قضية الجنوب وقضايا الشمال الى أين
بقلم/ هاجع الجحافي
نشر منذ: 12 سنة و 5 أشهر و 19 يوماً
السبت 23 يونيو-حزيران 2012 05:49 م

في الحلقة السابقة وضعت بعض النقاط على الحروف واجتهدت في ترتيب الفكرة حول فهم القضية الجنوبية من منظور الهوية بدرجة رئيسة مع غيرها من التداعيات والسياسات التي استجدت تجاه الجنوب مؤخرا وبالذات في ظل ما يسمى الثورة اليمنية التي رفعت شعارإسقاط النظام متجاوزة القضية الجنوبية وبشكل أثار غضب وانزعاج أبناء الجنوب مما يدل على أن إخواننا في الشمال بكل تكويناتهم وأحزابهم ومنظماتهم غير مدركين لقضية أبناء الجنوب ... شعارهم جميعا :الوحدة خط أحمر غير مدركين أيضا أن هذه الشعارات لم تعد تجدي نفعا أمام الثورة الجنوبية السلمية العارمة .

وحتى لا أطيل سأحاول الدخول في الحلقة الثانية مجتهدا قدر الاستطاعة في تشخيص واقع شمال اليمن والذي ربما نحتاج الى مثل هذا الطرح النوعي في الوقت الراهن بالذات ، وذلك إسهاما في تشخيص تعقيدات هذا الواقع وتسهيل قراءته لإخواننا في المحافظات الشمالية كي نؤكد لهم أننا في الجنوب نقرأ واقعهم ونستوعبه بشكل أفضل بعكس قراءتهم للواقع الجنوبي ، كي نستخلص من كل ذلك ، ما يمكن أن نتفق عليه لبناء المستقبل للأجيال القادمة وبشكل سلمي وحضاري وبما يريح الجميع .. بعيدا عن الخطوط الحمراء والدماء والرصاص والعنف...فالي التفاصيل

ثانيا: قضايا الشمال :

لقد أظهرت في الحلقة السابقة أن الجنوب من أقصاه إلى أقصاه لديه قضية واحدة فقط يحملها وينادي بها كل جنوبي وهذا هو مصدر قوتها وديمومتها وهي الثورة الجنوبية.. بينما واقع الحال في شمال اليمن متورم بأكثر من قضية والتي يصح ان نطلق عليها اشكاليات كونها لا ترتقي الى مستوى وحجم وحيوية القضية الجنوبية ، بعض هذه الأورام انفجرت وبعضها في مراحل الانفجار وأخرى في بداية التورم .. ومن هنا من غير المنطقي إطلاقا أن نساوي بين شعب لديه قضية واحدة واضحة وضوح الشمس ، وحلها سيؤدي إلى نتائج ايجابية سريعة ستدعم الاستقرار في المنطقة .. وشعب لديه قضايا متشعبة ومتداخلة ومتنوعة وستتطلب فترات طويلة لاستيضاحها وبحث سبل وإمكانيات معالجتها.. ولكي نفهم طبيعة هذه القضايا ، يمكن أن ندخل لها من مدخل صراع القوى والمصالح والنفوذ.. ويمكن حصر هذه القضايا بالتالي:

1- إشكالية صعده : 

تعد صعده القضية الأكثر بروزا على صفيح قضايا الشمال ولكنها ليست الأكثر وضوحا .. فرغم أنها أصبحت حقيقة راسخة على ارض الواقع إلا أن اندلاعها وتداعياتها واستمراريتها كانت مشوبة بنوع من الغموض والإبهام .. عندما اندلعت الحرب الأولى عام 2004م كان رئيس النظام السابق وإعلامه الحكومي يتحدثون عن متمردين يرفعون علم دولة خارجية ويعتدون على مرافق الدولة ثم تطور الحديث مع كل حرب عن تنظيم الشباب المؤمن الذي يجاهد أمريكا وإسرائيل من داخل صعده ومع الحرب الثالثة أصبح الحديث عن مخلفات الإمامة التي تريد الاستيلاء على السلطة على اعتبار أنها الأولى بالحكم من منطلق التوريث .. وبعد 6جولات من القتال والاقتتال وسفك الدماء ظهرت حقائق كثيرة عن هذه الحرب الخطيرة التي اشتركت فيها كل صنوف القوات المسلحة والأمن وكذا مشاركة الجيش السعودي والذي ظهر أيضا ضعيفا أمام قدرات وتكتيكات المقاتلين الحوثيين ..

وعند اندلاع ما يسمى الثورة الشبابية في صنعاء ومدن يمنية شمالية أخرى العام الماضي 2011م برزت إمكانات وقدرات التنظيم الحوثي وامتد نفوذه وسيطرته إلى الجوف وحجة وحرف سفيان ، والاهم من ذلك أن الحوثيين صاروا قوة لا يمكن تجاوزها حتى داخل ساحة التغيير في الشوارع المحيطة بجامعة صنعاء ، يمثلون أهم قوة منظمة في مواجهة حزب الإصلاح بعناصره ومليشياته .

اليوم أصبحت الحركة الحوثية رقما صعبا لا يمكن تجاوزه في الشمال .. فهي تحكم صعده ويمتد نفوذها إلى محافظات مجاوره.. لديها قدرات هائلة على المواجهة العسكرية ...وقدرات منظمة في التنظيم والحشد .. وإمكانات في التأثير على السياسات والبرامج والدخول في تكوينات سياسية وحزبية بشكل منظم وسريع ومن ذلك دورها الواضح في تأسيس حزب الأمة الذي اشهر مؤخرا.

ورغم هذا التنظيم الذي يتميز به الحوثيون إلا أن ما يؤخذ عليهم أن برنامجهم مازال يشوبه الغموض .. ولم يجيبوا بوضوح على كثير من التساؤلات ومنها : ما موقفهم من الحرية المذهبية ؟ وهل هم يريدون السلطة ويسعون وراءها من منظور البيعة والتوريث ؟ وهل يريدون حكم اليمن لو سنحت لهم الفرصة أم أن مشروعهم يقتصر على صعده ؟

ومن هذا المنطلق فان مؤتمر الحوار القادم يعد محطة هامة كي يطرح الحوثيون برنامجهم بوضوح أمام العالم اجمع ويحددوا موقفهم من مختلف التساؤلات التي أثيرت وتثار حولهم ..مع إدراك حقيقة أن لديهم كل مقومات إقامة الدولة .. فصعده التي تعتبر سلة الغذاء في محافظات الشمال تحت سيطرتهم وبإمكانهم أيضا السيطرة على منفذ بحري في البحر الأحمر .. لديهم الخيارات الفكرية والمذهبية .. السكان .. القوة ... ولم يبقى سوى الإجابة : أين موقعهم مستقبلا ؟ وما موقفهم من بناء الدولة والديمقراطية؟هل هي الدولة التي دخلت في وحدة مع الجنوب أم أنها ستكون دولة أخرى ؟ وبالتالي ستكون ناقصة وغير ملزمة للجنوبيين أن يستمروا فيها!!

2- قضية المشايخ ونفوذ القبيلة:

تعتبر القبيلة من اهم مكونات المجتمع اليمني والذي بسببها يعد من المجتمعات التقليدية المحافظة .. ويتميز الجنوب انه استطاع ان يصهر القبيلة في اطار الدولة حتى وان استمرت راسخة في النفوس إلا ان الدولة الجنوبية استطاعت خلال عشر سنوات فقط ترويض القبيلة وإدماجها في الدولة ، بعكس الدولة الشمالية التي استطاعت فيها القبيلة ترويض الدولة لصالحها حتى اليوم .. فبعد قيام انقلاب 26سبتمبر 1962م كانت القبيلة حاضرة بقوة واستطاعت سرقة هذه الثورة (الانقلاب) وأصبحت شريكا فاعلا في الحكم واستمر نفوذها حتى بعد قيام الوحدة عام1990م ..

وهاهي اليوم القبيلة تدخل بقوة على خط الثورة الشبابية في صنعاء وتفرض أجندتها بعد ان تقمصت باللباس الثوري وشعارات بناء دولة النظام والقانون مستخدمة تحالفات سياسية واقتصادية معاصرة مثل التحالف الوطيد مع حزب التجمع للإصلاح واستخدام الامكانات المسلحة للقوى العسكرية التقليدية (الفرقة الاولى مدرع) والإمكانات المالية الهائلة لرجال الاقتصاد الجدد ما بعد حرب 1994 من ابناء مؤسسة القبيلة نفسها ، بالإضافة الى حنفيات الأموال من خارج الحدود والتي ضخت بسخاء الى وسط هذا التكوين العجيب .. والذي استخدم كل المتناقضات وسياساته التي أربكت النظام وأسهمت في التغيير .. بل ان هذا التكوين نشط بشكل فاعل حتى في الجنوب وحاول جاهدا فرض أجندته ومازال . بعد ان سيطر بأجندته على ساحة التغيير بصنعاء ودخل بقوة في الائتلاف الحاكم حاليا.

ان ابسط قراءة لإنعاش تسمية (عفاش) – وهي الكنية القبلية للرئيس السابق على صالح - ونشرها في الساحات الثورية الشمالية تؤكد ان القبيلة هي التي تسيطر على الأرض والفكر لان هذا مصطلح قبلي أساسا انجرف كل الثوار والشباب المعاصرين وراء ترديده بكل غرور وعنجهية بعيدا عن التمعن في مضمونه وأبعاده ودون ان يفكروا انهم بذلك يسيئون للأخلاق والقيم الأصيلة بل وللأخلاق الثورية .. فقد تحولت كلمة عفاش الى فكر قبلي متخلف يغذي عقول الثوار الشباب والى مسألة حيوية جعلت آل الاحمر ثوارا ورجال دولة وقانون وهي اخطر مغالطة تاريخية يمنية على الإطلاق.

ومع احترامنا جميعا للقبيلة كمكون اجتماعي وثقافي يمني إلا ان نفوذ مشايخ القبيلة واستغلالهم للقبيلة وإقحامها في صراع المصالح لا يتفق البته مع خيارات المجتمع المدني الحداثي .. وستبقى هذه القضية من اهم معوقات بناء الدولة المنشودة .. فمثلا نحن نتابع هذه الايام الخلافات والمماحكات بين شركاء"المبادرة الخليجية \ إزاء ما يتعلق بإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية او تقاسم المناصب والمصالح .. ولو افترضنا جدلا انه تم التوافق والاتفاق على إعادة هذه الهيكلة سنجد انفسنا في مواجهة القبيلة كونها سترفض تسليم سلاحها المتوسط والثقيل للدولة .. لان الهيكلة تعني ان الجيش الوطني هو الذي سيحمي الجميع ولا يحق لأي مؤسسة او جهة ان تملك السلاح غير مؤسسة الجيش والأمن .. وفي حال رفضت القبيلة الخضوع وتسليم سلاحها للدولة فهذا يعني ان الوضع سيبقى على ما هو عليه وكأنك يا بو زيد ما غزيت .

ومعلوم لنا جميعا ان القبيلة أصبحت تمتلك احدث الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وليس لديها طائرات فقط .. الشئ الآخر أصبحت القبيلة النافذة بالذات ترتبط بمناطق قريبة من صنعاء ولا استبعد ان تلجا الى خيارات القوة في مواجهة الدولة اذا شعرت بإجراءات تستهدف نزع سلاحها .. كما لن استغرب ان تفكر هذه القبيلة النافذة ببناء دويلتها الخاصة على مشارف صنعاء أسوة بما حدث في صعده وقد تبرز لنا مستقبلا قضية جديدة تخرج من عباءة القبيلة معززة بثوبها الحزبي السياسي تسمى مثلا قضية حاشد بل الأسوأ قضية العصيمات وخارف مثلا.

وبالتمعن والتدقيق فان الخطأ لا يكمن في القبيلة وإنما في المشايخ وعقلياتهم المتخلقة والذين سخروا القبيلة للدفاع عن مصالحهم .. ولإيماني الشديد بان المشايخ يمثلون اخطر حلقة أعاقت وتعيق التطور والبناء والحرية والذين تمتعوا بميزات ونفوذ في ظل حكم نظام علي عبد الله صالح فقد تصديت لهم بقوة قبل اكثر من سبع سنوات ووجدت نفسي أواجه النظام مباشرة وكدت افقد حياتي جراء ذلك.

3- مشكلة تعز والمناطق الوسطى:

لوحظ من خلال متابعة تطورات الثورة في الساحات الشمالية ان تعز كانت حاضرة بقوة في كل مكان نظرا للانتشار الكبير لأبناء تعز في كل المحافظات كونها محافظة تتميز بانفجار سكاني كبير ونقص حاد في الموارد الى جانب احتكاك سكانها بالجنوب منذ عدة عقود مما انعكس على وعيهم وتعليمهم وثقافتهم لدرجة أنهم يميلون الى الجنوب اكثر مما يميلون الى الشمال إلا ان تأثرهم بالثقافة القبلية الشمالية جعلتهم عاجزين عن اتخاذ موقف واضح لدعم قضية الجنوب وتعزيز ارتباطهم به.. وأستطيع القول ان بعض مراكز القوى في تعز وخارجها نجحت في تشويه مواقف تعز بل وتشويه دور تعز في نظر الجنوبيين .

اما القوى النافذة في الشمال من مشايخ وقبائل فقد حرصت منذ عقود ما قبل انقلاب 26سبتمبر1962م على تهميش ابناء المناطق الوسطى(تعز واب) منذ ان تم إرسال حملات عسكرية من مناطق شمال الشمال ، وتحول قادة هذه الحملات الى مشايخ قاموا بأعمال السلب والنهب للممتلكات والأراضي وبسط النفوذ والتحكم بأبناء المنطقة والتخلص من المشايخ والوجاهات الحقيقية في المنطقة ومازال هذا الواقع ماثلا للعيان حتى اليوم .. ورغم قيام ما يسمى ثورة سبتمبر إلا ان سياسات التحقير استمرت من قبل المسؤلين والنافذين والقبائل في صنعاء تجاه أبناء هذه المناطق .. ففي صنعاء مثلا يطلق عليهم لغلغي - برغلي – خباني !!! بينما في الجنوب كانوا يلقون كل الترحاب والاحترام حتى ان الكثير منهم تقلدوا ارفع المناصب والمسئوليات بل أنهم كانوا يحصلون على معاملة أفضل من الجنوبيين أنفسهم.

ان الشعور بهذه السياسات التمييزية جعل ابناء المناطق الوسطى في حالة تحفز دائم للبحث عن اي فرصة تخلصهم من سيطرة مشايخ وقوى وقبائل شمال الشمال ، حيث اتجهوا في الخمسينات والستينات والسبعينيات جنوبا بحثا عن فرصة تساعدهم في تغيير الواقع في مناطقهم .. ففي نهاية السبعينيات وبعد توقف المعارك بين قوات الجنوب وقوات الشمال وانسحاب القوات الشعبية الجنوبية من المناطق الوسطى التي كانت قد اجتاحتها ،انعقدت قمة الكويت بين قيادتي الشطرين حينها ، كان أبناء تعز يشعرون بالزهو وهم يشاهدون رئيس الجنوب(ابن تعز)عبد الفتاح اسماعيل وهو يدخن سيجارته بكبرياء وشموخ في مواجهة رئيس الشمال (ابن حاشد) علي عبد الله صالح الذي ظهر منكسا ونحيلا ومتعبا للغاية .. والذي بالتأكيد كان يغلي من الداخل وهو يرى صاحب تعز ينخط في وجهه.

وبعد قيام الوحدة عام1990 راهن أبناء تعز واب على الحزب الاشتراكي والجنوبيين في استعادة كرامتهم ووجودهم تجاه من تعنتوا ضدهم في الشمال إلا ان نتائج انتخابات 93م كانت مخيبة للجنوبيين والذين شعروا ان المناطق الوسطى خذلتهم .

اليوم وبالنظر الى الساحات الثورية في تعز واب يظهر بوضوح ان أبناء هذه المناطق يريدون ايصال رسالة انهم كسروا حاجز الخوف تجاه من تسلطوا عليهم كنظام – ولعل تسيير مسيرة الحياة من تعز الى صنعاء قبل عدة أشهر إنما أرادت ان توصل مثل هذه الرسالة وقد لاحظت حينها ان بعض أبناء القبائل النافذة في صنعاء كانوا منزعجين من تحرك أبناء تعز واب واتجاههم شمالا .. ولكن في الوقت نفسه ما يزال التساؤل قائما : لماذا عجزت اب وتعز – رغم ثورتها الهائجة – ان تضع حدا لمعاناتها مع المشايخ والنافذين ؟ ولماذا هي ظاهرة ثورية صوتية وغير عملية ؟ .. ولهذا فان قضية المناطق الوسطى تبقى قائمة طالما وأسبابها قائمة الى جانب ما تعانيه من إشكالات اقتصادية وسكانية واجتماعية وسياسية تعكس بضلالها على الشمال والجنوب .. فلا الجنوب يقبل التعامل معها بنفس ما كان يتعامل معها قبل الوحدة ولا قبائل ومشايخ الشمال يقبلون صاحب تعز ان يحكمهم..اي ان هذه المناطق ستجد نفسها تتشكل في اقليم مستقل نظرا لنفور وتخوف كل ما حولها منها نظرا لجملة من الأسباب والتداعيات والتي سأسعى الى التطرق لها في الحلقة الثالثة.

4- المسألة التهامية:

تعد المسألة التهامية من اعدل القضايا في الشمال وهي ذات امتدادات تتجاوز حدود اليمن الى الأراضي السعودية لارتباطها الوثيق بما يسمى اقليم تهامة والبحر الأحمر .. ففي الشق التهامي اليمني عانى السكان من سياسات جائرة ارتكزت على نهب الأرض بالكامل وتشغيل أصحابها كأجراء مع قوى النفوذ القبلي المتخلف الذين قدموا من قمم الجبال يستعبدون الأرض ومن عليها ويمارسون بكل بشاعة سياسات الإذلال والإفقار والتجويع للسكان .

منذ نحو 15 عاما سنحت لي الفرصة ان ازور الحديدة وبعض مناطق تهامة لأول مرة وقد صدمت حين شاهدت طوابير المتسولين في كل مكان وبشكل ليس له مثيل في مناطق اخرى .. كما لفت انتباهي ان المواطنين يشترون حاجياتهم الضرورية بشكل يومي بل ان بعضهم يشتري متطلبات كل وجبه في وقتها .. لأول مرة في حياتي أشاهد المواطنين يشترون السكر بالأوقية والزيت والصلصلة بالمعلقة .. عندما سألتهم عن السبب قالوا ان امكانياتهم لا تسمح لهم شراء المواد بالرطل او بالكيلو .. هذا الوضع كان منذ 15 عاما فيا ترى كيف أصبح حالهم اليوم؟! .

يعد الفقر والحاجة من أهم الإشكالات التي تعمق من معاناة المواطن التهامي والتي جعلته يتعامل مع سياسات وثقافة الاذلال دون اي محاولة للتمرد عليها في الوقت الذي تتراكم مشاعر القهر وعدم الرضا في النفوس ولكن دون ان تصل الى حد الانفجار نظرا لسلوك المجتمع الزراعي الرعوي الفلاحي الذي يبحث عن تبريرات التعايش مع القبائل والنافذين والمتسلطين الى جانب زيادة مساحات الجهل والتجهيل التي تبرر القبول بسياسات الامر الواقع .

وبالتالي فان المسألة التهامية في اليمن لا يمكن ان تتحرك في المنظور القريب نظرا لتراكم المعاناة وعدم نضوج الظروف الموضوعية والذاتية لإبرازها وإحيائها ، الى جانب ارتباطها بشكل وثيق بالشق التهامي في الأراضي السعودية والأراضي التي كانت إمارة ادريسية مستقلة في زمن مضى .. وليس غريبا ان تجد تهاميا سعوديا يبحث عن متعته في تهامة اليمنية ويمارس نوعا من التسلط والغرور تجاه أبناء جلدته دون ان يسارع الى مد يد العون لمساعدتهم ونجدتهم وهي تناقضات تعكس طبيعة وتعقيدات المشكلة التهامية .

ومع ذلك يمكنني الجزم ان تهامة تمتلك إرثاً تاريخيا واجتماعيا مميزا ولها خصوصية ثقافية وتاريخية وجغرافية واقتصادية تعطيها امكانية التميز والخصوصية كإقليم مستقل تتوفر له مقومات الدولة ولكن لن يتأتى ذلك بسهولة الا بالتقارب والتواصل والتنسيق التهامي بشقيه اليمني والسعودي واستنهاض الارث البطولي للزرانيق وحينها فقط يمكن ان تستعيد خصوصيتها التاريخية والجغرافية والاقتصادية وان تفك ارتباطها بواقعها المزري الحالي.

5- .مشاكل الثروة والسكان والنفوذ:

تعاني مختلف مناطق الشمال من إشكاليات متشعبة تتعلق بانعدام عدالة توزيع الثروة وتكافؤ الفرص وعدم وجود سياسات وبرامج وآليات وأوعية حكومية تمكن أبناء كل المناطق من الانخراط في أجهزة الدولة والاستفادة من البرامج والخطط الاقتصادية والتعليمية .

لا يخفى على احد مدى ما تتميز به مناطق الجوف ومأرب من مخزونات وثروات نفطية ومعدنية كبيرة وأخصب الأراضي الزراعية في الوقت الذي يشكو السكان الحرمان من ابسط الخدمات بل ان هذه المناطق تشكو باستمرار منذ ما بعد قيام ثورة سبتمبر من الاقصاء والتهميش وتصوير سكانها وشبابها كقطاع طرق ومخربين وناهبين للآثار وصولا الى عدم الخضوع للدولة كردود أفعال طبيعية جراء إهمالهم واستنزاف مقدراتهم وحرمانهم من الفرص المناسبة للعمل والتعليم والمنح الدراسية والالتحاق بالكليات الجامعية في الوقت الذي أصبح أبناء مناطق أخرى يحصلون على المنح والوظائف والتعليم على حساب حصة شباب وأبناء هذه ألمحافظات .

وفي نفس السياق تعاني محافظات اخرى مثل تعز واب من تزايد سكاني مهول وموارد شحيحة جعلت ابنائها ينتشرون في كل مكان بحثا عن الرزق والفرص الوظيفية والتعليمية ، وما من شك ان الصيحات بدأت تتعالى في اكثر منطقة والتي تطالب بتصحيح هكذا الأوضاع .

وفيما يتعلق بالنفوذ تبرز اكثر من قضية حيوية بات يشار لها بالبنان وأتوقع ان السنوات القادمة ستشهد المزيد من التركيز على هذه المسائل .. فمثلا اثار الكثير من الشباب الثائرون في الساحات الشمالية – وهم في الغالب ينتمون للمناطق الوسطى – مسألة هيكلة القوات المسلحة والأمن وضرورة تحويلها الى مؤسسة وطنية ينخرط فيها كل ابناء الوطن معترضين على سيطرة قبائل ومناطق محددة على هذه القوات من حيث الانخراط فيها وتولي المناصب القيادية.

وأتوقع ان الفترة القادمة ستتعالى فيها الأصوات في مناطق العصيمات وخارف والجوف ومأرب وصعده والمحويت وريمة مثلا والتي تطالب بوضع حد لسيطرة المناطق الوسطى (تعز) على اهم المؤسسات الوطنية المعاصرة والأكثر تأثيرا في الوقت الراهن مثل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني وفرص التعليم والابتعاث الخارجي .. والمطالبة بوضع سياسات خاصة للقبول في الكليات والجامعات لضمان عدم سيطرة منطقة او قبيلة على المؤسسات الإعلامية والأمنية والعسكرية والمدنية وبشكل يكفل تكافؤ الفرص للجميع .. ما لم أتوقع ان السنوات القادمة ستشهد احتكاكات وتعقيدات وتقوقعات مناطقية وقبلية سببها الرئيس انعدام تكافؤ الفرص وعدم وجود سياسات سكانية وصحية إستراتيجية وسيطرة منطق النفوذ والنهب والفيد على الكثير من العقليات المريضة وهي للأسف ثقافة باتت تسحب نفسها حتى على بعض المثقفين الذين لا يؤمنون بالخصوصيات .

ورغم ان هنالك العديد من الإشكاليات في الشمال إلا اني اعتقد ان ما سبق يمثل اهم هذه الإشكاليات والقضايا وإذا ما تعمقنا فيها كثيرا سنجد انها في مجملها ناتجة عن اهم قضية تعاني منها كل مناطق الشمال تتمثل بالحاجة الماسة الى ترسيخ اسس ومبادئ الدولة الحديثة وسيادة النظام والقانون .. حيث يتضح بجلاء ان الشمال يعاني من توغل نفوذ القبيلة والمشايخ ومراكز القوى والتي تعمل باستمرار على مواجهة كل الأفكار وإعاقة الجهود الهادفة الى اقامة دولة ونظام يحتكم اليه الجميع دون سيطرة لفئة او منطقة على اخرى .. وان هذه المعضلة المستفحلة والمستحكمة بمقاليد الأمور في الشمال منذ أزمنة مضت وحتى اليوم ، هي التي جعلت أبناء الجنوب يجدون صعوبة بالغة في التكيف مع هكذا أوضاع نظرا لان الجنوب كان ينعم بسياسات وقيم معاصرة في الاحتكام للدولة والنظام والقانون .. وعجز كل جنوبي ان يتعايش مع سياسة ما بدأ بدينا عليه والتي يمارسها أبناء الشمال بمختلف تكويناتهم وثقافاتهم والتي تناقلوها جيلا بعد جيل وتعاملوا معها كمسلمات يعتمد النجاح فيها على الفهلوه والشطارة واقتناص الفرص حتى وان كانت على حساب الآخرين.

ولهذا استطيع القول ان الأرضية في الجنوب مهيأة ومواتية لاستعادة سياسات الدولة والنظام والقانون بكل سهولة وفي اسرع مما يتصور اي عاقل في الوقت الذي يصعب تطبيق هذه المعادلة على مناطق الشمال كونها اصلا لم تتعود على وجود الدولة الحقيقية منذ مئات السنين ، وبالتالي فان كل هذه القضايا ستكون مطروحة بقوة على موائد وطاولات الحوار ولن يكون بمقدور أبناء الجنوب الانتظار عشرات السنين حتى يتمكن أبناء الشمال من حلحلة مشاكلهم وتعقيداتهم الحياتية والانتقال من دولة القبيلة والفوضى الى دولة النظام والمؤسسات ولن تستطيع كل الشعارات الثورية المرفوعة في الشمال إقناع ابناء الجنوب بإمكانية إحداث التغيير المنشود وبناء الدولة الحديثة ، لان الحقيقة على ارض الواقع تؤكد ان كل ما سمعناه طوال السنة والنصف الماضية من صخب ثوري وشتائم ومواجهات وخسائر وضحايا ليس سوى مجرد شعارات تحتاج الى اكثر من ثورة جديدة كي تحقق نتائج فعلية على ارض الواقع.

في الأخير اعتذر للصحيفة وللقراء لتأخر إرسال الحلقة الثانية نظرا لظروف خارجة عن الإرادة أهمها انقطاع الكهرباء.. كما أجدها فرصة لتهنئة كل أبناء الجنوب بسلامة عودة المناضل حسن احمد باعوم الأب الروحي للحراك الجنوبي السلمي بعد رحلة علاجية ناجحة ونتطلع الى دوره الهام في توحيد رؤى ابناء الجنوب وتعزيز موقفهم في ظل الظروف الراهنة الصعبة والخطيرة ..وان شاء الله في الحلقة القادمة سأحرص جاهدا على عرض التصورات والسيناريوهات لمستقبل قضية الجنوب وإشكالات الشمال من خلال مؤتمر الحوار وما بعد مؤتمر الحوار.