يوم أن عاد الخميني
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 3 سنوات و 10 أشهر و 9 أيام
الإثنين 01 فبراير-شباط 2021 09:23 م
 

في ليلة الإعلان عن مولد عام 1978، شهد قصر نياوران بإيران تبادل النخب، بين الشاه محمد رضا بهلوي والرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وبحركة مسرحية رفع الأخير كأسه مهنئا صاحب الجلالة بالحفاظ على مملكته كبحيرة هادئة في العالم متلاطم الأمواج، لكن الشاه لم يكن يدري أنه الاحتفال الأخير.

فلم تمرّ عشرة أشهر حتى استقبل الشاه رسالة البيت الأبيض عبر السفير الأمريكي، تطالبه بالرحيل، بعد أن أعطت أوامر لأربعين ألف جندي أمريكي في القاعدة الأمريكية بإيران بعدم التدخل لصالح الشاه، حيث تخلت عن حليفها الأبرز في المنطقة، لصالح قيادة جديدة، قيادة بعباءة وعمامة سوداء، جاءت في مثل هذه الأيام قبل 42 عاما على متن طائرة فرنسية، لتكتب آخر فصول الثورة التي اجتاحت إيران ضد الشاه، وبدء حكم الملالي، كان آية الله الخميني، الذي غيرت ثورته وجه المنطقة. ربما البداية كانت في الستينيات، عندما قام الشاه بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، أطلق عليها الثورة البيضاء، استهدفت تمكين صغار الفلاحين بعد إزالة طبقة كبار ملاك الأراضي، فرارا من ملاحقة تهمة الاستبداد، ورغبة في تحديث الزراعة، لكن هذه الإصلاحات أثارت حفيظة طبقة رجال الدين، حيث أن الإصلاح الزراعي الذي يهدد بقاء أملاكهم الكبيرة، وكذلك مشروع حق النساء في الاقتراع، جوبه بمعارضة شديدة من قبل هذه الطبقة والجبهة الوطنية، وقاد تلك المعارضة آية الله الخميني البالغ من العمر 64 عاما آنذاك، وهو رجل دين ومرجعية فقهية رفيعة في بلاده.

أصدر الخميني فتوى بمنع المشاركة في الاستفتاءات على الإصلاحات، أعقبها بالعديد من الفتاوى المناهضة للنظام، كانت تحولا كبيرا في شعبية الخميني.

سقط آلاف القتلى جراء مواجهة الحكومة للمعارضين، وجرى توقيف الخميني، ثم أطلق سراحه نظراً لمكانته الدينية (منصب المرشد الأعلى) مقابل الكف عن إصدار تصريحات سياسية، إلا أنه عاود الانتقاد لنظام الشاه، فتم نفيه إلى تركيا، ثم غادرها متوجها إلى النجف. ويرى الدكتور هوشنيك نهاوندي، الذي كان يشغل منصب وزير الإسكان في عهد الشاه، أن فترة وجود الخميني في النجف جعلته محل اهتمام دول أمريكا وأوروبا والاتحاد السوفييتي وأجهزة المخابرات العالمية ليكون ورقة في تحقيق مصالحهم، حيث تغيرت سياسات هذه الدول مع إيران. مع تزايد شعبية الخميني وهيمنته على المعارضة في الداخل الإيراني خلال إقامته في فرنسا، أوعز السافاك إلى جريدة رسمية حكومية بنشر مقال في يناير 1978، يهاجم الخميني، الأمر الذي فجر المظاهرات الطلابية في مدينة قم، وتحولت إلى حركة احتجاج شعبية، تصدى لها الأمن الإيراني، ما أوقع العشرات من القتلى. وكان من الواضح أن النظام الإيراني لم يقدر حجم المعارضة الدينية، ويجهل مدى تضامن الجماهير الإيرانية مع الخميني، خاصة مع تحالف القوى العلمانية المعارضة مع الحركة الدينية، فكانت إيذانا بانتهاء حكم الشاه، وفي الوقت الذي كان الخميني يبث تسجيلاته الصوتية المحرضة على النظام من المنفى، انتشرت التظاهرات، ودبت في الوزارات والمصارف والصناعة النفطية، ودخل المتظاهرون في مناوشات مع الجيش والشرطة في الشوارع، وقد أوقع الطابع السلمي للاحتجاجات، الجيش في حرج، ومع انضمام فئات متعددة في الداخل الإيراني، ظهرت الثورة بانطباع وطني.

وفي سبتمبر 1978 طالب الجمهور برحيل الشاه وعودة الخميني، فأعلنت الطوارئ في أكثر من عشر مدن إيرانية، بينها طهران، ثم كانت الجمعة السوداء التي أطلق فيها الجيش النار على خمسة آلاف شخص متظاهر معظمهم من الطلاب، بمثابة نقطة اللاعودة أو المفاصلة بين الشعب والشاه.

إزاء احتدام الوضع وتأزمه، حاول الشاه تخفيف الضغط، وأطلق سراح أكثر من ألف سجين سياسي، وأعلن أن المنفيين ومن بينهم الخميني أحرار في العودة إلى إيران، وأعلن كذلك اعتزامه إجراء انتخابات حرة.

الوقت قد فات، حيث أن المعارضة لم تصغ إلى هذه الإجراءات، وأقامت جبهة حزبية موحدة، التقت بالخميني في المنفى، في الوقت الذي استمر فيه حراك الشارع الإيراني ضد السلطة، وظهرت إرهاصات تمرد في الجيش على الشاه، حيث رفض بعض الجنود أوامر إطلاق النار تجاه المتظاهرين، وتواصلت الاحتجاجات، رغم إعلان الشاه إسناد الحكومة إلى زعيم الجبهة الوطنية شاهبور بختيار، وزاد تصعيد الجماهير، حتى غدت السيطرة على المدن لمنظمات محلية غير متجانسة، كانت خليطا من الإسلاميين واليساريين والعلمانيين وغيرهم. وفي مطلع فبراير 1979، رحل الشاه الإيراني إلى مصر، وكان كل شيء جاهزاً لاستقبال الخميني، بما في ذلك الترويج منقطع النظير الذي قامت به القنوات والصحف الفرنسية والإنكليزية والأمريكية، وبالفعل وضعت شركة الخطوط الجوية الفرنسية طائرة تحت تصرف الخميني، بتوجيهات من وزارة الخارجية الفرنسية في الأول من فبراير، لتبدأ إيران عهدا جديدا بعد نجاح ثورة الخميني.

فور عودة الخميني إلى طهران، كانت أوثق المصادر حينذاك تشير إلى أن الجيش بات عاجزا عن تنفيذ انقلاب، وفي الوقت نفسه يستحيل قيام حكم ديني بدون موافقة الجيش، كما أشارت المصادر إلى أن ضباط الجيش لا يزالون على ولائهم لشاه إيران، وأن خصوم الشاه من داخل الجيش هم من أبناء الطبقة المتوسطة الذين نالوا قسطا وافرا من التعليم. في التاسع من فبراير، هاجم مهندسو سلاح الطيران، وبعض أفراد الحرس الإمبراطوري، مبنى الإذاعة والتلفزيون، بسبب بثه فيلما عن وصول الخميني إلى إيران، وأعقبه في اليوم التالي صدام بين طلاب الكلية الجوية والحرس الإمبراطوري، وتم الهجوم على مقار قيادات الجيش، وأقسام الشرطة في طهران، لاحتلال مصنع البنادق الآلية، بهدف تسليح المدنيين لمواجهة القوات المسلحة، وقد أعرض بعض قادة الجيش عن التصدي للثوار، ومع تزايد أعداد المدنيين حمَلة السلاح، تمت السيطرة على أكبر معسكرات طهران، أصدر على إثرها مجلس قيادة الجيش بيانا يفيد بأنه يقف على الحياد بين الحكومة وأنصار الخميني، وأمر الجنود بالعودة إلى الثكنات العسكرية.

يرى الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، أن الثورة الإيرانية لم تستطع التغلب على بعض التناقضات الطبيعية التي واجهتها بأسلوب مستنير، وهو ما كان واضحا من البداية، بسبب الطبيعة الثورية للحالة الإيرانية، ونوعية القيادة التي تولت زعامتها، فلم تكن أكبر التحديات إسقاط نظام الشاه، وإنما إدارة الدولة بعد نجاح الثورة. ظهر التناقض بين رجال الدين ورجال السياسة في تصورات ومفاهيم كل منهما، حيث اختفى على سبيل المثال المجلس الأول الذي تولى الحكم بعد الثورة مباشرة بأكمله، كما وقعت الثورة الإيرانية في التناقض بين فكرة الدين وفكرة الوطنية، حيث تحولت الثورة من ظاهرة إنسانية إلى ظاهرة شيعية محاصرة داخل إيران. وجدت الثورة الإيرانية كذلك نفسها في تناقض بين الواقع الجديد داخل الجمهورية، وواقعها في الإقليم الذي تعيش فيه، وأهدرت عاما بأكمله في قضية الرهائن الأمريكيين، لكي تثبت أن لديها القدرة على إذلال أمريكا، في الوقت الذي دخلت في معارك داخلية مع العرقيات والقوميات المختلفة، مثل الأكراد، والأذربيجانيين، والبلوش.

وبدا التناقض بين الجماعات الثورية والمؤسسات الدائمة، فعندما نشبت الثورة اعتقدت أن بإمكانها القضاء على جهاز الأمن السياسي، وإحراق ملفاته، باعتباره جزءاً من النظام القديم، إلا أنها وجدت نفسها بحاجة إلى معلومات وقواعد بيانات لا يمكن الاستغناء عنها، ورأت أنها يمكنها الاستغناء عن الإدارة، لكنها وجدت نفسها غارقة بسبب عدم القدرة على التخطيط والتنفيذ.

أما عن نظرة العرب تجاه ثورة الخميني، فقد انقسمت إلى نظرتين: الأولى، رأى أصحابها في أن الثورة تمثل مشروعاً قومياً فارسياً، محملا على رأس طائفي، وأن إيران تسعى للهيمنة على المنطقة وابتلاعها. والثانية: يرى أصحابها في إيران مثالا للدولة المسلمة الثائرة على الظلم والتبعية ومواجهة الإمبريالية والتسلط الأمريكي الصهيوني، وأنها تتخندق مع المظلومين في العالم الإسلامي، وتدافع عن قضاياهم. لقد عملت الثورة الإيرانية على اجتذاب شرائح عدة من المجتمعات العربية، عن طريق الصبغة الإسلامية التي ظهرت بها الثورة، والخطاب العاطفي الديماغوجي، الذي ركز على القضية الفلسطينية ليجتذب الإسلاميين، وكذلك اجتذبت بعض القوميين العرب للسبب ذاته، أي تبنيها خطابا معاديا للكيان الصهيوني والدفاع عن القضايا العربية ذات الاهتمام المشترك، كما اجتذبت فئة اليساريين من خلال طرح نفسها كدولة ثائرة على الإمبريالية العالمية الممثلة في الولايات المتحدة والغرب. وقد أجمل الدكتور عبد الله النفيسي أستاذ العلوم السياسية الكويتي، الأسباب التي جعلت العرب يستبشرون بالثورة الإيرانية، فذكر أن أول هذه الأسباب أنها أطاحت بالشاه الإيراني الذي كان يعادي العرب في المحافل الدولية، ويمالئ الكيان الصهيوني، وقام باحتلال الجزر الإماراتية، والسبب الثاني اعتقاد العرب بأن الثورة خلعت عن إيران لباسها الفارسي، الذي ألبسها لها الشاه الإيراني، أما السبب الثالث فهو قيام الثورة الإيرانية بتسليم مقر البعثة الإسرائيلية في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية، في احتفال رسمي، بما يعني تبني القضية الفلسطينية كقضية مركزية.

الثورة الإيرانية قامت على أساس مذهبي، وهو منهج الشيعة الإمامية، التي تنتظر إمامها الثاني عشر الغائب، ولأن الدولة أو الحكومة الإسلامية عندهم لا تكون إلا بوجود هذا الإمام، فقد اخترع الخميني نظرية الولي الفقيه، وبموجبها ينوب أكثر القوم فقها وعلما عن الإمام الغائب، وله جميع صلاحياته لحين خروجه، وبذلك استطاع الخميني أن يحسم مسألة من ينوب عن الإمام، وانتصرت السلطة الدينية على السلطة المدنية.

لكن الثورة الإيرانية أكلت أبناءها، وانحرف بها الخميني عن مبادئها، حيث عطّل مسيرة الحرية التي نادت بها الثورة وقام بقمع معارضيه، وخرج على مبدأ الشورى الذي أقره الإسلام، رغم أن الثورة ذات صبغة إسلامية، وحصر في شخصه جميع السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وخول نفسه دستوريا لعزل رئيس الجمهورية، وإقالة الحكومة، وحل مجلس الشورى، ونص الدستور الذي وضعه على أن يكون الفقيه (الخميني) هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. قدم الخميني في تلك الثورة نموذجا للحكم الثيوقراطي، حيث أنه لم يعمل بالنظام الإسلامي الصحيح، الذي يعتمد على الشورى، بل جعل نفسه نائبا عن الحق الإلهي في ابتلاع الدولة بأكملها وتنصيب نفسه سلطة عليا تعلو على أي مساءلة. تغير وجه إيران من دولة علمانية ذات أطماع فارسية تعمل شرطيا لأمريكا في المنطقة، يحكمها صاحب التاج، إلى دولة دينية ذات أطماع فارسية أيضا تتصل بأمريكا يحكمها ذو عمامة، عبر اتجاهين، اتجاه عدائي، واتجاه مصالحي، كان لها أثر كبير في المنطقة العربية، ولذلك حديث آخر، والله غالب على أمرهلكن أكثر الناس لا يعلمون.