من الذي أفتى باغتيال عمر الجاوي .. وكيف انقذه البيض
بقلم/ عبدالفتاح الحكيمي
نشر منذ: 3 سنوات و 11 شهراً و 17 يوماً
الجمعة 25 ديسمبر-كانون الأول 2020 06:16 م
 

قبل أن يداهمه المرض العضال أوائل شتاء ١٩٩٧ م زرته إلى مسكنه في مدينة حدة-صنعاء.

كان ضمن ضيوف مقيل الأستاذ المعلم الوطني الكبير عمر الجاوي المناضل حسن احمد باعوم والأساتذة عبدالعزيز الزارقة وأحمد كلز أو عبدالكريم الفسيل وآخرون من مختلف ألوان طيف السياسة بما فيهم أحياناً ربما جاره في الحي ذاته الأستاذ المتألق عبدالكريم الرازحي.

لم تمر أقل من شهرين على ذلك إلا ومحبوا الجاوي يضعون اياديهم على قلوبهم بانتظار الرجل الذي قضى أيامه الأخيرة في غيبوبة بمستشفى عدن العام(وليس في صنعاء).

لكن أهم شيء كان هو اكتشاف الزعيم الوطني الكبير قبل وفاته مدبري واقعة اغتياله الفاشلة الحقيقيين التي قضى فيها رفيقه شهيد الديمقراطية الأول المهندس حسن الحريبي(أبو فهد) في سبتمبر ١٩٩١م.

ذات المقيل قال لي عمر الجاوي بصوت خفيض ومُتَّكأي إلى جانبه ((ليلة أمس مازحت الرئيس علي عبدالله صالح عند اتصاله وذكرت له رغبتي في أسناد رئاسة تحرير صحيفة التجمع إليك, وقد تغير صوته وأبدى انزعاجه .. وأضاف : أكدت له أنني أعاملك مثل ابني وأن علاقتنا ودية لم تتأثر بالاختلافات ووجهات النظر )).

 كان هذا هو عمر الجاوي المحب للجميع أصدقاءه وخصومه بالدرجة نفسها.. لكنه لا يعلم أن أصابع الرئيس(الزعيم) الذي يسامره في مكالمات ليلية متقطعة منذ فترة طويلة مع مرشد حزب المؤتمر((توأم القرآن الزاهد)) هم أقطاب قرار اغتياله الذي اصيب فقط في ساعد يده اليسرى بسبب يقظته لحظة إطلاق النار الكثيف باتجاهه من سيارة هيلوكس, وقضى رفيقه الحريبي مظلوماً..

فالزعيم وجهازه الأمني الخاص ائتمروا .. ومرشد المؤتمر أفتى من وحي قرآنه الشخصي

 بإهدار دم الأستاذ عمر الجاوي بزعم((سب الذات الإلهية!!)).. وربما أصدقاء المرشد من مرشدي الحليف الاستراتيجي للمؤتمر لهم أيضاً بصمات فنية عميقة مساهمة في الفضيحة((كلٌ يغطي على الآخر)).. وربما كشف المنفذون(المنكشفون) بعض المستور لاحقاً بعد تحلل المستفيدين من صفقة الموت!!

قال لي الزعيم عمر الجاوي في لقاء سابق أن علي عبدالله صالح صرف له شقة سكنية((عقوبة)) في المشروع الليبي((هدية القذافي الوحدوية لكوادر الاشتراكي القادمين من عدن)) وموقع الشقة سيء تحتاج إلى إصلاحات لتسهيل دخوله وخروجه منها.. أقرب ما تكون إلى(بدروم) قاع الجبل فيما ورث معظم زمرة عبدربه حصص فلل وشقق معظم كادرات الاشتراكي كجزء من ثمن معركة ٩٤م.

تبلدت مشاعر الرجل أو أنه بالعامية ..((طَنَّن)) وابتلع ريقه بغصة غير المصدق لبركات مكالمات الصالح ..

ومن طبيعة الأستاذ عمر الجاوي الترفع عن الإساءات اليه وإخفاء انفعالاته وتأثره, لكنني لمحت في عينيه أنه بدأ يتغير بحذر من جهة اضطراره إلى التظاهر بالرضى عن صاحب السلطة, وأن لا مفر إلا مواصلة الرد على مكالمات آخر الليل لتطمينه بخلو جانبه من مؤامرة سابقة أو محتملة.

ظهر خبر وفاة الأستاذ عمر الجاوي بعد أشهر في الصفحة الاخيرة من صحيفة الجيش الرسمية ٢٦ سبتمبر بصيغة تشفي ونشوة كأنه رصاصة أخيرة تطلقها سلطة صالح في جسد ميت لا يزال يرعبهم أو لم يصدقوا أنه فارق الحياة فعلاً.. وبعد أكثر من ٦ سنوات على جريمة الاغتيال الفاشلة.

كان أفضل وصف لمهابة ومكانة الشهيد عمر الجاوي قرأته إلى اليوم ما قاله عنه الأستاذ عبدالرحمن الجفري لصحيفة التجمع(( أن عمر الجاوي كان مِلْح السياسة في اليمن)).. ولا تفي المراثي وقواميس اللغة بالقليل من مناقب الرجل الوطني والمبدأ والإنسان, بكل سمو سيرته وتجربته السياسية والوطنية وتأثيرها على قرارات مصيرية كبرى مثل دوره في إقناع علي سالم البيض بمشروع دولة الوحدة..

وكان الاستاذ البيض نائب رئيس الجمهورية حينها بالمناسبة أول من أرسل حراسته الخاصة لإنقاذ حياة عمر الجاوي ورفيقة حسن الحريبي المترجل في سبتمبر ١٩٩١م .. وذكر ذلك لي أبو آزال كيف أن البيض ألبسه معوزه وقميصه الشخصي بعد أن غرقت ملابسه بالدماء, ثم استدعى له طبيبه الخاص لأسعافه وعلاجه داخل منزل البيض نفسه.

* نظام صالح يتشفى بموته *

وكتبت باستشهاده مرثاتين على طريقتي .. إحداها استفزت الرئيس صالح الذي كان يحسبني كرئيس تحرير لمنبر حكومي هو مجلة معين, لكنني نشرت المرثاة في صحيفة قريبة من حزب رابطة الجفري, فتضاعف تنغيص احتفال صالح بموت الجاوي أيضاً من صحيفة تابعة لخصومه وقلم ظن أنه قد أمن ازعاجه ولو مؤقتاً.

كتبت أن مرض عمر الجاوي الحقيقي هو سرطان السلطة ألذي عانى منه وأرَّقه طويلاً).. في إشارة ضمنية لمزاعم تبني السلطة نشر خبر وفاته بسرطان الدماغ.

في الحقيقة يوجد تقرير طبي عن إصابة الرجل بتسمم بطيء تسبب بتليف الكبد, وهذا مثبت بالتحاليل الموثقة طوال السبعة الأشهر التي سبقت وفاته.

واضطر رحمه الله إلى الاعتذار من ضيوفه كثيراً لتعرضه لنوبات إرهاق شديدة إلى حد الإغماء احياناً.

كان يبدو عند افاقته متماسكاً وفي أكمل قواه الجسدية والذهنية, ثم تذبذبت حالته ..

حتى أنني حضرت ربما هامش لقائه في بداية توعكه بالزعيم حسن أحمد باعوم وتخطيطهم المشترك لمظاهرات المكلا, ولاحقاً عزمه مع بعض الاشتراكيين إخراج تظاهرة كبرى في صنعاء لكنها لم تتم.

وجاءت مؤشرات تدهور حالته الصحية الأخرى لاحقة لحالة التسمم البطيء ..

لم يقل الخبر الرسمي حتى أن الرجل كغيره توفي أثر مرض عضال ولا عن إصابته بسرطان بل(في الرأس والدماغ) .. إشارة خبيثة لا تخفى على من يفرق بين الخبر المحزن والتشفي والتشهير..

وكان الأولى تحرير خبر أو تعزية دون صيغة التشهير الرسمية هذه التي أفرحت نفوس خبيثة بطبعها لا يحمل لها عمر الجاوي رحمه الله أدنى ضغينة فيما لم ترعى هي لا أعراف أو أخلاق ولا حرمة الموتى .. ولرجل ذنبه الكبير أقناع علي سالم البيض بتسليم سلطة دولة الوحدة بعاطفته لمن لا يستحقها !!.

* الرئيس يحقق معي*

لم تمر مقالتي(عمر الجاوي وسرطان السلطة) التي نشرتها في صحيفة الحق(شبه المغمورة) دون أن يرسل لي الرئيس صالح إلى البيت بصنعاء رسالة خاصة عبر شخص عزيز يستوضح فيها عن فحوى السرطان ومن المقصود في مقالتي .. وأشيع أيامها أن الزعيم نفسه يعاني لوكيميا(سرطان ابيضاض الدم) لكن المقالة تلمح إزاء احتمالية أن الجاوي قضى بمكيدة غير مستبعدة وهذا ما يغيضه أكثر.

 وكان لمقالتي عن رحيل أو ترحيل الجاوي إلى دار البقاء أن تكون مرثية تقليدية لولا خبر صحيفة ٢٦ سبتمبر بابتذالها الصارخ.

دَسَسْت في جيب معطفي حوالة مالية لابأس بها حملها إلي الضيف في رسالة جاهزة مختومة وموقعة من الرئيس, فشكرته, وهذا الرجل الدمث لا يزال كما هو من أفضل من عرفتهم من الدائرة شبه القريبة من صالح.. لم تؤثر مغريات السلطة من إنسانيته وأخلاق ابناء القرية بداخله !!.

أوائل أكتوبر ١٩٩٧م عرضت على الأستاذ عمر الجاوي مقالتي من((ثورة الفقر إلى فقر الثورة)) قبل نشرها في مجلة معين فالتفت إلي بنظراته الضاحكة كمن لا يصدق: معقول تنشر كل هذا في منبر شبه رسمي وفي عيد ذكرى ثورة ١٤ اكتوبر كمان)).. قال مازحاً:

 عندما كنت في إذاعة صنعاء في حصار السبعين طالب البعض بتجميدي فقلت لهم هذه مؤسسة دولة(قطاع عام) وأشار ناحيتي .. يبدو أنك ستحتاج إلى مخرج مشابه) وهو ينفث دخان غليونه الشهير كمن ينتظر نهاية الحبكة, فقبلت التحدي وكان ما كان من توقيفي بعد صدور مجلة معين متزامنة مع عرض عسكري ضخم لم يعكر صفو الصالح وأقاربه المحتفلين بالثورة بجد غير تلك المقالة الملعونة وخبر نفطي, لم اكترث معها لتوقيفي عن الوظيفة بسببها لأن الإحساس بقدرتنا على قول أقل القليل في تلك الحقبة المشؤومة أغلى من ماس الشموس بحسب شاعرنا الكبير المقالح.

* الاغتيال الثاني*

الأغتيال العلني الفاشل الثاني لعمر لجاوي كان في عدن بعد المؤتمر الصحفي الذي انعقد رداً على إعلان علي سالم البيض بيان الإنفصال .. أطلق عليه احدهم النار من الخلف ونجا بأعجوبة عدا إصابة متوسطة قرب الفخذ فأدان الإنفصال والحرب التي قاد إليها الطرفان.. ولم تخل اللحظة من مجنون يخطئ الهدف, وردد عمر الجاوي بعدها قوله المأثور كلما نجا من مكيدة قتل وشيكة(( أنا قلت لكم إن جدي عمر بن علي)) إشارة إلى ما يعتقد من كرامات أحد أجداده من الصالحين من بيت السقاف في الوهط بلحج حيث الضريح, لكنه كاشتراكي الفكر والثقافة يقول ذلك للمزاح فقط.. قلت له بعدها يعني حكمت على خلو عملك من الصالحات, فيرد بقهقهة إلّا هذه أتركها للباري!!.

* الاشتباه بالشيخ الأحمر *

لا يخفى أن الرجل توجس أيضاً لدور ما أو رغبة للشيخ عبدالله الاحمر في واقعة استشهاد الحريبي((الاغتيال)) .. قبلها بشهر طلب مني(أنا سكرتير التحرير) بصورة عاجلة مغادرة مقر صحيفة التجمع بكريتر(مقر حزب التجمع حالياً), ظننت ذلك حماقة منه, لم أتردد أمام إصراره .. يومها أرسل الشيخ الأحمر بعض شيوخه من صنعاء إلى عدن للاحتجاج على مقالات تناولته بالاسم أو ضمنياً إحداها بتوقيع سكرتير التحرير(أنا) قبل ظهور صفتي الصحفية على ترويسة الصحيفة.. ولم يفت الأستاذ الجاوي بعد نجاته من الاغتيال وارتقاء رفيقه وعودته إلى عدن التلميح إلى علاقة ما لاحتجاج الأحمر السالف وتذكيري بما بإرسال جماعته قبلها .. وتذكرت أصراره على مغادرتي المقر لاخفائي عن عيون الزائرين النهمة!!.

أفصح الرجل عن تهديدات مباشرة وجهاً لوجه من الشيخ عبدالله وتوعده له, ولم يكترث لها لكنه حرص على شعرة معاوية, فلا يفجر في الخصومة كما يغدرون هم جهاراً نهاراً.

وأخيراً لم أجد من هو محب لأبنائه أكثر من الراحل الكبير عمر الجاوي وتفاجأت بآزال ابن السياسي الكبير ذات يوم في زي الكلية العسكرية وقد حلق شعر رأسه أو حلقوا له !.. المهم كانت لحظات فارقة وأنا ارقب تلك المحبة المشتركة بين الولد اليافع وأبيه وكأنهما أكثر من أصدقاء .. وعن ابنته لينا التي لا يتوقف في الحديث عنها وفرحته العارمة بزواجها أكثر من أم العروس يوم زفافها.

كان إنساناً بمقاييس أولياء الله الصالحين الذين لا يتكررون.. فأقام في غرفة صغيرة باتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ووهب بيته وسكنه الشخصي في خورمكسر لإخواته ومن يرى فيهن كل شيء كما هو حال أصدقائه وتلامذته ألذين تشاطروا قلبه الكبير ولن ينسونه ما حيوا.

فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً.. ولا نامت أعين اللؤماء.

 

المكلا / ٢٣ ديسمبر ٢٠٢٠ م

** عبدالفتاح الحكيمي: سكرتير التحرير الأسبق لصحيفة التجمع(لسان حال حزب التجمع الوحدوي اليمني) ١٩٩١-١٩٩٣ م.