مجلس في الجنة
بقلم/ علي الكثيري
نشر منذ: 13 سنة و شهرين
السبت 01 أكتوبر-تشرين الأول 2011 06:51 م

"بين شيخ الشهداء علي العرومي والطفل الشهيد أنس السعيدي"

هو ذا مجلس المسك .. على قنطرة من قناطر جنة النعيم .. يمر من تحتها أنهار اللبن والعسل ، وبقربها .. ناعورة عالية .. تُسمعُ الجالسين تناغم القطرات حين تتساقط من على دولابها ، وأصوات العصافير تكمل ذلك النغم .. فتشبعه تجـانساً يبعث البهجة في نفـس كل من يرتاد المكان ..

من فوقها السماء صافية .. يضيئها نور يشع له وجوه الجالسين ، ومن تحتها هضبة خضراء منبسطة .. تنساب عليها جداول رقراقة من كل مكان ، قد توسطت جنة الخلد في درجاتها العلى ، وتزيّنت بأزاهيرَ حمراء .. داكنة لونها .. كالدم المتدفق من صدور الشهداء في الدنيا .. وأما رائحتها فالمسك الأذفر .. يُشتَمُّ عبيره من كل مكان على تلكم الهضبة الجميلة .. ويحيط بها من حولها أشجار الرمان .. والتين .. والعنب .. والطلح والسدر ..

أما على رأس تلك الهضبة :.. فقد نَشرت "طوبى" أغصانها .. وتدلت بثمارها .. وفاح في الأرجاء عبقها ، واستأثرت للشهداء بظلالها.. فما تظلُّ أحداً إن لم يكن شهيداً ، وليس أيّ شهيد .. بل هي لسادة الشهداء .. الذين خرجوا للظالم منكرين .. ولبغيه مانعين .. ولإفساده صادّين .. فما كان منه إلاّ أن بطش بهم ، هـم أولئـك الشهداء الذين أعطوا لله أرواحـهم .. فأعطاهم النعيم الذي أعده بيده لهم ..

هنا .. يبرز ظل رجل كهل كبير من أهل اليمن .. يُرى في وجهه نضرة النعيم .. وترتسم على محياه ابتسامة تشرق بها الكائنات من حوله .. يتكئ على عصا من نور .. في جسده موضع يفوح عِطراً عَبِقَاً زكيّاً يسبقه أينما حلّ .. ما اشتمه أحد من أهل الجنة إلاّ وقد علم أنها رائحة شهيد .

هو يتجه إلى مجلس المسك .. خارجاً من بين أشجار التين .. يتناول منها ما اشتهاه ، قد اعتاد في ضحى كل يوم أن يأتي إلى هذا المجلس ينتظر قوافل الشهداء اليمانيّة وهي مقبلة على جنان الله .. يأخذ أخبارهم .. ويسمع كلامهم .. ويطمئن على ثورتهم .. وعلى من بقي من أهالي من سبقهم .. ثم يخبرهم بما أعده الله لهم ، إنه كهل شهداء اليمن.. إنه الشيخ علي العرومي ..

يعرفه اليمانيّون ولا ينسونه .. من أهل مدينة إب الخضراء .. رآه الناس يوماً وهو يسير في الطرقات يرفع يديه إلى السماء .. يبكي بكاءً مريراً .. متظلماً إلى الله بطش الظالمين ، ثم رآه الناس مصاباً في رأسه وهو يقول :.. الحمد لله .. الموت على لا إله إلاّ الله أحلى من العسل .. ثم رآه الناس مسجىّ على فراش الموت ، وقد فاضت روحه إلى باريها شهيداً بين صفوف الثائرين على الظلم .. المنكرين على الظالمين ..

بينا شيخنا العرومي جالس في مجلس المسك .. إذ أقبل عليه طفل صغير .. قد أنبت الله له جناحين فكأنما هو طير من أطيار الجنة .. وجهه كفلقة البدر .. كان يطير في أرجاء الجنة مندهشاً مما هو فيه .. يجلس على أغصان أشجارها الوارفة .. ويلاعب طيورها الجميلة .. وينتقي من ثمارها اللذيذة .. في جبهته كُدمة تنبعث منها رائحة المسك .. تنتشر من حوله أينما حل .. وكيفما ارتحل .. على محياه ابتسامة تكسوها البراءة .. فهو لا يعرف المكر أبداً ، ويداه الصغيرتان .. طاهرتان نديتان .. فهو لم يقترف بهما إثماً أبداً ، كل ما يعرفه من دنياه .. أمه التي كانت تضمه وتحنو عليه .. وأباه الذي كان يحمله ويشفق عليه .. وإخوته الأطفال الذين يكبرونه قليلا ولا يكفون عن اللعب معه والضحك إليه ..

يذكر من دنياه أنه كان قبل قليل : يلاعِبُهُ أخوه .. ويقبله .. ويضمه ويحتضنه .. ويصلح ملابسه .. ويعضّ برفق على أطراف أنامله .. وهو في هذا يضحك معه ، وعلى هذه الحالة .. كانوا ينتظرون أباهم داخل السيارة ، وفجأة أظلمت الدنيا أمامه .. فأغمض عينيه .. ثم أعاد فتحهما .. فوجد نفسه هنا .. في جنة النعيم .. والخلد المقيم ، لم يدر مالذي حل به .. لكنه وجد نفسه هنا ، إنه أصغر شهداء الثورة فـي اليمن .. إنـه الشهيد أنس السعيدي .. ابن العشرة أشهر .. من أطفال صنعاء ..

هو أيضاً لا ينساه اليمانيّون ولاينكرونه ، ويعلمون أن دمه الطاهر كان قرباناً من جنود ابليس إلى سيدهم في يوم عودته .. أولئك المجرمين المدججين بالسلاح .. الموغلين في دماء الشهداء الأبرياء ..

التقى الشيخ العرومي مع الطفل السعيدي .. فتعانقا طويلاً .. وقبّل كل منهما جبين الآخر .. تكلّم العرومي عما حباه الله لشهداء الثورة من نعيم الجنان .. وكيف أنهم كانوا أول من أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حوضه .. وكيف أنه كان يناديهم بأسمائهم ويسقيهم واحداً واحداً بيديه وهو يخاطبهم :.. إنما أسقي لكم أولاً يا أهل اليمن .. ثم أخبره كيف أن الله تعالى أكرمهم بأن جعلهم من أوائل السابقين إلى الجنان .. وأنه أعطاهم كل ما يشتهون .. وأكثر مما يتمنون .. ثم حدثه أيضاً كيف أنهم في كل يوم يجلسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهم بما يجري في ساحاتهم ، ومن سيلتحق بهم من الثائرين في يومهم ، وما أعده الله في الجنان من نعيم لهم ..

في لحظة من ثنايا هذا الحديث الشيق عن الجنان وما فيها .. سكت العرومي قليلاً ، ثم استطرد قائلاً : " أتدري يا حبيبي يا أنس ما الذي أتمناه ؟ " ، نظر إليه أنس وقد بدت عليه علامات الاستغراب ، فأي شيء يتمناه رجل يعيش هذا النعيم في الجنة !! عندها قال العرومي : " والله يا أنس .. وددت لو أن الله يردُّني إلى الدنيا ، فألتحق بصفوف الثائرين ، فيقتلني الظالمون شرّ قِتلة يقتلون أحداً بها ، وأشنع تنكيل ينكلون بريئاً بها ، فإذا ما عدت إلى الجنة .. سألت الله تعالى أن يعيدني فيها مرة أخرى فيكون بي ما كان من قبلُ أو أشد .. ثم أعود .. ثم أعود .. ثم أعود .. إلى أن ينصر الله الثائرين على الظالمين " سكت العروميّ قليلاً ثم قال للشهيد أنس : " لكن الله لم يجعل لأحد ذلك " نظر الشيخ العرومي إلى الطفل الشهيد أنس ثم قال له مستفهماً : " وأنت أيا حبيبي يا أنس .. فما الذي تتمناه ؟ " .. قال أنس : " كل هذا النعيم الذي رأيته أنا .. والذي حدثتني عنه أنت يا جدي .. أعلم أن لحظة واحدة فيه لا تعدلها الدنيا وما عليها من نعيم .. " .. عندها أطرق أنس رأسه قليلاً .. فتحدرت من عينيه دمعة كأنما ريحها الريحان ، ثم قال : " ولكني والله يا جدي .. أشتاق إلى ضمة على صدر أمي " ..

انتهى ..

قاتل الله من قتلك ياشهيدنا العرومي

قاتل الله من قتلك ياشهيدنا السعيدي

قاتل الله كل من قاتل أهل اليمن وأهل سوريا وأهل ليبيا ومن قتل كل مظلوم طلب أن يُنْصَفَ ممن ظلمه ..