ــــ أن يتواضعوا قليلاً حينما رأوا أن مصالحهم قد تعرضت للخطر وأن يعرضوا قضيتهم على مواطنيهم قبل الإقدام على قرار الانتحار الانفصالي حتى يبرروا شئ من تلك الثقة التي منحت لهم في توقيع الاتفاقيات الوحدوية ولكي يكون لديهم مستند شعبي يعيد لهم جزء مما افتقدوه من المصالح ولو على حساب الجماهير ، ولكنهم تصرفوا من وحي تلك العقليات الشمولية وبنوا على ذلك الأساس القائم على شفاء جرف هار فانهار بهم في قاع سحيق ، ولن نرضى أن يسحبونا إليه ونحن في غناء عنه ولدينا بدائل أفضل منه.

وخلاصة القول: فإنه إذا كان من المستحيل أو حتى من الصعب العمل على إقناع من لا يريد الاقتناع ، فإنه من السهل جداً أن نقنع أنفسنا وأن نقنع العالم من حولنا ببراءة الوحدة اليمنية من جميع المشاكل والتعقيدات السياسية التي عانى ويعاني منها الشعب اليمني متاعب جمّة ، وإليكم الدليل القاطع على براءة الوحدة اليمنية وعدم استهداف المحافظات الجنوبية بعينها ، وذلك بشهادة الانفصالي الكبير "البيض" الذي يقول: (أرجو أن لا ننسب ما حصل الآن في الحدث التاريخي الكبير إلى وحدتنا ولا إلى النهج الذي أختطيناه بديمقراطيتنا ولكن ينسب إلى الأمراض وإلى الذين يعملون عملاً معادياً للوحدة والديمقراطية ولهذا النهج الجديد في بلادنا ... ثم يضيف : وهذا كله لكي نبدأ نتوجه إلى العمل الرئيسي إلى التنمية ، إلى قوت الناس ، لمحاربة الغلاء لمحاربة الاخلالات بالأمن لرفع الظلم عن أبناء الشعب وهي موجودة في كل محافظات الجمهورية مش في بعض المحافظات) ، وتأكيداً لهذا فقد استطعنا أن نقنع العالم بأسره بأن مصدر البلايا والشرور هو النظام العائلي المستبد بقيادة المخلوع علي عبد الله صالح ، بعد أن أتاحت له العناصر الشريرة فرص كبيرة ، وفتحت له الباب على مصراعيه بارتكابها حماقات الأزمة السياسية بعد نهاية الفترة الانتقالية ، ثم بإعلانها قرار الانفصال المشئوم ، الأمر الذي منحه إمكانيات هائلة وزوّده بوسائل الدعم والمساندة المحلية والإقليمية والدولية تحت مبرر الدفاع عن الوحدة اليمنية ، حتى تمكن من الإجهاز على مقدرات الوطن ووضعها بيد شلة فاسدة من المتنفذين الذين لا يرقبون في موطن إلاً ولا ذمة ، وحوّلوا مفاهيم الوحدة وقيمها النبيلة إلى مطيّة طيّعة للسير بهم نحو الاستبداد ومزيد من الفساد والإفساد ، حتى تحولت الوحدة في نظر عامة الناس إلى فرص للنهب والسلب نتيجة لتلك التصرفات الصبيانية التي اشتركت فيها كثير من الأيادي الآثمة بما فيهم بعض من أبناء المحافظات الجنوبية الذين لا همّ لهم سوى العيش على فتات موائد اللئام.

ونورد نصاً منقولاً من وثيقة هامة أصدرها عدد من مفكري الحزب الاشتراكي اليمني وهذا النص يؤكد ما سبقت الإشارة إليه: (التعامل مع أموال وممتلكات الحزب والدولة في الجنوب وكأنها تحت التصفية حيث تم التصرف بجزء كبير منها بصورة غير صحيحة ، وترتب على ذلك تسرب كميات كبيرة من السلاح إلى جهات غير معلومة أو ربما معلومة لقلة محدودة ، وإخفاء أعداد كبيرة من الممتلكات والسيارات والأموال أو تحويلها بأسماء أشخاص وعقد صفقات مشبوهة لبيع وتأجير عدد من المنشاءات العامة والمباني السكنية ، وتهريب عدة ملايين من العملات الصعبة من الداخل ومن حسابات السفارات إلى بنوك أجنبية بأسماء أشخاص بحجة تأمينها كاحتياطي لنشاط الحزب مستقبلاً).

ومن هنا جاءت فكرة المطالبة بتغيير هذا النظام العائلي الفاسد والمستبد وتطورت الفكرة وأصبحت ثورة شبابية شعبية سلمية أجبرت العالم بأجمعه للوقوف إلى جانب مطالب التغيير السلمي المبني على احترام إرادة الشعب والحفاظ على وحدته.

وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نساعد العالم بأنفسنا وأن نتعاون جميعاً على طريق حل المعضلات الوطنية تحت سقف الوحدة اليمنية والسير بخطى ثابتة نحو بناء الدولة المدنية الحديثة القائمة على مبادئ العدل والمساواة والحرية التامة ، وإذا اكتشفنا في يوم من الأيام بأن الوحدة اليمنية بذاتها هي أساس مشاكلنا ومصدر تدهورنا ومعاناتنا فلن نتردد لحظة واحدة في المطالبة بحقنا في دولة جنوبية مستقلة ، مع الأخذ بعين الاعتبار ومن باب الالتزام بحق كل فرد من أبناء الجنوب أن يكون على علم ودراية بأسس ومبادئ دولته الجديدة ، وهذا يتطلب من أي جهة تتبنّاء الدعوة إلى قيام مثل هذه الدولة أن تتقدم برؤية واضحة ومنهاج مفصل يحدد ما ينبغي أن تكون عليه تلك الدولة ، وبدون ذلك فإن كل الدعوات ستظل صيحة في واد ونفخة في رماد ، لأنه من غير المعقول الاستجابة لدعوات طائشة تلبي نزوات سلطوية تتبنّاها عناصر حاقدة على الوطن والمواطن ، لا همّ لها سوى تحقيق رغباتها في التسلط والاستحواذ وإعادة الهيمنة الفردية من جديد ، تشدها إلى ذلك حبال وأوتاد ماضيها المأساوي واعتقادها بأحقيتها في الحديث نيابة عن جماهير شعب بلغ رشده وشبّ عن طوق الوصاية ولم يعد بإمكان هذا الشعب أن يلبي أي دعوة لا تقوم على مراعاة مصالحة واحترام حقوقه ويكون هو صاحب قرار التفويض لمن يرى فيه الكفاية والأهلية التامة للقيام بأعباء مهمة التمثيل باعتباره وكيل شعب يتوجب عليه الرجوع إلى من منحه حق التفويض لكي يكون القرار من صاحب الشأن ومالك الحق ، لا أن يتصرف الوكيل وكأنه المالك الأصيل.

من هنا فقط يمكن الحديث عن قضية شعب وهموم وطن ومصالح أمة وبدون ذلك سيكون من المستحيل التوافق مع أصحاب المطامع الشخصية مهما لبسوا من ألوان المكر والخداع ومهما طرحوا من نظريات مغلوطة قد كشف الزمن مثالبها وبيّن عيوبها.

والله من وراء القصد ،،،